{ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . . . } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة . وكان من المهاجرين وممن شهد بدرا ، وكان له في مكة قرابة قريبة ، وليس له في قريش نسب ؛ إذ هو مولى . فأرسل كتابا إلى أناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عيه وسلم في شأن غزوهم ؛ ليتخذ عندهم يدا فيحموا بها أقاربهم – مع مولاة تسمى سارة . فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان منه ؛ فأرسل في أثرها عليا – كرم الله وجهه – ومعه آخرون فأحضروا الكتاب ، واعتذر حاطب ؛ وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره . نهى الله تعالى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم ، وفسرها بقوله تعالى : " تلقون إليهم بالمودة " أي ترسلون إليهم أخباره صلى الله عليه وسلم بسبب ما بينكم وبينهم من المودة ، وبقوله : " تسرون إليهم بالمودة " . والحكم عام ولا عبرة بخصوص السبب . وقد ورد النهي عن موالاتهم ، واتخاذهم بطانة ووليجة من دون المؤمنين في غير آية ، وبينت حكمة النهي في هذه الآية وفي غيرها بما يشهد به الواقع . { أن تؤمنوا بالله ربكم } أي لأجل إيمانكم بربكم ؛ فهو العلة لإخراج الرسول والمؤمنين من مكة ، وهو العلة دائما في كراهة الكفار للمسلمين . { ومن يفعله منكم . . . } أي ومن يتخذهم منكم أولياء فقد أخطأ طريق الحق والصواب .
سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة ، نزلت بعد سورة الأحزاب . وهي من السور المدنية التي تعالج التنظيم الاجتماعي والتربية الإيمانية ، وبناء الدولة الحديثة في المجتمع المدني ، لإقامة مجتمع رباني خالص ، محوره الإيمان بالله وحده . ويشدّ المسلمين إلى هذا المحور عروة واحدة لا انفصام لها ، تنقي نفوسهم من كل شائبة وعصبية ، سواء أكانت للقوام أو للجنس أو للأرض ، أو للعشيرة أو للقرابة ، وليجعل الله في مكانها عقيدة واحدة ، هي عقيدة التوحيد ، تحت راية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث " أن سارة ، مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف ، وكانت مغنيّة ونائحة بمكة ، أتت المدينة تشكو الحاجة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمهاجرة أنتِ يا سارة ؟ فقالت لا . قال : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهب الموالي- تعني قُتلوا يوم بدر-وقد احتجت حاجة شديدة حاجة شديدة فقدِمت عليكم لتعطوني وتكسوني . فقال عليه الصلاة والسلام : فأين أنتِ من شباب أهل مكة ؟ وكانت مغنية ، قالت : ما طُلب مني شيء بعد وقعة بدر . فحث رسول الله بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة . وكان الرسول يتأهب للخروج إلى غزو مكة . فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ( وكان رجلا من أهل اليمن ) ، له حلف بمكة في بني أسد بن عبد العزى ، رهط الزبير بن العوام . فقال لها : أعطيك عشرة دنانير وبُردا على أن تبلغني هذا الكتاب إلى أهل مكة . . يخبرهم فيه أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم .
فقال علي بن أبي طالب راوي الحديث : بعثنا رسول الله أنا والزبير والمقداد ، وفي رواية وأبا مرثد الغنوي ، وعمار بن ياسر ، فقال لهم : ائتوا روضة خاخ-وهي موضع بين مكة والمدينة-فإن بها امرأة في هودج معها كتاب فخذوه منها .
فانطلقنا تجري بنا خيلنا ، فإذا نحن بالمرأة . فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب . فقلنا : لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الثياب . فأخرجته من عقاصها . فأتينا به رسول الله فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله . فقال رسول الله : يا حاطب ما هذا ؟ قال :
لا تعجلْ عليّ يا رسول الله ، إني كنت امرءا ملصَقا في قريش ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال : إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } .
وسميت السورة { الممتحنة } بكسر الحاء يعني المختبرة ، لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } .
ومن قال في هذه السورة : { الممتحنة } بفتح الحاء ، فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط لقوله تعالى : { فامتحنوهنّ ، الله أعلم بإيمانهن } وسيأتي تفصيل عنها .
وقد بدأت السورة بنهي المؤمنين عن موالاة المشركين أعداء الله وأعدائهم ، لإصرارهم على الكفر ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من ديارهم بمكة ، وأشارت إلى أن عداوة هؤلاء عداوة دائمة للمؤمنين .
ثم انتقلت إلى بيان الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معهم في تبرّئهم من المشركين ، ثم بينت من تجوز صلتهم من غير المسلمين ومن لا تجوز ، فأما الذين لا يقاتلوننا في الدين ولا يعينون علينا فإن لنا أن نبرّهم ونقسط إليهم ، وأما غيرهم من الذين قاتلونا وظاهروا على إخراج المؤمنين فأولئك نهى الله عن برّهم والصلة بهم .
ثم بينت حكم المؤمنات اللاتي هاجرن إلى دار الإسلام أن يمتحنهنّ المسلمون ، فإن تبيّن صدقهن فلا يجوز إعادتهن إلى المشركين . ثم ذكرت بيان بيعة النساء ، وما بايعن عليه الرسول الكريم . ثم خُتمت السورة بالنهي عن موالاة الأعداء الذين غضب الله عليهم ، كما بدأت به { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .
تلقون إليهم بالمودَة : تودونهم وتخبرونهم بأخبارنا .
يُخرجون الرسولَ وإياكم : من مكة .
أن تؤمنوا بالله : من أجل إيمانكم بالله .
سواء السبيل : الطريق القويم المستقيم .
تقدم الكلامُ عن سبب نزول هذه الآيات ، في الصحابيّ حاطب بن أبي بلتعة ، وهو صحابي من المهاجرين الذين جاهدوا في بدرٍ ( وهؤلاء لهم ميزة خاصة ) وأنه كتب إلى قريش يحذّرهم من غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة مع امرأة ، وأن الرسول الكريم كشف أمره ، وأرسل سيدنا علي بن أبي طالب مع عددٍ من الصحابة الكرام وأخذوا الكتاب من المرأة . وقد اعترف حاطب بذنبه ، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام : واللهِ ما كفرتُ منذ أسلمت ، ولا غششتُ منذ آمنت ، لكنّي كتبت إلى قريش حمايةً لأهلي من شرهم ، لأني لست قرشياً
ولا يوجد لي عشيرةٌ تحميهم . فعفا عنه وقبل عذره . والآية عامة في كل من يصانع العدوَّ أو يُطْلعه على أسرار المسلمين ، أو يتعاون معه .
ومعناها : يا أيها الذين آمنوا ، لا تصادِقوا الأعداء ، فلا تتخذوا أعداء الله وأعداءَكم أنصارا .
{ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } تعطونهم المحبة الخالصة ، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله ، وقد أخرجوا رسول الله وأخرجوكم من دياركم { أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } لأنكم آمنتم بالله ربكم . فإن كنتم خرجتُم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلبِ رضاي فلا تُسِرّوا إليهم بالمحبة ، أو تسرِّبوا إليهم الأخبار ، وأنا أعلمُ بما أَسررتم وما أعلنتم .
{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل }ومن يتخذْ أعداءَ الله أولياءَ وأنصاراً فقد انحرف وضل عن الطريق المستقيم .
مدنية في قول الجميع ، وهي ثلاث عشرة آية ز
الممتحنة ( بكسر الحاء ) أي المختبرة ، أضيف الفعل إليها مجازا ، كما سميت سورة " التوبة " المبعثرة والفاضحة ؛ لما كشفت من عيوب المنافقين . ومن قال في هذه السورة : الممتحنة ( بفتح الحاء ) فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، قال الله تعالى : { فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } [ الممتحنة : 10 ] الآية{[1]} . وهي امرأة عبدالرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبدالرحمن .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } عدَّى اتخذ إلى مفعولين وهما { عدوكم أولياء } . والعدو فعول من عدا ، كعفو من عفا . ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد .
الأولى- قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم } ، روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن علي رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : ( ائتوا روضة خاخ{[14888]} فإن بها ظعينة{[14889]} معها كتاب فخذوه منها ) فانطلقنا تعادى{[14890]} بنا خيلنا ، فإذا نحن بالمرأة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها . فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا حاطب ما هذا ؟ قال لا تعجل علي يا رسول الله ، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش قال سفيان : كان حليفا لهم ، ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( صدق ) . فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال : ( إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " . قيل : اسم المرأة سارة من موالي قريش . وكان في الكتاب : " أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ، وأنجز له موعده فيكم ، فإن الله وليه وناصره . ذكره بعض المفسرين .
وذكر القشيري والثعلبي : أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن ، وكان له حلف بمكة في بني أسد بن عبدالعزى رهط الزبير بن العوام ، وقيل : كان حليفا للزبير بن العوام ، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة . وقيل : كان هذا في زمن الحديبية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمهاجرة جئت يا سارة ) . فقالت : لا . قال : ( أمسلمة جئت ) قالت : لا . قال : ( فما جاء بك ) قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهب الموالي - تعني قتلوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فأين أنت عن شباب أهل مكة ) وكانت مغنية ، قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر . فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبدالمطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة ، وأتاها حاطب فقال : أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة . وكتب في الكتاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم . فخرجت سارة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي . وفي رواية : عليا والزبير والمقداد . وفي رواية : أرسل عليا وعمار بن ياسر . وفي رواية : عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد - وكانوا كلهم فرسانا - وقال لهم : ( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فان لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها ) فأدركوها في ذلك المكان ، فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت ما معها كتاب ، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا ، فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كَذَبَنا ولا كَذَّبْنا ! وسل سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنك ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها - وفي رواية من حجزتها{[14891]} - فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل إلى حاطب فقال : ( هل تعرف الكتاب ؟ ) قال نعم . وذكر الحديث بنحو ما تقدم . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم .
الثانية- السورة أصل في النهي عن مولاة الكفار . وقد مضى ذلك في غير موضع{[14892]} . من ذلك قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] . { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] . { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } [ المائدة : 51 ] ومثله كثير . وذكر أن حاطبا لما سمع { يا أيها الذين آمنوا } غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان .
الثالثة- قوله تعالى : { تلقون إليهم بالمودة } يعني بالظاهر ؛ لأن قلب حاطب كان سليما ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : ( أما صاحبكم فقد صدق ) وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده . والباء في " بالمودة " زائدة ، كما تقول : قرأت السورة وقرأت بالسورة ، ورميت إليه ما في نفسي وبما في نفسي . ويجوز أن تكون ثابتة على أن مفعول " تلقون " محذوف ، معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم . وكذلك { تسرون إليهم بالمودة } أي بسبب المودة . وقال الفراء : { تلقون إليهم بالمودة } من صلة " أولياء " ودخول الباء في المودة وخروجها سواء . ويجوز أن تتعلق ب " لا تتخذوا " حالا من ضميره . و " أولياء " صفة له ، ويجوز أن تكون استئنافا .
ومعنى { تلقون إليهم بالمودة } تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم ، وقاله الزجاج .
الرابعة- من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين .
الخامسة- إذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا أم لا ؟ اختلف الناس فيه ، فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد في ذلك الإمام . وقال عبدالملك : إذا كانت عادته تلك قتل ؛ لأنه جاسوس ، وقد قال مالك بقتل الجاسوس - وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض . ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا ؛ لأن حاطبا أخذ في أول فعله . والله أعلم .
