{ إلا المودة في القربى } أي لكن أسألكم أن توادوني لقرابتي منكم ، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم فتحفظوني ؛ فالقرابة هنا : قرابة الرحم ، و " في " للسببية بمعنى لام التعليل . أو لكن أسألكم أن تودوا قرابتي وأهل بيتي ، و " في " للظرفية المجازية ؛ أي إلا مودة واقعة في قرابتي . { ومن يقترف حسنة } يكتسب أي حسنة ؛ من القرف وهو الكسب [ آية 113 الأنعام ص 238 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك الذي} ذكر من الجنة، {يبشر الله عباده الذين آمنوا}، يعني صدقوا.
{وعملوا الصالحات}، من الأعمال، {قل لا أسألكم عليه أجرا}، يعني على الإيمان جزاء.
{إلا المودة في القربى}: إلا أن تصلوا قرابتي، وتتبعوني، وتكفوا عني الأذى.
{ومن يقترف حسنة}: ومن يكتسب حسنة واحدة، {نزد له فيها حسنا}، يقول: نضاعف له الحسنة الواحدة، عشرا فصاعدا.
{إن الله غفور} لذنوب هؤلاء، {شكور}، لمحاسنهم القليلة، حين يضاعف الواحدة عشرا فصاعدا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذا الذي أخبرتكم أيها الناس أني أعددته للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة من النعيم والكرامة، البشرى التي يبشر الله عباده الذين آمنوا به في الدنيا، وعملوا بطاعته فيها "قُلْ لا أسألُكمْ عَلَيْهِ أجْرا "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك: لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحقّ الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم ثوابا وجزاءً، وعوضا من أموالكم تعطونَنِيه "إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى"،
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى"؛
فقال بعضهم: معناه: إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا رحمي بيني وبينكم... عن ابن عباس، في قوله: "لا أسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى" قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قرابة، فقال: قُل لا أسألكم عليه أجرا أن تودّوني في القرابة التي بيني وبينكم... فلما كذّبوه وأبَوْا أن يبايعوه قال: «يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونُصرتي منكم»...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لمن تبعك من المؤمنين: لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودّوا قرابتي...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لا أسألكم أيها الناس على ما جئتكم به أجرا إلا أن تَوَدّدوا إلى الله، وتتقرّبوا بالعمل الصالح والطاعة... حدثني عليّ بن داود ومحمد بن داود أخوه أيضا قالا: حدثنا عاصم بن علي، قال: حدثنا قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قُلْ لا أسألُكُمْ على ما أتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ البَيّناتِ وَالهُدَى أجْرا إلاّ أنُ تَوَدّدُوا للّهِ، وتَتَقَرّبُوا إلَيْهِ بطاعَتِهِ»...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا أن تصلوا قرابتكم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معناه: قل لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.
وإنما قلت: هذا التأويل أولى بتأويل الآية لدخول «في» في قوله: "إلاّ المَوَدَةَ فِي القُرْبَى"، ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال: إلا أن تودّوا قرابتي، أو تقربوا إلى الله، لم يكن لدخول «في» في الكلام في هذا الموضع وجه معروف، ولكان التنزيل: إلا مودّة القربى إن عُنِيَ به الأمر بمودّة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلا المودّة بالقُرْبَى، أو ذا القربَى إن عُنِيَ به التودّد والتقرّب. وفي دخول «في» في الكلام أوضح الدليل على أن معناه: إلا مودّتي في قرابتي منكم، وأن الألف واللام في المودّة أدخلتا بدلاً من الإضافة، كما قيل: "فَإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأوَى". وقوله: «إلا» في هذا الموضع استثناء منقطع. ومعنى الكلام: قل لا أسألكم عليه أجرا، لكن أسألكم المودّة في القُربى...
وقوله: "وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنا" يقول تعالى ذكره: ومن يعمل حسنة، وذلك أن يعمل عملاً يطيع الله فيه من المؤمنين "نَزِدْ لَهُ فيها حُسْنا" يقول: نضاعف عمله ذلك الحسن، فنجعل له مكان الواحد عشرا إلى ما شئنا من الجزاء والثواب... الاقْتراف: العمل.
