نزلت في السفر بين مكة والمدينة بعد منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة عند كراع الغميم {[1]} أو عند ضجنان {[2]} . فقرأها صلى الله عليه وسلم على الناس وهو على راحلته وقال : ( لقد أنزلت على الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها ) . وقد طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الموادعة على إثر مناوشات ظهر لهم فيها أن المصلحة في الصلح ، وتم على شروط قد تبدو في ظاهرها مجحفة بالمسلمين ؛ ولكنها في الواقع كانت خيرا عظيما لهم ، وشرا على الشرك والمشركين .
{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا } إخبار عن صلح الحديبية : عند الجمهور . وسمي هذا الصلح فتحا لاشتراكهما في الظهور على المشركين ، فإنهم ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم ورموهم بسهام وحجارة . وقيل : هو إخبار عن فتح مكة : والتعبير عنه بالماضي قبل وقوعه لتحققه . قال ابن عطية : والقول الأول هو الصحيح .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا }
هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ، حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة ، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وعلى أن يعتمر من العام المقبل ، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل .
وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا ، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل ، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار ، يتمكن من ذلك ، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام ، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا ، فلذلك سماه الله فتحا ، ووصفه بأنه فتح مبين أي : ظاهر جلي ، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله ، وانتصار المسلمين ، وهذا حصل بذلك{[789]} الفتح ، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور ، فقال :
مدنية بإجماع ، وهي تسع وعشرون آية . ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية . روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها . وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : ثكلت أم عمر ، نَزَرْتَ{[1]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك ، فقال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نَشِبْتُ{[2]} أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فقال : [ لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس - ثم قرأ - " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " ] لفظ البخاري . وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح . وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما - إلى قوله - فوزا عظيما " مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحر الهدي بالحديبية ، فقال : [ لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا ] . وقال عطاء عن ابن عباس : إن اليهود شتموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما نزل قوله تعالى : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " [ الأحقاف : 9 ] وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . ونحوه قال مقاتل بن سليمان : لما نزل قوله تعالى : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " {[3]} [ الأحقاف : 9 ] فرح المشركون والمنافقون وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه ، فنزلت بعد ما رجع من الحديبية : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " أي قضينا لك قضاء . فنسخت هذه الآية تلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ لقد أنزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم ] . وقال المسعودي : بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله ذلك العام .
اختلف في هذا الفتح ما هو ؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " قال : الحديبية . وقال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية . وقال الفراء{[13974]} : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا نعد مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة{[13975]} ، والحديبية بئر . وقال الضحاك : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " بغير قتال . وكان الصلح من الفتح . وقال مجاهد : هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه . وقال : كان فتح الحديبية آية عظيمة ، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه . وقال موسى بن عقبة : قال رجل عند منصرفهم من الحديبية : ما هذا بفتح ، لقد صدونا عن البيت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا ] . وقال الشعبي في قوله تعالى : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " قال : هو فتح الحديبية ، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . وقال الزهري : لقد كان الحديبية أعظم الفتوح ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة ، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف . وقال مجاهد أيضا والعوفي : هو فتح خبير . والأول أكثر ، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه ، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى : " سيقول المخلفون إذا انطلقتم " {[13976]} [ الفتح : 10 ] وقوله : " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه " {[13977]} [ الفتح : 20 ] . وقال مجمع بن جارية - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - : شهدنا الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فخرجنا نُوجِفُ{[13978]} فوجدنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم{[13979]} ، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " فقال عمر بن الخطاب : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : [ نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح ] . فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية . وقيل : إن قوله تعالى : " فتحا " يدل على أن مكة فتحت عنوة{[13980]} ؛ لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة . هذا هو حقيقة الاسم . وقد يقال : فتح البلد صلحا ، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح ، فصار الفتح في الصلح مجازا . والأخبار دالة على أنها فتحت عنوة ، وقد مضى القول فيها{[13981]} ، ويأتي .
هذه السورة مدنية وآياتها تسع وعشرون . وقد أنزلت كلها في شأن الحديبية بين مكة والمدينة . وهي تتناول في معظم آياتها قصة الحديبية وما حولها من أحداث وأحكام وملابسات وعبر .
على أن السورة مبدوءة بالامتنان من الله على عباده المؤمنين بالفتح المبين وهو صلح الحديبية { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .
وفي السورة إعلان من الله للبرية أنه أرسل رسوله للعالمين ، ليكون شاهدا عليهم يوم القيامة ، وليكون مبشرا للمؤمنين بالخير والنجاح والفلاح ونذيرا للعصاة والكافرين ، إذ يحذرهم بأس ربهم وشديد عقابه .
وفي السورة إطراء كبير من الله للفئة المؤمنة الثابتة الصابرة مع رسول اللله صلى الله عليه وسلم . أولئك الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الجهاد في سبيل الله وعلى المضي في الدعوة إلى دين الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى النهاية .
وفي السورة تنديد بالأعراب والمنافقين والخائرين من الناس الذين كانوا يصطنعون المعاذير للتخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم . وليس لهم في ذلك من عذر صحيح إلا الجبن و الخور و هوان العزيمة و الإيمان .
وفي السورة إخبار برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تبشرهم بأن المؤمنين سيدخلون المسجد الحرام آمنين فاتحين ظاهرين بمشيئة الله وعونه وتوفيقه .
وفي السورة ذكر كريم للمؤمنين ، يبين الله فيه حال رسوله والذين آمنوا معه ، من الشدة على الكفار ، والتراحم والتعاون فيما بينهم . إلى غير ذلك من الأنباء والأخبار والمواعظ .
{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا 1 ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما 2 وينصرك الله نصرا عزيزا } .
نزلت هذه السورة العظيمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه وحالوا بينه وبين ذلك ثم جنحوا بعذ ذلك إلى المصالحة والمهانة وأن يرجع عامة هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك على مضض وتثاقل من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) . فلما نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله ( عز وجل ) هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحا باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه . وقد روي في ذلك عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية .
وكذلك ذكر عن جابر ( رضي الله عنه ) قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية .
وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها { إن فتحنا لك فتحا مبينا 1 ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } " {[4251]} .
والمراد بالفتح ههنا –على الأظهر- أنه الحديبية ، فقد كانوا يقولون : أنتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، وكان الصلح من الفتح . ولقد كان فتح الحديبية آية عظيمة ، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا " .
وقال الزهري : لقد كان الحديبية أعظم الفتوح . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة . فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف .