{ سبع سموات طباقا } أي بعضها فوق بعض . مصدر طابق مطابقة وطباقا ؛ من طابق النعل : أي جعله طبقة فوق أخرى . وصف به للمبالغة ، أو بتقدير مضاف ، أي ذات طباق . قال البقاعي : حيث يكون كل جزء منها مطابقا للجزء من الأخرى ، ولا يكون جزء منها خارجا عن ذلك . وهي لا تكون كذلك إلا أن تكون الأرض كرية ، والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب ، والسماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا ، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطا بالكل ، والكرسي الذي هو أقربها بالنسبة إليه كحلقة في فلاة ؛ فما ظنك بما تحته ! وكل سماء من التي فوقها بهذه النسبة . وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك ، وليس في الشرع ما يخالفه ، بل ظاهره يوافقه . اه .
{ ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت } ما ترى في خلق السموات السبع ، شيئا من الاختلاف وعدم التناسب ، فلا عيب ولا نقص ، ولا اعوجاج ولا اضطراب في شيء منها . بل كلها محكمة جارية على مقتضى الحكمة . يقال : تفاوت الشيئان تفاوتا ، تباعد ما بينهما ؛ من الفوت ، وأصله الفرجة بين أصبعين . والجملة صفة لسبع سموات . { فارجع البصر } أي إن كنت في شك من ذلك ، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر ، ولا يبقى عندك شبهة فيه . { هل ترى من فطور } أي خلل ووهن . وأصل معنى الفطور : الشقوق والصدوع ؛ جمع فطر . يقال : فطره فانفطر . وتفطر الشيء تشقق ؛ وبابه نصر أريد منه ما ذكرنا لعلاقة اللزوم .
طباقا : يشبه بعضها بعضا في الإتقان .
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت : لا ترى فيما خلق الله من اختلاف وعدم تناسب وإتقان صنعة .
هل ترى من فُطور : هل ترى من نقصٍ أو شقوق .
ثم بيّن الله تعالى أنه أبدعَ سبع سمواتٍ طباقاً ، يطابق بعضُها بعضا في دِقّة الصَّنعةِ والإتقان . والعددُ سبعة لا يفيد الحَصر ، بل يجوز أن يكون هنا أكثر بكثير ، ولكنّ القرآن يجري على مفهوم لغةِ العرب . . فإن هذا الكونَ العجيبَ فيه مَجَرّات لا حصر لها وكل مجرّةٍ فيها ملايين النجوم .
والسماءُ كل ما علانا فأظلَّنا ، والصورةُ التي يراها سكانُ الأرض في الليالي الصافية هي القبّة الزرقاءُ تزيّنها النجومُ والكواكب كأنها مصابيحُ ، كما تُرى الشهبُ تهوي محترقةً في أعالي جوّ الأرض .
ما تَرى أيها الإنسان ، في صُنع اللهِ أيَّ تفاوت .
{ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } .
أعِد النظرَ في هذا الكون العجيب الصنع ، وفي هذه السماء . . هل تجد أي خلل ؟
قرأ حمزة والكسائي : ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت بتشديد الواو بلا ألف . والباقون : من تفاوت .
{ طباقا } : أي طبقة فوق طبقة وهي السبع الطباق ولا تماس بينها .
{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } : أي من تباين وعدم تناسب .
{ هل ترى من فطور } : أي مرتين مرة بعد مرة .
وقوله { الذي خلق سبع سماوات طباقاً } هذا ثناء بعظيم القدرة وسعة العلم والحكمة خلق سبع سموات طباقاً سماء فوق سماء مطابقة لها ولكن من غير مماسة إذ ما بين كل سماء وأخرى هواء وفراغ مسيرة خمسمائة عام فالمطابقة المعادلة والمساواة في الجرم لا بوضع سماء على الأخرى كغطاء القدر مثلاً .
وقوله { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أي من اختلاف أو تضاد وتباين والسماء فوقك فإنك لا تجد إلا الاتساق والانتظام لا تصدع ولا انفطار وإن شئت فارجع البصر وانظر هل ترى من فطور أي إنك لا ترى ذلك .
