النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (5)

قوله عز وجل : { أَلاَ إنَّهُمُ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } فيه خمسة أقاويل :

أحدها : يثنون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله تعالى{[1356]} ، قاله مجاهد . الثاني : يثنونها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ليخفوها عنه ، قاله الفراء والزجاج .

الثالث : يثنونها على ما أضمروه من حديث النفس{[1357]} ليخفوه عن الناس ، قاله الحسن . الرابع : أن المنافقين كانوا إذا مرّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم غطوا رؤوسهم وثنوا صدورهم ليستخفوا منه فلا يعرفهم ، قاله أبو رزين .

الخامس : أن رجلاً قال إذا أغلقت بابي وضربت ستري وتغشيت ثوبي وثنيت صدري فمن يعلم بي ؟ فأعلمهم الله تعالى أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون .

{ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمُ } يعني يلبسون ثيابهم ويتغطون بها ، ومنه قول الخنساء :

أرعى النجوم وما كُلّفتُ رعيتها *** وتارةً أتغشّى فضل أطماري

وفي المراد ب { حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } أربعة أقاويل :

أحدها : الليل يقصدون فيه إخفاء أسرارهم فيما يثنون صدورهم عليه . والله تعالى لا يخفى عليه ما يسرونه في الليل ولا ما يخفونه في صدروهم ، فكنى عن الليل باستغشاء ثيابهم لأنهم يتغطون بظلمته كما يتغطون إذا استغشوا ثيابهم .

الثاني : أن قوماً من الكفار كانوا لشدة بغضتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستغشون ثيابهم يغطون بها وجوههم ويصمون بها آذنهم حتى لا يروا شخصه ولا يسمعوا كلامه ، وهو معنى قول قتادة .

الثالث : أن قوماً من المنافقين كانوا يظهرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم أنهم على طاعته ومحبته ، وتشتمل قلوبهم على بغضه ومعصيته ، فجعل ما تشتمل عليه قلوبهم كالمستغشي بثيابه .

الرابع : أن قوماً من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء ، فبين الله تعالى أن المنسك ما اشتملت قلوبهم عليه من معتقد وما أظهروه من قول وعمل .

ثم بيَّن ذلك فقال : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : ما يسرون في قلوبهم وما يعلنون بأفواههم .

الثاني : ما يسرون من الإيمان وما يعلنون من العبادات .

الثالث : ما يسرون من عمل الليل وما يعلنون من عمل النهار ، قاله ابن عباس .

{ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } قيل بأسرار الصدور . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق الثقفي .


[1356]:سقط من ق.
[1357]:سقط من ك.