سورة الإخلاص ( وهي مكية ){[1]}
الآية1 : قوله تعالى : { قل هو الله أحد } ذكر أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسبة الله تعالى ، وقيل : عن صفته ، وقيل : عن الله تعالى ، ما هو ؟ فنزلت هذه السورة معلمة لجميع من يسأل عنه جوابه ، ولذلك أثبت : { قل } لتكون مخاطبة كل مسؤول عن ذلك أن { قل } لا على تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر ؛ إذ ليس في حق الائتمار بالأمر إعادة حرف الأمر في الائتمار ، فتبين بذلك أنه ليس على تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعلم ؛ بل هو أحق من سبق له الغنى عن تعلم الإجابة بهذا عند حضرة هذا السؤال ، كما سبقت منه الدعوة إلى الله تعالى بحقيقة ما جرى به السؤال ، وكما أثبت ذلك{[24159]} ليقرأ أبدا .
وحق المخصوص / 657 أ/ بالأمر أن يأتمر ، ولا يجعل ذلك متلوّا كذلك في الوقت الذي لا يحتمل المأمور الأمر به . ثبت أن ذلك على ما شاء .
ودل قوله : { قل } أنه على أمر سبق عنه السؤال ، فيكون في ذلك إجابة لما سبق عنه السؤال ، وكذلك جميع ما في القرآن : { قل } فيه{[24160]} أحد أمرين : إما إجابة عن أمر سبق عنه السؤال ، فينزل بحق تعريف كل مسؤول عن مثله ، ( وإما أن ){[24161]} يكون الله تعالى إذ علم أنه عليه الصلاة والسلام أو من يتبعه يسأل عما يقتضي ذلك الجواب ، فأنزل ما به يبقى في أهل التوحيد منّا منه وفضلا .
ثم لم يجب تحقيق الحرف الذي وقع عنه السؤال إلا لمن شهد ، وقد يتوجه هذا الحرف الذي وقع عنه إلى ما ذكروا من الأسباب وغيرها ، وفي ما نزل يصلح جواب ذلك كله ، ويليق به ، وإن كنا لا نشهد على حقيقة ما كان أنه ذا دون ذا ، ونجيب بذلك لو سئلنا عما ذكرنا وعن كل حرف يصح في العقل ، والحكمة الجواب بمثل ما اقتضته هذه السورة .
وقوله تعالى : { هو } اختلف في تأويله : من الناس من قال : هو إضافة إلى الذي عنه كان ، أو يكون السؤال المقتضى ما جرى به البيان من الجواب الذي يسألون عنه : { الله أحد } { الله الصمد } إلى آخر السورة .
ومنهم من قال : هو اسم الله أكبر ، يروى ذلك عن بعض أولاد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول في دعائه : يا هو ، يا من لا هو إلا هو ، يا من به كانت هوية كل هو ، وذلك يخرج على وجهين :
أحدهما : أنه هو بذاته وهوية كل من سواه لما هو يكون محتملا للتلاشي والوجود إلا هو ، سبحانه لم يزل ، ولا يزال هو { ليس كمثله شيء } ( الشورى : 11 ) على ما اقتضى بيان وحدانيته في هذه السورة . وعلى ذلك قيل : هو الأحد بذاته ، المنشئ أحدية كل الآحاد ، المتعالي عن كل معاني أحدية من سواه .
والثاني أن تكون إضافته إلى اسمه الذي لا يحتمل اللسان ، وهو الذي لم يطلع عليه الخلائق ، وهو الذي يراد في الدعاء : باسمك الذي من سألك به أعطيته ، ومن دعاك به أجبته ، فيكون السؤال مما يكنى عنه من الوجه ( الذي ){[24162]} ذكرت ، لا أن يسعه اللسان ، أو يحتمل الطوق التفوه به ، تعالى .
والتأويل الأول أقرب إلى الأفهام ، وأحق أن يكون على ذكر من يقتضي عنه السؤال ، ثم التفسير على ما جرى .