السادسة- فإن كان الجاسوس كافرا فقال الأوزاعي : يكون نقضا لعهده . وقال أصبغ : الجاسوس الحربي يقتل ، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان . وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان ، فأمر به أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فخلى سبيله . ثم قال : ( إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان ) .
وقوله : { وقد كفروا } حال ، إما من { لا تتخذوا } وإما من { تلقون } أي لا تتولوهم أو توادوهم ، وهذه حالهم . وقرأ الجحدري { لما جاءكم } أي كفروا لأجل ما جاءكم من الحق .
السابعة- قوله تعالى : { يخرجون الرسول } استئناف كلام كالتفسير لكفرهم وعتوهم ، أو حال من { كفروا } . { وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } تعليل ل { يخرجون } المعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة ؛ لأن تؤمنوا بالله أي لأجل إيمانكم بالله . قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي . وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تلقوا إليهم بالمودة . وقيل : { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } شرط وجوابه مقدم ، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . ونصب " جهادا " و " ابتغاء " لأنه مفعول . وقوله : { تسرون إليهم بالمودة } بدل من " تلقون " ومبين عنه ، والأفعال تبدل من الأفعال ، كما قال تعالى : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب{[14893]} } [ الفرقان : 68 ] . وأنشد سيبويه :
متى تأتِنَا تُلْمِمْ بنا في ديارنا *** تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجَا
وقيل : هو على تقدير أنتم تسرون إليهم بالمودة ، فيكون استئنافا . وهذا كله معاتبة لحاطب . وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه ، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه{[14894]} . كما قال :
أعاتب ذا المودة من صديقٍ *** إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس وُدٌّ *** ويبقى الود ما بقي العتابُ
ومعنى { بالمودة } أي بالنصيحة في الكتاب إليهم . والباء زائدة كما ذكرنا ، أو ثابتة غير زائدة .
قوله تعالى : { وأنا أعلم بما أخفيتم } أضمرتم { وما أعلنتم } أظهرتم . والباء في " بما " زائدة ، يقال : علمت كذا وعلمت بكذا . وقيل : وأنا اعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون ، فحذف من كل أحد . كما يقال : فلان اعلم وأفضل من غيره . وقال ابن عباس : وأنا اعلم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد . { ومن يفعله منكم } أي من يسر إليهم ويكاتبهم منكم { فقد ضل سواء السبيل } أي أخطأ قصد الطريق .
سورة الممتحنة{[1]} .
مقصودها براءة من أقر بالإيمان{[2]} ممن اتسم{[3]} بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرأوا{[4]} من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا{[5]} على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم ، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين ، فإذا نفى{[6]} ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان ( بسم الله ) الكافي من لجأ إليه فمن تولاه أغناه عمن{[7]} سواه ( الرحمان ) الذي عم بنعمة الإيجاد من فلق عن وجوده العدم وبراه وشمل ، برحمته البيان من حاطه بالعقل{[8]} ورعاه ( الرحيم ) الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه .
لما كان التأديب عقب الإنعام جديراً بالقبول ، وكان قد أجرى سبحانه سنته الإلهية بذلك ، فأدب عباده المؤمنين عقب سورة الفتح السبي بسورة الحجرات ، وكانت سورة الحشر مذكرة بالنعمة في فتح بني النضير و{[64372]}معلمة بأنه لا ولي إلا الله ، ولذلك ختمها بصفتي العزة والحكمة بعد {[64373]}أن افتتحها{[64374]} بهما ، وثبت أن من الحكمة حشر الخلق ، وأن أولياء الله هم المفلحون ، وأن أعداءه هم الخاسرون ، وكان الحب في الله والبغض في الله أفضل الأعمال وأوثق عرى الإيمان ، ولذلك{[64375]} ذم سبحانه من والى أعداءه وناصرهم{[64376]} ، وسماهم مع التكلم بكلمة الإسلام منافقين ، أنتج ذلك{[64377]} قطعاً وجوب البراءة من أعدائه والإقبال على خدمته وولائه{[64378]} ، فقال معيداً للتأديب{[64379]} عقب سورة الفتح على أهل الكتاب بسورة جامعة تتعلق بالفتح الأعظم والفتح السبي : { يا أيها الذين آمنوا{[64380]} } منادياً بأداة البعد وإن كان من نزلت بسببه من أهل القرب ، ومعبراً بالماضي إقامة{[64381]} لمن والى الكفار نوع موالاة في ذلك المحل إلهاباً له وتهييجاً إلى الترفع عنه{[64382]} لئلا يقدح في خصوصيته ويحط من{[64383]} عليّ رتبته مع اللطف به{[64384]} بالتسمية له بالإيمان حيث شهد سبحانه على من فعل نحو فعله مع{[64385]} بني النضير بالنفاق{[64386]} وأحله محل أهل الشقاق ، فحكم على القلوب في الموضعين فقال هناك : { الذين نافقوا } كما قال هنا : { الذين آمنوا } .
ولما كان قد تقدم في المجادلة النهي الشديد عن إظهار{[64387]} مطلق الموادة للكفار ، وفي الحشر الزجر{[64388]} العظيم عن إبطان ذلك فتكفلت{[64389]} السورتان بالمنع من مصاحبة ودهم ظاهراً أو {[64390]}باطناً ، {[64391]}بكت هنا{[64392]} من اتصف بالإيمان وقرعه ووبخه على السعي في موادتهم والتكلف لتحصيلها ، فإن ذلك قادح في اعتقاد تفرده سبحانه بالعزة والحكمة ، فعبر لذلك{[64393]} بصيغة الافتعال فقال بعد التبكيت بالنداء بأداة البعد والتعبير بأدنى أسنان الإيمان : { لا تتخذوا } وزاد في ذلك المعنى من وجهين : التعبير بما منه العداوة تجرئة عليهم وتنفيراً منهم والتوحيد لما يطلق على الجمع لئلا يظن أن المنهي عنه المجموع بقيد الاجتماع والإشارة إلى أنهم في العداوة على قلب واحد ، فأهل الحق أولى بأن{[64394]} يكونوا كذلك في الولاية فقال : { عدوي } أي وأنتم تدعون موالاتي ومن المشهور أن مصادق العدو أدنى مصادقة لا يكون ولياً فكيف بما هو فوق الأدنى{[64395]} وهو فعول من عدى ، وأبلغ في الإيقاظ بقوله : { وعدوكم } أي العريق في عداوتكم ما دمتم على مخالفته في الدين .
ولما وحد لأجل ما تقدم من الإشارة إلى اتحاد الكلمة ، بين أن المراد الجمع فقال : { أولياء } ثم استأنف بيان هذا الاتحاد بقوله مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله : { تلقون } أي جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه{[64396]} إلقاء الشيء الثقيل من علو { إليهم } على بعدهم منكم حساً ومعنى { بالمودة } أي{[64397]} بسببها .
ولما توقع السامع التصريح بمضادتهم في الوصف الذي ناداهم به بعد التلويح إليه ، ملهياً ومهيجاً إلى عداوتهم بالتذكير بمخالفهم إياه في الاعتقاد المستلزم لاستصغارهم لأنه أشد المخالفة { وقد } أي هو الحال أنهم قد { كفروا } أي غطوا جميع ما لكم من الأدلة { بما } أي بسبب ما { جاءكم من الحق } أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه ، ثم استأنف بين كفرهم بما يبعد من مطلق موادتهم فضلاً عن السعي فيها بقوله مذكراً لهم بالحال الماضية زيادة في التنفير منهم ومصوراً لها بما يدل على الإصرار بأنهم { يخرجون الرسول } أي الكامل في الرسلية الذي يجب على كل أحد عداوة من عاداه أدنى{[64398]} عداوة{[64399]} ولو كان أقرب الناس فكيف إذا كان عدواً ، وبين أن المخاطب من{[64400]} أول السورة من المهاجرين وأن إيراده على وجه الجمع للسير والتعميم في النهي بقوله : { وإياكم } أي من دياركم من مكة المشرفة .
