تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألا إنهم يثنون صدورهم} يعني يلوون، وذلك أن كفار مكة كانوا إذا سمعوا القرآن نكسوا رءوسهم على صدورهم كراهية استماع القرآن، {ليستخفوا منه}، يعني من النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد علم ذلك منهم، ثم قال: {ألا حين يستغشون ثيابهم}، يعني يعلم ذلك، {يعلم} الله حين يغطون رؤوسهم بالثياب، {ما يسرون} في قلوبهم، وذلك الخفي، {وما يعلنون} بألسنتهم. {إنه عليم بذات الصدور} يعنى بما في القلوب من الكفر وغيره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القراء في قراءة قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم)؛ فقرأته عامة الأمصار: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)، على تقدير "يفعلون "من "ثنيت"، و"الصدور" منصوبة.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله؛
فقال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطَّى وجهه وثَنَى ظهره... وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنًّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك...
وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كتاب الله...
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وهو: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)، على مثال "يفعلون"، و"الصدور" نصب، بمعنى: يحنون صدورهم ويكنُّونها...
فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب، لإجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك، تأويلُ من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم، أو تناجوه بينهم، وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن قوله: (ليستخفوا منه)، بمعنى: ليستخفوا من الله، وأن الهاء في قوله، (منه)، عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر قبلُ، فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك، كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله، إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرُّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا، تغشَّوا بالثياب، أو أظهروا بالبَرَاز،
فقال: (ألا حين يستغشون ثيابهم)، يعني: يتغشَّون ثيابهم: يتغطونها ويلبسون.
(يعلم ما يسرون)، يقول جل ثناؤه: يعلم ما يسرُّ هؤلاء الجهلة بربهم، الظانُّون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها، وثنوها، وما تناجوه بينهم فأخفوه، (وما يعلنون)، سواء عنده سرائرُ عباده وعلانيتهم. (إنه عليم بذات الصدور)، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه، من إيمان وكفر، وحق وباطل، وخير وشر، وما تستجنُّه مما لم تُجنُّه بعدُ... فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه، أو فيما ألزمكم الإيمان به والتصديق، فتهلكوا باعتقادكم ذلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يزورّون عن الحق وينحرفون عنه؛ لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه، {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} يعني: ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون -لقود المعنى إلى إضماره- الإضمار في قوله تعالى: {اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] معناه فضرب فانفلق. ومعنى {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} ويزيدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً، كراهة لاستماع كلام الله تعالى: كقول نوح عليه السلام: {جَعَلُواْ أصابعهم فِي ءاذانهم واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7]، ثم قال: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قيل: إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر، وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منه وكراهة للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك.
و {صدورهم} منصوبة على هذا ب {يثنون}. وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول: فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عيلها.
فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون.