ولما أثبت له سبحانه صفتي العز والغفر{[66693]} على أبلغ ما يكون ، دل على ذلك بقوله دالاً على كمال تفرده بعد آيات الأنفس ، بآيات الآفاق إرشاداً إلى معالي الأخلاق : { الذي خلق } أي أبدع على{[66694]} هذا التقدير من غير مثال سبق { سبع سماوات } حال كونها { طباقاً } جمع طبق كل واحدة منها كأنها لشدة مطابقتها للأخرى طالبة مطابقتها بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ، ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك{[66695]} وهي لا تكون كذلك إلا بأن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب ، والثانية محيطة بالدنيا و{[66696]}هكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكل ، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة ، فما ظنك بما تحته ، وكل سماه في التي فوقها بهذه النسبة ، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك ، وليس في الشرع ما يخالفه ، بل ظواهره توافقه ، ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة{[66697]} في فلاة كما مضى بسط ذلك في سورة السجدة ، وأحاط سبحانه بالأرض منافعها من جميع الجوانب ، وجعل المركز بحيث يجذب إليه الأسفل ، فكيفما مشى الحيوان في{[66698]} جوانبها اقتضى المركز أن تكون رجلاه إلى الأرض ورأسه إلى السماء لتكون السماء في رأيه دائماً أعلى ، والأرض أسفل في أي جانب كان هو عليها ، فسبحان اللطيف الخبير ، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأه {[66699]}فيها لنا{[66700]} من المنافع ، آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد ، فانقطع{[66701]} باللجاء إليه ولم يعول{[66702]} إلا عليه في كل {[66703]}دفع ونفع{[66704]} ، وسارع في مراضيه{[66705]} ومحابه في كل خفض ورفع .
ولما كان ذلك{[66706]} في حد ذاته خارجاً عن طوق المخلوق ، وكان سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما{[66707]} بين كل سمائين كذلك ، مع عدم الفروج والعمد والأطناب ، {[66708]}فكان ذلك{[66709]} النهاية في الخروج عن العادة في حد ذاته ولأنه قيل : إن القبة إذا بنيت بلا فروج ولا شيء يدخل{[66710]} الهواء منه تفسد وتسقط ، دل على عزته بعظيم صنعه في ذلك بقوله واصفاً لها : { ما ترى في } وكان الأصل : خلقها ، ولكنه{[66711]} دل على عزته وعموم عظمته بقوله : { خلق الرحمن } أي لها ولغيرها ولولا{[66712]} رحمته وعموم عظمته{[66713]} التي اقتضت إكرامه لخلقه بعد غفرانه لما لهم من النقائص ، ما أحسن إليهم بها{[66714]} في اتساعها{[66715]} وزينتها وما فيها من المنافع . وأعرق في النفي بقوله : { من تفاوت } بين صغير{[66716]} ذلك الخلق وكبيره بالنسبة إلى الخالق في إيجاده له على حد سواء ، إنما قوله له{[66717]} إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فلا فرق{[66718]} في ذلك بين الذرة مثلاً والغرس ، ولا بالنسبة إلى الخالق من عجز صغيرهم وكبيرهم عن إيجاد شيء من العدم صغيراً كان أو كبيراً جليلاً كان أو حقيراً . ولا ترى تفاوتاً في الخلق بأن {[66719]}يكون شيء منه{[66720]} فائتاً للآخر{[66721]} بالمخالفة والاضطراب والتناقض في الخلقة غير مناسب له بأن يكون خارجاً عنه أو منافراً له في مقتضى الحكمة ، وآثار الإحسان في الصنعة ، والنزول عن الإتقان والاتساق ، والخروج عن الإحكام والاتفاق ، والدلالة للخالق على كمال القدرة وللمخلوق على الحدوث بنوع من ضعف البنية بحيث يكون كل{[66722]} واحد كالطالب لأن يخالف الآخر ، أو تعمد لأن يفوت الآخر ويخالفه - على قراءة حذف الألف والتشديد بحيث يكون التفاضل{[66723]} في المزدوجات وعدم المساواة كأنه مقصود بالذات وبالقصد الأول ، بل لا توجد المخالفة إلا نادراً بحيث يعلم أن المشاكلة هي المقصود بالذات {[66724]}وبالقصد الأول ، فإذا وقع في شيء منه مخالفة كان على وجه الندور ليعلم أنه ليس مقصوداً بالذات{[66725]} ، وإنما أريد به الدلالة على الاختيار ، وأن الفاعل هو القادر المختار لا الطبيعة ، قال الرازي : كأن التفاوت الشيء المختلف لأعلى النظام ، وقال{[66726]} البغوي : من اعوجاج واختلاف وتناقض ، وقال غيره : عدم{[66727]} التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه ، وهو من الفوت وهو أن يفوت بعضها بعضاً لقلة استوائها ، وقال أبو حيان{[66728]} : والتفاوت {[66729]}تجاوز الحد{[66730]} الذي يجب له زيادة أو نقصان - انتهى .