ولما بين كفرهم ، معبراً بالمضارع إشارة إلى دوام أذاهم لمن آمن المقتضي لخروجه عن وطنه ، علل الإخراج بما يحقق معنى الكفر والعداوة فقال : { أن } أي أخرجوكم من أوطانكم{[64401]} لأجل أن{[64402]} { تؤمنوا } أي توقعوا حقيقة الإيمان مع التجديد والاستمرار .
ولما كان الإيمان به سبحانه مستحقاً من وجهي{[64403]} الذات والوصف لفت الخطاب من التكلم إلى الغيبة للتنبيه عليهما فقال : { بالله } أي الذي اختص بجميع صفات الكمال ، ولما عبر بما أبان أنه مستحق للإيمان لذاته أردفه بما يقتضي وجوب ذلك لإحسانه فقال : { ربكم } ولما ألهبهم على {[64404]}مباينتهم لهم{[64405]} بما فعلوا معهم وانقضى ما أريد من التنبيه بسياق الغيبة عاد إلى التكلم لأنه أشد تحبباً وأعظم استعطافاً وأدل على الرضا فألهبهم بما كان من جانبهم من ذلك الفعل{[64406]} أن لا يضيعوه ، فقال معلماً إن ولايته سبحانه لا تصح إلا بالإيمان ، ولا يثبت الإيمان إلا بدلائله من الأعمال ، ولا تصح الأعمال إلا بالإخلاص ، ولا يكون الإخلاص إلا بمباينة الأعداء : { إن كنتم } أي كوناً راسخاً حين أخرجوكم من أوطانكم لأجل إيمانكم بي ، { خرجتم } أي منها وهي أحب البلاد إليكم { جهاداً } أي لأجل الجهاد { في سبيلي } أي بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن{[64407]} يسلكوها { وابتغاء مرضاتي } أي ولأجل تطلبكم بأعظم الرغبة لرضاي ولكل فعل يكون موضعاً له ، وجواب هذا الشرط محذوف لدلالة { لا تتخذوا } عليه .
ولما فرغ من بيان حال{[64408]} العدو وشرط إخلاص الولي ، وكان التقدير : فلا تتخذوهم أولياء ، بنى عليه قوله مبيناً { تلقون } إعلاماً بأن الإسرار إلى أحد بما فيه نفعه لا يكون إلا تودداً : { تسرون } أي توجدون إسرار جميع ما يدل على مناصحتهم والتودد إليهم ، وأشار إلى بعدهم عنهم بقوله : { إليهم } إبلاغاً في التوبيخ بالإشارة إلى أنهم يتجشمون في ذلك مستفتين{[64409]} إبلاغ الأخبار التي يريد النبي صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي كتمها عنهم على وجه الإسرار خوف الافتضاح والإبلاغ إلى المكان البعيد { بالمودة } أي بسببها أو{[64410]} بسبب الإعلام بأخبار يراد بها أو يلزم منها المودة .
ولما كان المراد بالإسرار الستر على من يكره ذلك ، قال مبكتاً لمن يفعله : { وأنا } أي والحال أني { أعلم } أي من كل أحد من نفس الفاعل { بما أخفيتم } أي من ذلك { وما أعلنتم } فأيّ فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به ، وإن كنتم تتوهمون{[64411]} أني لا أعلمه فهي القاصمة .