وقوله تعالى : { الله } ، اختلف في المعنى الذي جرى هذا في حق أهل هذا اللسان ( في وجهين :
أحدهما : ما قال قوم : ){[24163]} إنه مما اشتق من أمر عرفوه أولا عن أمر عرفوه ، إذ في كل لسان ما أريد به عند الذكر لبيان العرب اسم يدعي به ، ويسمى ، وإن اختلف وزن كل من ذلك على اختلاف الألسن ليعلم أن الأحرف والتقطيع في التكلم إنما هي{[24164]} ليفهم المقصود ، لا على توهم حقيقة الاسم بتلك الحروف والتقطيع ، وذلك كما يعبر عن تكوينه الخلائق ب : { كن } لا على تحقيق كاف ونون في التكوين . فعلى ذلك جميع ما يسمي الله تعالى لا على تحقيق ( الحروف التي ){[24165]} يجري بها التسمية ، ثم لا يحتمل طوقه إلا بها ، لكن على ما يقرب إلى الأفهام المراد في التفوه به .
( والثاني : ما ){[24166]} قال قوم : { الله } هو المعبود في لسان العرب لا على الاستحقاق ، لكن على وضع ذلك كذلك .
دليله تسميتهم كل من عبدوه وكل شيء عبدوه إلها ، وإن كان جميع ما سوى إله الحق ممن عبد لا يحتمل شيئا من تلك المعاني التي زعم من ادعى الاشتقاق عنها من الاحتجاب والالتجاء إليه ونحو ذلك . فثبت أنه اسم موضوع للمعبود .
وعلى ذلك قوله تعالى : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } ( الفرقان : 43 ) ، أي معبوده ما يهواه ، لا أن للهوى شيئا من ذلك ، فيكون المعبود الحق هو الله تعالى ، لما له في كل شيء أثر عبودة ذلك الشيء ، ودلالة الربوبية له عليه ، سبحانه ، هو المعبود بذاته لمعنى مستحق بذاته العبادة من جميع خلقه ، والاستسلام له ، والخضوع بما ذكرت من الموضوع في كل آية ذلك ، ولا قوة إلا بالله .
وهذا تحقيق ما ذهبنا إليه أنه خالق بذاته ، رحمان رحيم بذاته ، موصوف به في الأزل ، وإن كان الذي وصل إليه أثر رحمته ، وفي ظهور دلالة تدبيره ، حدث بعد أن لم يكن على ما كانت العبادة والاستحقاق ، كان ممن حدث ، وفي من كان بعد أن لم يكن ، وهو إله ، لم يزل ، ولا يزال .
وعلى ذلك قوله تعالى : { مالك يوم الدين } ( الفاتحة : 4 ) ، ( وقوله : ){[24167]} { وهو رب كل شيء } ( الأنعام : 164 ) ، وإن كان من الأشياء ما سيكون لا أنها كانت كائنة ، وكذلك يوم الدين ، فعلى ذلك أمر خالق ونحو ذلك .
ومن هذا الوجه أنكر قوم أن يكون الإله اسم معبود في الحقيقة ، أو اسم مشتق عن لسان ؛ إذ هو لم يزل إلها ، ومن به العبادة ، وعنه الاشتقاق حادث .
والأصل عندنا ما ذكرنا أنه بجميع ما وصف بذاته ؛ إذ لا يحتمل التغير والاستحالة ، ولا نيل مدح بغير ممدح ، وإنما يمدح به لذاته ؛ لأنه استحق من كل ذلك الوقت كون ذلك القول بالعالم والقادر أنه كذلك ، وإن كان الذي علمه ممن سواه ، وكل مقدور عليه حادث بعد أن لم يكن ، ولا قوة إلا بالله .
وقال الضحاك : { الله } اسمه الأكبر ؛ لأنه يبتدأ به في كل موضع .
ثم اختلف في معنى الاشتقاق ، فمنهم من يقول : أصله أله ، من أله الرجل إلى آخر ، أي التجأ إليه ، واستجاره ، فألهه بمعنى أجاره ، وآمنه ، فسمي إلها على وزن الفعال كما يسمى إماما لما يؤتم به ، وفخم{[24168]} بإدخال الألف واللام ، ثم لين ، وحذفت الهمزة كما هو لغة قريش ، ثم أدغم أحد اللامين في الآخر ، فشدد ، فصار الله .