وقوله: "إنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ" يقول: إن الله غفور لذنوب عباده، شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قُلْ -يا محمد- لا أسألكم عليه أجراً، مَنْ بَشَّرَ أحداً بالخير طَلَبَ عليه أجراً، ولكنَّ اللَّهَ -وقد بَشَّرَ المؤمنين على لسان نبيِّه بما لهم من الكرامات الأبدية- لم يطلب عليه أجراً؛ فاللَّهُ – سبحانه -لا يطلب عِوَضاً، وكذلك نبيُّه- صلى الله عليه وسلم -لا يسأل أجراً؛ فإن المؤمنَ قد أخذ من الله خُلُقَاً حَسَناً... فمتى يطلب الرسولُ منهم أجراً؟! وهو- صلوات الله عليه -يشفع لكلِّ مَنْ آمن به، والله- سبحانه -يعطي الثوابَ لكل مَنْ آمن به.
{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}. تضعيف الثواب في الآخرة للواحدِ من عَشَرة إلى سبعمائة... هذه هي الزيادة، ويقال: الزيادة هي زيادة التوفيق في الدنيا. ويقال: إذا أتى زيادة في المجاهدة تفضَّلْنا بزيادة.. وهي تحقيق المشاهدة...
اعلم أن هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه:
الأول: أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصالحات روضات الجنات، والسلطان الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاء، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
الثاني: أنه تعالى قال: {لهم ما يشاءون عند ربهم} وقوله {لهم ما يشاءون} يدخل في باب غير المتناهي؛ لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منه.
الثالث: أنه تعالى قال: {ذلك هو الفضل الكبير} والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق كان في غاية الكبر.
الرابع: أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم فقال: {الذي يبشر الله عباده} وذلك يدل أيضا على غاية العظمة، نسأل الله الفوز بها والوصول إليها...
المسألة الثانية: قوله {إلا المودة في القربى} فيه منصب عظيم للصحابة؛ لأنه تعالى قال: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} فكل من أطاع الله كان مقربا عند الله تعالى فدخل تحت قوله {إلا المودة في القربى}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر محلهم ومآلهم فيه، بين دوامه زيادة في تعظيمه فقال مبتدئاً: {ذلك} أي الأمر العظيم من الجنة ونعيمها، وأخبر عن المبتدأ بقوله: {الذي يبشر} أي مطلق بشارة عند من خفف وبشارة كثيرة عند من ثقل، وزاد البشارة بالاسم الأعظم، فقال لافتاً القول إليه: {الله} أي الملك الأعظم والعائد وهو "به "محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالبشارة وبجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي، وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد مع الإضافة إلى ضميره سبحانه فأفهم حذفه أن الفعل واقع عليه واصل بغير واسطة إليه، فصار كأنه مذكور وظاهر ومنظور فقال:
{عباده} ومن المعلوم أن كل أحد يعظم من اختصه لعبوديته.
ولما أشعر بالإضافة لصلاحهم، نص عليه بقوله: {الذين آمنوا} أي صدقوا بالغيب.
{وعملوا} تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات} وذلك الذي مضى قلبه الذي ينذر به الذين كفروا.
ولما كانت العادة جارية بأن البشير لا بد له من حياء وإن لم يسأل؛ لأن بشارته قائمة مقام السؤال، كان كأنه قيل: ماذا تطلب على هذه البشارة، فأمر بالجواب بقوله: {قل} أي لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين: {لا أسئلكم} أي الآن ولا في مستقبل الزمان {عليه} أي البلاغ بشارة ونذارة {أجراً} أي وإن قل {إلا} أي لكن أسألكم {المودة} أي المحبة العظيمة الواسعة.