يظهر ذلك بأن أغلب{[66731]} الخلق أجوف ، والأجوف يعمل مبسوطاً ثم يضم ويوصل أحد جانبيه بالآخر فيكون ثم نوع فطر{[66732]} يعرفه أهل الحذق وإن اجتهد صانعه في إخفائه ، وإن كان فيه أشياء متقابلة كان فيها تفاوت ولو قل وإن اجتهد الصانع في المساواة ، وخلق الله لا تفاوت فيه بوجه ، فالسماوات كرية ولا ترى {[66733]}في جانب منها{[66734]} شقاً ولا فطراً ظاهراً ولا خفياً ، والحيوان أجوف{[66735]} ولا ترى في شيء من جسده فصماً يكون الضم والتجويف وقع به وكل من متقابليه مساو للأخر ، كالعينين والأذنين والمنخرين والساقين ونحوها مما يقصد فيه التساوي لا تفاوت فيه أصلاً - إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن ضبطه ، فسبحان من لا تتناهى قدرته فلا تتناهى مقدوراته ، ولا تحصى بوجه معلوماته ، وكل ذلك عليه هين ، والأمر في ذلك واضح بين ، هذا{[66736]} مع الاتساع الذي لا يدرك مقداره بأكثر من أن{[66737]} كل سماء بالنسبة إلى التي فوقها كحلقة ملقاة في فلاة إلى أن يوصل إلى الكرسي ثم العرش العظيم ، ومن سر كونها كذلك حصول النفع بكل ما فيها من كواكب{[66738]} مرطبة أو ميبسة أو منورة ، واتصالات ممطرة ومثبتة يجري كل ذلك منها على ترتيب مطرد ، ونظام غير منخرم مقدر جريه بالقسط مرتب{[66739]} على منافع الوجود ومصالح الكائنات ، كلها مكفوفة على هواء لطيف بتدبير شريف{[66740]} : لا يتعدى شيء منها طوره ولا يتخطى حده ، ولا يرسب فيها تحته من الهواء فيهوي ، ولا يرتفع عن محله بمقدار ذرة فيطفو ، قد أحاط بكلها الأمر{[66741]} ، وضبطها صاغرة القهر .
ولما كان العلم الناشىء عن الحسن أجل{[66742]} العلوم ، دل على بديع ما ذكره بمشاهدة الحس له كذلك ، فسبب عنه قوله منبهاً بالرجع الذي هو تكرير الرجوع على أن كل أحد يشاهد ذلك كذلك من حين يعقل إلى أن يبلغ حد التكليف المقتضي للمخاطبة بهذا الكلام{[66743]} : { فارجع البصر } أي بعد ترديدك له قبل ذلك ، ودل بتوجيه{[66744]} الخطاب نحو أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم في السمع والبصر والبصيرة وكل معنى إلى أن ذلك لا شبهة فيه .
ولما كان السؤال عن{[66745]} الشيء يدل على شدة الاهتمام بالبحث عنه ، نبه{[66746]} على أن هذا{[66747]} مما اشتدت عناية الأولين به فقال : { هل ترى } أي في شيء منها .
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي ، أعرق في النفي{[66748]} بقوله : { من فطور * } أي خلل بشقوق وصدوع أو غيرها لتغاير ما هي{[66749]} عليه وأخبرت به من تناسبها و{[66750]}استجماعها واستقامتها{[66751]} ما يحق لها مما يدل على عزة ما فيها وبليغ غفرانه ، وهذا أيضاً يدل على إحاطة كل{[66752]} منها بما دونه ، فإنه لو كان لها{[66753]} فروج لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها{[66754]} أو بعضها أو كمالها ، فالهواء وجميع المنافع منحبسة{[66755]} فيها محوطة بها{[66756]} مضطربة متصرفة{[66757]} فيها على حسب التدبير ، والحيوان في الهواء كالسمك في الماء ، لو انحبس الهواء عنه لمات كما أنه لو انكشف الماء عن السمك لمات{[66758]} .