وعلى ذلك تأويل الصمد أن يصمد إليه في{[24169]} الحوائج ، ويستغاث به ، ويلتجأ إليه .
وقيل : إن اشتقاقه من وله ياله ولها ، إذا فزع إليه ، ( فسمي به ؛ لأنه المفزع إليه ){[24170]} ، وهو قريب من الأول ، ولكن حق ذلك في الاسم أن يكون ولاها ، فأبدلت الواو ألفا ، كما يقال في وكاف : إكاف ، وكذلك أهل الحجاز يجعلون الواو ألفا . قال الشاعر :
فأقبلت آلها ثكلى على عجل كل دهاها ، وكل عندها اجتمعا ){[24171]}
وقيل : سمي به ؛ لأنه إله كل شيء ، أي ذلّله ، وعبده ، تألّه له أي عبده . قال قائلهم :
أله إلهك واحدا متفردا ساد الملوك بعزة ، وتمجدا .
وقال آخرون : سمي به لاستتاره ، ومنه يقال : لهت ، فلا ترى . وقال الشاعر :
لاه ربي عن الخلائق طرا خالق الخلق لا يرى ، ويرانا .
وقيل : سمي به لتحير القلوب عن التفكر في عظمته ، كقوله : ألاهني الشيء حتى ألهت ، ومنه مفازة ملهية ، يعني العقل يحار عند النظر إلى عظمته ، ومنه أله يأله ، فهو إله . وقال الشاعر :
وبهماء تيه تأله العين وسطها مخفقة أعلام بيداء سملق
قال رضي الله عنه : والأصل عندنا الإغضاء عن هذا ، لما أن الحاجة إلى تعرف الاشتقاق والوضع لتعرف محل الأمر وموقع الحكم ، ومن جميع ما اشتقوا به الاسم تحتمل تسمية الغير بكل ذلك ، وتحقيق الإضافة إلى ذلك ، وتسميته إلها ، أو إضافة ما به عرف الحقيقة لا يحتمل غيره ، سبحانه وتعالى ، ولا تجوز التسمية به . ثبت الغنى في معرفته عن جميع الوجوه التي أريد الاستخراج ؛ إذ هي طريق توصيل بهم إلى العلم بالمقصود ، والوقوف على المراد ، وقد عرف دون الذي ذكروا ، والله أعلم .
والأصل عندنا / 657 ب/ أن الله سبحانه وتعالى بلطفه يمنع الخلق عن تسمية أحد إلها ، إلا من جهة أحوال تعترض ، فسموا به على معنى جعل الاسم الذي جرت التسمية به حقيقة له ، فسموا ظنا منهم أن بذلك التوسل والتقرب ، لا أن يروا الشيء من ذلك حقيقة ذلك ، بل قالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ( الزمر : 3 ) ، وقالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ( يونس : 18 ) ، وقالوا : { والله أمرنا بها } ( الأعراف : 28 ) ، ليعلم أنهم عرفوا الله بما ادعوا لأنفسهم في ذلك معاني ، تردهم إلى الله سبحانه وتعالى ، فذكروا مجازا عن أحد لسانين ، والله أعلم :
( أحدهما : عن ){[24172]}لسان الرسل في ذكر الله تعالى في أمور تقربهم إلى الله تعالى لقوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } ( النساء : 59 ) وقوله{[24173]} { إن تنصروا الله ينصركم } ( محمد : 7 ) وقوله{[24174]} : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } ( الفتح : 10 ) .
وصف مبايعة العبيد ونصره أو نصر دينه نصر الله ومبايعته بما يقرب ذلك إليه ، فعلى ذلك تسميتهم من عبدوها ، لا أنهم رأوها{[24175]}آلهة في الحقيقة .
( والثاني ){[24176]} : عن ألسن الفلاسفة أن ليس لله اسم ذاتي ، وإنما هو سمي بذكر ذي شرف ومنزلة عنده ، فعلى ذلك أن محل من يعبدون عندهم ما ذكرنا من القول عنهم ، فسموا به ، لا أن حققوا كما ذكروا حقيقة ذلك الاسم إلى من عرفوه أنه إله ردوا أمرهم في ذلك ، وذلك لطف من الله تعالى في ما سخرهم عليه ، كتسمية الخالق والرحمان أنهم لا يسمون أحدا بهما ، وإن كثرت أفعاله ، وعظمت رحمته في الخلق ، ليعلم أنها أسماء الله تعالى ، منع الخلق عن التسمي بها باللطف من حيث لا يعرف سيبه .
ثم قوله تعالى : { قل هو الله أحد } أي الأمر ، هو الله أحد كما تقول : إنه زيد قائم ، أي الأمر ، زيد قائم ، جواب من يسألك ما الأمر والشأن ( في أن ){[24177]} قمت هاهنا ؟ فتقول : الأمر زيد قائم ، أي قمت لأجله . إلى هذا يذهب الزجاج ، كأنه يذهب إلى أنه لما قال : { قل هو الله أحد } ، فقيل له : ما الأمر والشأن ؟ قال{[24178]} : الأمر الله أحد ليعرفوا أنه كذلك .
وقوله تعالى : { أحد } يتوجه إلى واحد ، ثم واحد اسم ينفي المثل في الإضافة . كما يقال : هو واحد الزمان ، وواحد الخلق ، في نفي التشبيه له عما أضيف إليه ، ويكون واحدا من حيث العدد بما عن مثله يبتدأ الحساب ، ولا يبتدأ من أحد ، فيصير أحدا من ذا الوجه ، وإن كان الله تعالى بأي حرفين ذكر ، ففيه ذلك ، وهو الواحد الذي يستحيل أن تكون وحدانيته من وجه يحتمل ثانيا ، أو من وجه تعديل ، هو الواحد الإله الخالق المتعالي عن معنى الأعداد والأنداد ، وهو على ما ذكر الحكيم في الآحاد أنه أربعة{[24179]} :
واحد : ( هو كل ، لا يحتمل التضعيف{[24180]} لإحالة كون وراء الكل .
وواحد ){[24181]} : هو الأقل ، وهو الذي لا يحتمل التنصيف والتجزيء ؛ لأنه أقل الأشياء ، فإذا ينصف يكون ذلك النصف أقل منه .
وواحد : هو واسط ، وهو الذي ( يحتمل التصنيف والتضعيف جميعا .
والرابع : هو الذي ){[24182]} قام به الآحاد ، هو ولا هو أخفى من هو ( هو ){[24183]} الذي انخرس عنه اللسان ، وانقطع عنه البيان ، وانحسرت عنه الأوهام ، وحارت فيه الأفهام .
والأصل في ذلك أنه لا سبيل إلى العبارة عنه بغير هذا اللسان ، ( ولا وجه ){[24184]}للتقريب إلى الأفهام بهذا اللسان ، إلا بما جرى به الاعتياد ، وظهرت به المعارف في ما ذكرنا من الضرورة ، جعل التوحيد في الحقيقة بالأدلة والبراهين في ضمن التسمية في عبارة اللسان ، وحقه بما أخبرت من ضرورات الأحوال في إرادة التقريب إلى الأفهام إلى عبارات اللسان المؤسس{[24185]}على الاعتياد في إظهار المعارف ، فعلى ذلك القول بواحد وبأحد لا على أحدية غيره من جهة التوسط ، أو ( من ){[24186]} جهة القلة ، أو ( من ){[24187]} جهة الكثرة ما كل من هو في معنى واحد ، فهو واحد الآحاد المجتمعة إلى الواحد الذي يقال : جزء ، لا يتجزأ ، وهو : من غير في الجملة متجزئ عن توهم ذلك الجزء ، غير متجزئ في الوهم ، أو هو الأقل منه ، وهو جزء في الحقيقة ، والله يتعالى عن الوصف بالكل والبعض ، والقليل والكثير ، والواحد ، مما له حق الإبعاض ، أو الكل ، أو رتبة القليل والكثير ، جل ثناؤه .
بل هو الذي ( جمع جميع ){[24188]} ما وصفت ؛ بل هو الذي خلق ما وصفت ، وجعل لكل من ذلك مقابلا بما ذكر ليصير كل من ذلك زوجا ، فتكون الوحدانية الحق له ، ولا قوة إلا بالله .