ولما كانوا يثابرون على صلة الأرحام وإن بعدت والأنساب لذلك قال: {في القربى} أي مظروفة فيها بحيث يكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها، لا يخرج شيء من محبتكم عنها، فإنها بها يتم أمر الدين ويكمل الاجتماع فيه، فإنكم إذا وصلتم ما بيني وبينكم من الرحم لم تكذبوني بالباطل، ولم تردوا ما جئتكم به من سعادة الدارين، فأفلحتم كل الفلاح ودامت الألفة بيننا حتى نموت ثم ندخل الجنة فتستمر ألفتنا دائماً أبدا، وقد شمل ذلك جميع القرابات ولم يكن بطن من قريش إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وروى البخاري عن سعيد بن جبير: إلا أن تؤدوني في قرابتي أي تبروهم وتحسنوا إليهم...
ولما كان التقدير حتماً: فمن يقترف سيئة فعليه وزرها، ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية مع سابقه، عطف عليه قوله: {ومن يقترف} أي يكسب ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج {حسنة} أي ولو صغرت، وصرف القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنه لا يزيد في الإحسان إلا العظماء، وإلى أن الإحسان قد يكون سبباً لعظمة المحسن فقال: {نزد} على عظمتنا {له فيها حسناً} بما لا يدخل تحت الوهم، ومن الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدي به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، وهذا من أجر الرسل على إبلاغهم إلى الأمم، فهم أغنياء عن طلب غيره -هذا إن اهتدوا به، وإن دعاهم فلم يهتدوا كان له مثل أجورهم لو اهتدوا، فإن عدم اهتدائهم ليس من تقصيره، بل قدر الله وما شاء فعل.
ولما كانوا يقولون: إنا قد ارتكبنا من المساوئ ما لم ينفع معه شيء، قال نافياً لذلك على سبيل التأكيد معللاً مبيناً بصرف القول إلى الاسم الأعظم أن مثل ذلك لا يقدر عليه ملك غيره على الإطلاق: {إن الله} أي الذي لا يتعاظمه شيء {غفور} لكل ذنب تاب منه صاحبه أو كان يقبل الغفران وإن لم يتب منه إن شاء، فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحسنة.
ولما كان إثبات الحسنة فضلاً عن الزيادة عليها لا يصح إلا مع الغفران، ولا يمكن أن يكون مع المناقشة، فذكر ذلك الوصف الذي هو أساس الزيادة، أفادها- أي الزيادة -بقوله: {شكور} فهو يجزي بالحسنة أضعافها ويترك سائر حقوقه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ذلك الذي يبشر الله عباده) فهو بشرى حاضرة، مصداقاً للبشرى السالفة. وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال. وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يقول لهم: إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم. إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجراً...
والمعنى الذي أشرت إليه، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا، إنما تدفعه المودة للقربى -وقد كانت لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] قرابة بكل بطن من بطون قريش- ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى! هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها...
وهناك تفسير مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري: قال البخاري حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سأل عن قوله تعالى: (إلا المودة في القربى) فقال سعيد بن جبير: "قربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة". ويكون المعنى على هذا: إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة. وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه. فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه. وتأويل ابن عباس -رضي الله عنهما- أقرب من تأويل سعيد بن جبير -رضي الله عنه- ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى.. والله أعلم بمراده منا...
(إن الله غفور شكور).. الله يغفر. ثم.. الله يشكر ويشكر من؟ يشكر لعباده. وهو وهبهم التوفيق على الإحسان. ثم هو يزيد لهم في الحسنات، ويغفر لهم السيئات. ويشكر لهم بعد هذا وذاك.. فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته. فضلاً على شكره وتوفيته!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى الآية على ما يقتضيه نظمها: لا أسألكم على القرآن جزاء إلا أن تَوَدُّوني، أي أن تعاملوني معاملة الوِدِّ، أي غير معاملة العداوةِ؛ لأجل القرابة التي بيننا في النسب القرشي...
وما فسر به بعض المفسرين أن المعنى: إلا أن تودّوا أقاربي تلفيق معنى عن فهم غير منظور فيه إلى الأسلوب العربي، ولا تصح فيه رواية عمن يعتد بفهمه.