{أَلَا} للتنبيه، فنَبَّهَ أوّلاً على أنهم ينصرفون عنه لِيَسْتَخْفوا ثم كرَّر كلمة {أَلَا} للتنبيه على ذكر الاستخفاء ليُنَبِّه على وقت استخفائهم، وهو حينَ يَستغشون ثيابَهم، كأنه قيل: ألا إنهم ينصرفون عنه ليَستخْفوا من الله، ألا إنهم يَستَخْفون حين يستَغْشون ثيابَهم، ثم ذَكر أنه لا فائدةَ لهم في استخفائهم بقوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم على التولي بخصوصه، فكان موضع أن يقال: هل أقبلوا؟ فقيل: لا، قال مبيناً أن التولي باطناً كالتولي ظاهراً، لأن الباطن هو العمدة، مؤكداً لأنه أمر لا يكاد أن يصدق، والتأكيد أقعد في تبكيتهم: {ألا إنهم} أي الكفار المعاندين {يثنون صدورهم} أي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غيرِ إقبال، لأن من أقبل على الشيء أقبل عليه بصدره {ليستخفوا منه} أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره. فإن كان مرادهم بالثني الاستتار من الله تعالى، فالأمر في عود الضمير إليه سبحانه واضح، وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله. ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم، وهو حين استغشاهم ثيابهم، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال: {ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم {يعلم ما يسرون} أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاط بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً: {وما يعلنون} أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في علمه بين إسرار وإعلان، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه. ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال: {إنه عليم} أي بالغ العلم جداً {بذات الصدور} أي بضمائر قلوبهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها، بل من قبل أن يخلقهم؛ وأصل الثني العطف، ومنه الاثنان -لعطف أحدهما على الآخر، والثناء- لعطف المناقب في المدح.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ... لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ}... ولعل الأظهرَ أن معناه يعطِفون صدورَهم على ما فيها من الكفر والإعراضِ عن الحق وعداوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بحيث يكون ذلك مَخفيّاً مستوراً فيها كما تُعطف الثيابُ على ما فيها من الأشياء المستورةِ، وإنما لم يَذكرْ ذلك استهجاناً بذكره أو إيماءً إلى أن ظهورَه مُغْنٍ عن ذِكره أو ليذهبَ ذهنُ السامعِ إلى كل ما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ، فيَدخلُ فيه ما ذكر من تولّيهم عن الحقّ الذي أُلقيَ إليهم دخولاً أوَّليّاً، فحينئذ يَظهر وجهُ كونِ ذلك سبباً للاستخفاء... {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ... وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يستوي بالنِّسبة إلى علمه المحيطِ سِرُّهم وعَلَنُهم فكيف يَخْفَى عليه ما عسى يُظهِرونه وإنما قُدِّم السِّرُّ على العَلَن نَعْياً عليهم من أول الأمر ما صَنعوا وإيذاناً بافتضاحهم ووقوعِ ما يَحذَرونه وتحقيقاً للمساواة بين العِلْمين على أبلَغِ وجهٍ فكأن علمَه بما يُسِرّونه أقدمُ منه بما يُعلنونه، ونظيرُه قوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا في صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ} [آل عمران: 29] حيث قُدّم فيه الإخفاءُ على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284] إذ لم يَتعلَّق بإشعار أن المحاَسبةَ بما يُخفونه أَولَى منها بما يُبْدونه غَرَضٌ، بل الأمرُ بالعكس، وأمّا هاهنا فقد تَعلَّق بإشعار كونِ تعلُّقِ علمِه تعالى بما يُسِرّونه أَوْلَى منه بما يُعلنونه غرضٌ مُهِمٌّ مع كونهما على السَّوِيّة، كيف لا وعِلمُه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصولِ الصورةِ بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسه علمٌ بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يَختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنةِ... {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ لما سبق وتقريرٌ له واقِعٌ موقعَ الكبرى من القياس، وفي صيغة الفَعِيلِ وتَحْلِيَةِ الصدورِ بلام الاستغراقِ والتعبيرِ عن الضمائر بعنوان صاحبِيها من البراعة ما لا يصفه الواصفون كأنه قيل: إنه مُبالِغٌ في الإحاطة بمُضْمَرات جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيّةِ المستكِنّةِ في صدورهم بحيث لا تُفارقها أصلاً، فكيف يخفى عليه ما يُسرّون وما يُعلِنون...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا بيان مستأنف لحال المشركين وصفتهم عند تبليغهم الدعوة وإقامة الحجة، افتتحت بأداة التنبيه ليتأملها السامع ويتصورها في صفتها الغريبة الدالة على أعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل، يقال ثنى الثوب إذا عطف بعضه على بعض فطواه، وإثناء الثوب: إطواؤه ومطاويه، وثناه عنه لواه وحوله، وثناه عليه أطبقه وطواه ليخفيه فيه، وثنى عنانه أي تحول وأعرض، وثنى عطفه أي أعرض بجانبه تكبرا، ومنه في المجادل في الله بغير علم {ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله}] [الحج:9] والاستخفاء: محاولة الخفاء، ومنه {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله} [النساء: 108] واستغشاء الثياب: التغطي بها، ومنه قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا} [نوح: 7] وهو بمعنى ما نحن فيه.