ولما كان التقدير بما هدى{[64412]} إليه العاطف : فمن فعل منكم فقد ظن أني لا أعلم الغيب أو فعل ما يقتضي ظن ذلك ، عطف عليه قوله{[64413]} : { ومن يفعله } أي يوجد الاتخاذ سراً أو علناً أو يوجد الإسرار بالمودة فالإعلان أولى في وقت من الأوقات ماض أو حال أو استقبال . ولما كان المحب قد يفعل بسبب الإدلال ما يستحق به التبكيت ، فإذا بكت ظن أن ذلك ليس على حقيقته لأن محبته لا يضرها شيء ، وكان قد ستر المعايب بأن أخرج{[64414]} الكلام مخرج العموم ، صرح بأن هذا العتاب مراد به الإحباب فقال : { منكم } وحقق الأمر وقربه بقوله : { فقد ضل } أي عمي ومال وأخطأ { سواء السبيل * } أي قويم الطريق الواسع الموسع إلى القصد قويمه وعدله ، وسبب نزول هذه الآية روي من وجوه كثيرة فبعضه في الصحيح عن علي ومنه في الطبراني عن أنس ومنه في التفاسير{[64415]} " أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فسألها ما أقدمها ، فقالت : ذهب موالي وقد احتجت حاجة شديدة ، وكنتم الأهل والعشيرة والموالي ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها ، فكتب معها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد{[64416]} بن عبد العزى من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم{[64417]} فخذوا حذركم ، فأعطاها عشرة دنانير ، فنزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وعلياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاط إلى المشركين ، فخذوه{[64418]} منها وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها . فانطلقوا تعادي بهم خيلهم ، فأدركوها {[64419]}في ذلك{[64420]} المكان فأنكرت وحلفت بالله ، ففتشوها فلم يجدوه{[64421]} فهموا بالرجوع ، فقال علي رضي الله عنه : ما كذبنا ولا كذبنا ، وسل سيفه فقال : أخرجي الكتاب أو لألقين الثياب و{[64422]}لأضربن عنقك ، فقالت : على أن لا تردوني ، ثم أخرجته{[64423]} من عقاصها قد لفت عليه شعرها ، فخلوا سبيلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب : هل تعرف الكتاب قال : نعم ، قال : فما حملك على هذا ؟ قال : لا تعجل يا رسول الله ، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششت{[64424]} منذ صحبتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يدفع الله به عن عشيرته ، وكنت غريباً خليفاً فيهم{[64425]} ، وكان أهلي بين ظهرانيهم فأردت أن أتخذ{[64426]} عندهم يداً{[64427]} يدفع الله بها عن أهلي ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق ولا تقولوا له إلا خيراً ، فقال عمر{[64428]} بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل{[64429]} الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ففاضت عينا عمر رضي الله عنه وقال : الله ورسوله أعلم ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم } " الآيات .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : افتتحت - يعني هذه السورة - بوصية المؤمنين على ترك{[64430]} موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك وأمرهم{[64431]} بالتبرؤ منهم ، وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم } إلى آخر السورة ، وقد حصل منها{[64432]} أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم .
{ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه }[ المجادلة : 22 ] فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء {[64433]}ووعظهم بقصة{[64434]} إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم ، والاتصال في هذا بين ، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه{[64435]} السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو{[64436]} كانوا أقرب الناس إليهم ، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم ، ثم أتبع ذلك ما{[64437]} عجله لهم من النقمة والنكال ، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة له ، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل{[64438]} في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وكتابه{[64439]} لكفار قريش بمكة ، والقصة مشهورة وكفار مكة ليسوا من يهود ، وطلبوا المعادة {[64440]}للجميع واحد{[64441]} ، فلهذا فضل بما هو من تمام الإخبار بحال يهود ، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين ، والتحمت السور الثلاث وكثر في سورة الممتحنة تزداد الوصايا والعهود ، وطلب بذلك كله ولهذا المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء وما يشترط عليهن في ذلك ، فمبنى{[64442]} السورة على طلب الوفاء افتتاحاً واختتاماً حسب{[64443]} ما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر و{[64444]}في خاتمة{[64445]} سورة المجادلة - انتهى .