أمّا كون محبة آل النبي صلى الله عليه وسلم لأجل محبة ما له اتصال به خُلُقاً من أخلاق المسلمين فحاصل من أدلة أخرى، وتحديد حدودها مُفصَّل في « الشفاء» لعياض.
والاستثناء منقطع لأن المودّة لأجل القرابة ليست من الجزاء على تبليغ الدعوة بالقرآن ولكنها مما تقتضيه المروءة فليس استثناؤها من عموم الأجر المنفي استثناء حقيقياً، والمعنى: لا أسألكم على التبليغ أجراً وأسألُكم المودّة لأجل القربى؛ وإنما سألهم المودّة لأن معاملتهم إياه معاملةَ المودّة معِينة على نشر دعوة الإسلام، إذ تَلِين بتلك المعاملة شكيمتهم فيتركون مقاومته فيتمكن من تبليغ دعوة الإسلام على وجه أكمل.
فصارت هذه المودة غرضاً دينياً لا نفع فيه لنفس النبي صلى الله عليه وسلم.
والاقتراف: افتعال من القَرْف، وهو الاكتساب، فالاقتراف مبالغة في الكسب نظيرَ الاكتساب، وليس خاصاً باكتساب السوء وإن كان قد غلب فيه، وأصله من قَرَفَ الشجرةَ، إذا قشر قِرْفَها، بكسر القاف، وهو لِحَاؤها، أي قَشْرُ عودها.
والحسنة: الفَعْلة ذات الحسن صفة مشبهة غلبت في استعمال القرآن والسنة على الطاعة والقربة فصارت بمنزلة الجوامد عَلَماً بالغلبة وهي مشتقة من الحسن وهو جمال الصورة، والحُسن: ضد القبح وهو صفة في الذات تقتضي قبول منظرها في نفوس الرّائين وميلهم إلى مداومة مشاهدتها. وتوصف المعنويات بالحسن فيراد به كون الفعل أو الصفة محمودة عند العقول مرغوباً في الاتصاف بها.
ولما كانت الحسنة مأخوذة من الحُسن جعلت الزيادة فيها من الزيادة في الحسن مراعاة لأصل الاشتقاق، فكان ذكر الحُسْن من الجناس المعبر عنه بجناس الاشتقاق نحو قوله تعالى: {فأقم وجهك للدّين القيم} [الروم: 43]، وصار المعنى نزِد له فيها مماثلاً لها. ويتعين أن الزيادة فيها زيادة من غير عَملِه ولا تكون الزيادة بعمل يعمله غيره؛ لأنها تصير عملاً يستحق الزيادة أيضاً فلا تنتهي الزيادة فتعيّن أن المراد الزيادة في جزاء أمثالها عند الله. وهذا معنى قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشْر أمثالها} [الأنعام: 160]
وجملة {إن الله غفور شكور} تذييل وتعليل للزيادة لقصد تحقيقها بأن الله كثيرة مغفرته لمن يستحقها كثير شكره للمتقربين إليه. والمقصود بالتعليل هو وصف الشكور، وأما وصف الغفور فقد ذكر للإشارة إلى ترغيب المقترفين السيئات في الاستغفار والتوبة ليغفر لهم فلا يقنطوا من رحمة الله.
وقوله { قل لا أسألكم عليه أجرا } أي على تبليغ الرسالة { أجرا إلا المودة في القربى } أي إلا أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي وذلك أنه لم يكن حي من قريش إلا وللنبي ص فيهم قرابة فكأنه يقول إذا لم تؤمنوا بي فاحفظوا قرابتي ولا تؤذوني وقيل معناه إلا أن تتوددوا إلى الله عز وجل بما يقربكم
24 28 منه وقوله { إلا المودة } استثناء ليس من الأول { ومن يقترف } يعمل { حسنة نزد له فيها حسنا } نضاعفها له
قوله تعالى : " ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا " قرئ " يبشر " من بشره ، " ويبشر " من أبشره ، " يبشر " من بشره ، وفيه حذف ، أي يبشر الله به عباده المؤمنين ليتعجلوا السرور ويزدادوا منه وجدا في الطاعة .