{ألا إنهم يثنون صدورهم} فسر بعضهم ثني الصدور هنا بالإعراض التام، والاستدبار للرسول عند تلاوة القرآن، وهو أبلغ من ثني العطف والجانب، وفسره آخرون بطيها على ما هو مكنون فيها من الكراهة والعداوة له صلى الله عليه وسلم، والأقرب أن يكون تصويرا لما كان يحاوله بعض الكفار ثم المنافقين عند سماع القرآن من الاستخفاء بتنكيس الرأس، وثني الصدر على البطن كما يطوي الثوب، حتى يخفى فاعله بين الجمع، خجلا مما فيه من القرع والصداع، فالمعنى ألا إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رؤوسهم كأنهم يحاولون طي صدورهم على بطونهم عند سماع القرآن وهو معنى بليغ وواقع وأدنى إلى التعليل بقوله: {ليستخفوا منه} أي من النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوته للقرآن فلا يراهم عند وقوع هذه القوارع على رؤوسهم، أو ليستخفوا مما هم فيه من الشأن المظهر ليخزيهم وجهلهم، المثبت لعجزهم، وهو الذي كان يتبادر إلى فهمي كلما تلوت الآية أو سمعتها قبل الاطلاع على شيء مما قيل في تفسيرها، على أنه قد يجامع ما قبله فيصدق كل منهما على فريق من الكفار، ويناسب الأول أن يكون الاستخفاء من الله عز وجل، ورواه البخاري عن مجاهد، وروى ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد قال:"كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره لكي لا يراه" فنزلت. وعن أبي رزين قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه، وعن عطاء الخراساني في قوله: {يثنون صدورهم} يقول: يطأطئون رؤوسهم، ويحنون ظهورهم، أي ألا فليعلموا أن ثني صدورهم وتنكيس رؤوسهم ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم، أو من ظهور حجته عليهم، لا يغني عنهم شيئا من ظهور فضيحتهم، فإنهم حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم عند النوم في ظلمة الليل، ويخلون بخواطرهم وما يبيتون من السوء والمكر، فإن ربهم يعلم ما يسرون منها ليلا، ثم ما يعلنون نهارا. وعن قتادة قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله تعالى.
قال تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون} وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حنى ظهره، واستغشى بثوبه، وأضمر همه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه {إنه عليم بذات الصدور} أي إنه تعالى عليم محيط بأسرار الصدور، وخواطر القلوب، فهم كالذين قال فيهم: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعلمون محيطا} [النساء: 108].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد إعلان خلاصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. يمضي السياق يعرض كيف يتلقى فريق منهم تلك الآيات، عندما يقدمها لهم النذير البشير، ويصور الوضع الحسي الذي يتخذونه والحركة المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم للتخفي. ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم الله يتابعهم في أخفى أوضاعهم؛ وكل دابة في الأرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق:
(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه. ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون، إنه عليم بذات الصدور. وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها. كل في كتاب مبين)..
والآيتان الكريمتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره!
ويا لها من رهبة غامرة، وروعة باهرة، حين يتصور القلب البشري حضور الله -سبحانه- وإحاطة علمه وقهره؛ بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الاستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله:
(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه. ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون. إنه عليم بذات الصدور)..
ولعل نص الآية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعهم كلام الله؛ فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم استخفاء من الله الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلام.. وذلك كما ظهر منهم في بعض الأحيان!
ولا يكمل السياق الآية حتى يبين عبث هذه الحركة، والله، الذي أنزل هذه الآيات، معهم حين يستخفون وحين يبرزون. ويصور هذا المعنى -على الطريقة القرآنية- في صورة مرهوبة، وهم في وضع خفي دقيق من أوضاعهم. حين يأوون إلى فراشهم، ويخلون إلى أنفسهم، والليل لهم ساتر، وأغطيتهم لهم ساتر. ومع ذلك فالله معهم من وراء هذه الأستار حاضر ناظر قاهر. يعلم في هذه الخلوة ما يسرون وما يعلنون: (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون).
والله يعلم ما هو أخفى. وليست أغطيتهم بساتر دون علمه. ولكن الإنسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه وحيد لا يراه أحد. فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه، ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها، فيخيل إليه أنه ليس هناك من عين تراه!
عليم بالأسرار المصاحبة للصدور، التي لا تفارقها، والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه، أو المالك ملكه.. فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور. ومع ذلك فالله بها عليم.. وإذن فما من شيء يخفى عليه، وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}... وإنّ ذِكر هذا العلمِ الشاملِ المحيط بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ، لِبَيان أنهم يتحمّلون جزاءه سبحانه، وهو جزاءٌ مِمّن لا تَخفَى عليه خافيةٌ في السماء ولا في الأرض الذي يَعْلَم ما تُكِنُّ الأفئدةُ وتَكْسِبُ الجوارحُ ويجازي كلّاً مَا يَستحقُّ، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرّاً فشرٌّ، وكلٌّ بما اكتسب رهينٌ...
... والغرض هنا من مداراة الوجه هو إخفاءُ الملامح؛ لأن انفعال مَواجيدِ النفسِ البشريّةِ يَنْضَحُ على الوجوه...
وهم قد استَغْشَوْا ثيابَهم ليُغَطّوا وجوههم؛ مداراةً للانفعالات التي تحملها هذه الوجوه، وهي انفعالاتُ كراهيَةٍ، أو أنها قد تكون انفعالاتٍ أخرى، فساعةَ يسمع واحدٌ منهم القرآنَ قد ينفعل لِما يسمع، ولا يريد أن يُظهر الانفعال...