الأولى- قوله تعالى : " قل لا أسألكم عليه عليه أجرا " أي قل يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة جعلا . " إلا المودة في القربى " قال الزجاج : " إلا المودة " استثناء ليس من الأول ، أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني . والخطاب لقريش خاصة . قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم . قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها ، فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش ، فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال الله له : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " إلا أن تودوني في قرابتي منكم ، أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني . ف " القربى " ها هنا قرابة الرحم ، كأنه قال : اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة . قال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعته ؛ فقال : ( صلوني كما كنتم تفعلون ) . فالمعنى على هذا : قل لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي ، على استثناء ليس من الأول . ذكره النحاس . وفي البخاري عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : " إلا المودة في القربى " فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد ، فقال ابن عباس : عجلت ! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بينكم من القرابة . فهذا قول . وقيل : القربى قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أي لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي ، كما أمر بإعظامهم ذوي القربى . وهذا قول علي بن حسين وعمرو بن شعيب والسدي . وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما أنزل الله عز وجل : " قل لا أسالكم عيه أجرا إلا المودة في القربي " قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين نودهم ؟ قال : ( علي وفاطمة وأبناؤهما ) . ويدل عليه أيضا ما روي عن علي رضي الله عنه قال : شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي . فقال : ( أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذريتنا خلف أزواجنا ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : ( حرمت الجنة على من ظلم أهل وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة ) . وقال الحسن وقتادة : المعنى إلا أن يتوددوا إلى الله عز وجل ويتقربوا إليه بطاعته . ف " القربى " على هذا بمعنى القربة . يقال : قربة وقربى بمعنى ، كالزلفة والزلفى . وروى قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل لا أسألكم على ما آتيتكم به أجرا إلا أن توادوا وتقربوا إليه بالطاعة ) . وروى منصور وعوف عن الحسن " قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قال : يتوددون إلى الله عز وجل ويتقربون منه بطاعته . وقال قوم : الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة ، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، وأمرهم الله بمودة نبيه صلى الله عليه وسلم وصلة رحمه ، فلما هاجر آوته الأنصار ونصروه ، وأراد الله أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء حيث قالوا : " وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين " {[13497]} [ الشعراء : 109 ] فأنزل الله تعالى : " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله " {[13498]} [ سبأ : 47 ] فنسخت بهذه الآية وبقوله : " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " {[13499]} [ ص : 86 ] ، وقوله . " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير " {[13500]} [ المؤمنون : 72 ] ، وقوله : " أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون " {[13501]} [ الطور : 40 ] قاله الضحاك والحسين بن الفضل . ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس . قال الثعلبي : وليس بالقوي ، وكفى قبحا بقول من يقول : إن التقرب إلى الله بطاعته ومودة نبيه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته منسوخ ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من مات على حب آل محمد مات شهيدا . ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار قبره الملائكة والرحمة . ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه أيس اليوم من رحمة الله . ومن مات على بغض آل محمد لم يرح{[13502]} رائحة الجنة . ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي ) .
قلت : وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا فقال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان . ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير . ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له قبره بابان إلى الجنة . ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة . ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة . ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله . ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا . ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ) . قال النحاس : ومذهب عكرمة ليست بمنسوخة . قال : كانوا يصلون أرحامهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعوه فقال : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني وتحفظوني لقرابتي ولا تكذبوني ) .
قلت : وهذا هو معنى قول ابن عباس في البخاري والشعبي عنه بعينه ، وعليه لا نسخ . قال النحاس : وقول الحسن حسن ، ويدل على صحته الحديث المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي قال أخبرنا أسد بن موسى قال حدثنا قزعة - وهو ابن يزيد البصري{[13503]} - قال حدثنا عبدالله بن أبي نجيع عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا أسألكم على ما أنبئكم به من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله عز وجل وأن تتقربوا إليه بطاعته ) . فهذا المبين عن الله عز وجل قد قال هذا ، وكذا قالت الأنبياء صلى الله عليه وسلم قبله : " إن أجري إلا على الله " [ سبأ : 47 ] .
الثانية- واختلفوا في سبب نزولها ، فقال ابن عباس : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه ، فقالت الأنصار : إن هذا الرجل هداكم الله به وهو ابن أخيكم ، وتنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه فنجمع له ففعلوا ، ثم أتوه به فنزلت . وقال الحسن : نزلت حين تفاخرت الأنصار والمهاجرون ، فقالت الأنصار نحن فعلنا ، وفخرت المهاجرون بقرابتهم من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم . روى مقسم عن ابن عباس قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فخطب فقال للأنصار : ( ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله بي . ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي . ألم تكونوا خائفين فأمنكم الله بي ألا تردون علي ) ؟ فقالوا : به نجيبك ؟ قال . ( تقولون ألم يطردك قومك فآويناك . ألم يكذبك قومك فصدقناك . . . ) فعدد عليهم . قال فجثوا على ركبهم فقالوا : أنفسنا وأموالنا لك . فنزلت : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " وقال قتادة : قال المشركون لعل محمد فيما يتعاطاه يطلب أجرا ، فنزلت هذه الآية ؛ ليحثهم على مودته ومودة أقربائه . قال الثعلبي : وهذا أشبه بالآية ، لأن السورة مكية .
قوله تعالى : " ومن يقترف حسنة " أي : يكتسب . وأصل القرف الكسب ، يقال : فلان يقرف لعياله ، أي يكسب . والاقتراف الاكتساب ، وهو مأخوذ من قولهم رجل قرفة ، إذا كان محتالا . وقد مضى في " الأنعام " {[13504]} القول فيه . وقال ابن عباس : " ومن يقترف حسنة " قال المودة لآل محمد صلى الله عليه وسلم . " نزد له فيها حسنا " أي نضاعف له الحسنة بعشر فصاعدا . " إن الله غفور شكور " قال قتادة : " غفور " للذنوب " شكور " للحسنات . وقال السدي : " غفور " لذنوب آل محمد عليه السلام ، " شكور " لحسناتهم .
ولما ذكر محلهم ومآلهم فيه ، بين دوامه زيادة في تعظيمه فقال مبتدئاً : { ذلك } أي الأمر العظيم من الجنة ونعيمها ، وأخبر عن المبتدأ بقوله : { الذي يبشر } أي مطلق بشارة عند من خفف وبشارة كثيرة عند من ثقل ، وزاد البشارة بالاسم الأعظم ، فقال لافتاً القول إليه : { الله } أي الملك الأعظم والعائد وهو " به " محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالبشارة وبجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي ، وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد مع الإضافة إلى ضميره سبحانه فأفهم حذفه أن الفعل واقع عليه واصل بغير واسطة إليه ، فصار كأنه مذكور وظاهر ومنظور فقال : { عباده } ومن المعلوم أن كل أحد يعظم من اختصه لعبوديته .
ولما أشعر بالإضافة لصلاحهم ، نص عليه بقوله : { الذين آمنوا } أي صدقوا بالغيب { وعملوا } تحقيقاً لإيمانهم { الصالحات } وذلك الذي مضى قلبه الذي ينذر به الذين كفروا . ولما كانت العادة جارية بأن البشير لا بد له من حياء وإن لم يسأل لأن بشارته قائمة مقام السؤال ، قال كعب بن مالك رضي الله عنه : لما أذن الله بتوبته علينا ركض نحوي راكض على فرس وسعى ساع على رجليه ، فأوفى على جبل يبلع ونادى : يا كعب بن مالك أبشر ، فقد تاب الله عليك ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته خلعت له ثوبي ، فدفعتهما إليه ، والله ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما - إلى آخر حديثه ، كان كأنه قيل : ماذا تطلب على هذه البشارة ، فأمر بالجواب بقوله : { قل } أي لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين : { لا أسئلكم } أي الآن ولا في مستقبل الزمان { عليه } أي البلاغ بشارة ونذارة { أجراً } أي وإن قل { إلا } أي لكن أسألكم { المودة } أي المحبة العظيمة الواسعة .
ولما كانوا يثابرون على صلة الأرحام وإن بعدت والأنساب لذلك قال : { في القربى } أي مظروفة فيها بحيث يكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها ، لا يخرج شيء من محبتكم عنها ، فإنها بها يتم أمر الدين ويكمل الاجتماع فيه ، فإنكم إذا وصلتم ما بيني وبينكم من الرحم لم تكذبوني بالباطل ، ولم تردوا ما جئتكم به من سعادة الدارين ، فأفلحتم كل الفلاح ودامت الألفة بيننا حتى نموت ثم ندخل الجنة فتستمر ألفتنا دائماً أبدا وقد شمل ذلك جميع القرابات ولم يكن بطن من قريش إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة ، رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، وروى البخاري عن سعيد بن جبير : إلا أن تؤدوني في قرابتي أي تبروهم وتحسنوا إليهم ، قال ابن كثير : وقال السدي : لما جيء بعلي بن الحسين أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة ، فقال له علي : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم قال : ما قرأت { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } قال : وإنكم لأنتم هم ، قال : نعم .
وعن العباس رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباَ شديداً وقال : " والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله " ، وعنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث ، فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ، ثم قال : " والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي " وعبر في المنقطع بأداة الاستثناء إعراقاً في النفي بالإعلام بأنه لا يستثني أجر أصلاً إلا هذه المودة إن قدر أحد أنها تكون أجراً ، ويجوز أن تكون " إلا " بمعنى " غير " فيكون من باب :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فمن كان بينه وبين أحد من المسلمين قرابة فهو مسؤول أن يراقب الله في قرابته تلك ، فيصل صاحبها بكل ما تصل قدرته إليه من جميع ما أمره الله به من ثواب أو عقاب ، فكيف بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي ذر رضي الله عنه : " مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلف عنها هلك " وقال فيما رواه في الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أصحابي بمنزلة النجوم في السماء بأيهم اقتديتم اهتديتم " قال الأصبهاني : ونحن الآن في بحر التكليف محتاجون إلى السفينة الصحيحة والنجوم الزاهرة ، فالسفينة حب الآل ، والنجوم حب الصحب ، فنرجو من الله السلامة والسعادة بحبهم في الدنيا والآخرة - والله أعلم .
ولما كان التقدير حتماً : فمن يقترف سيئة فعليه وزرها ، ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية مع سابقه ، عطف عليه قوله : { ومن يقترف } أي يكسب ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج { حسنة } أي ولو صغرت ، وصرف القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنه لا يزيد في الإحسان إلا العظماء ، وإلى أن الإحسان قد يكون سبباً لعظمة المحسن فقال : { نزد } على عظمتنا { له فيها حسناً } بما لا يدخل تحت الوهم ، ومن الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدي به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً ، وهذا من أجر الرسل على إبلاغهم إلى الأمم ، فهم أغنياء عن طلب غيره - هذا إن اهتدوا به ، وإن دعاهم فلم يهتدوا كان له مثل أجورهم لو اهتدوا ، فإن عدم اهتدائهم ليس من تقصيره ، بل قدر الله وما شاء فعل .
ولما كانوا يقولون : إنا قد ارتكبنا من المساوىء ما لم ينفع معه شيء ، قال نافياً لذلك على سبيل التأكيد معللاً مبيناً بصرف القول إلى الاسم الأعظم أن مثل ذلك لا يقدر عليه ملك غيره على الإطلاق : { إن الله } أي الذي لا يتعاظمه شيء { غفور } لكل ذنب تاب منه صاحبه أو كان يقبل الغفران وإن لم يتب منه إن شاء ، فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحسنة .
ولما كان إثبات الحسنة فضلاً عن الزياة عليها لا يصح إلا مع الغفران ، ولا يمكن أن يكون مع المناقشة ، فذكر ذلك الوصف الذي هو أساس الزيادة ، أفادها - أي الزيادة - بقوله : { شكور * } فهو يجزي بالحسنة أضعافها ويترك سائر حقوقه .