في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (5)

1

وبعد إعلان خلاصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . . يمضي السياق يعرض كيف يتلقى فريق منهم تلك الآيات ، عندما يقدمها لهم النذير البشير ، ويصور الوضع الحسي الذي يتخذونه والحركة المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم للتخفي . ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم الله يتابعهم في أخفى أوضاعهم ؛ وكل دابة في الأرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق :

( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . كل في كتاب مبين ) . .

والآيتان الكريمتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره !

ويا لها من رهبة غامرة ، وروعة باهرة ، حين يتصور القلب البشري حضور الله - سبحانه - وإحاطة علمه وقهره ؛ بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الاستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله :

( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون . إنه عليم بذات الصدور ) . .

ولعل نص الآية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول الله [ ص ] يسمعهم كلام الله ؛ فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم استخفاء من الله الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلام . . وذلك كما ظهر منهم في بعض الأحيان !

ولا يكمل السياق الآية حتى يبين عبث هذه الحركة ، والله ، الذي أنزل هذه الآيات ، معهم حين يستخفون وحين يبرزون . ويصور هذا المعنى - على الطريقة القرآنية - في صورة مرهوبة ، وهم في وضع خفي دقيق من أوضاعهم . حين يأوون إلى فراشهم ، ويخلون إلى أنفسهم ، والليل لهم ساتر ، وأغطيتهم لهم ساتر . ومعذلك فالله معهم من وراء هذه الأستار حاضر ناظر قاهر . يعلم في هذه الخلوة ما يسرون وما يعلنون :

( ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .

والله يعلم ما هو أخفى . وليست أغطيتهم بساتر دون علمه . ولكن الإنسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه وحيد لا يراه أحد . فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه ، ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها ، فيخيل إليه أنه ليس هناك من عين تراه !

( إنه عليم بذات الصدور ) . .

عليم بالأسرار المصاحبة للصدور ، التي لا تفارقها ، والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه ، أو المالك ملكه . . فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور . ومع ذلك فالله بها عليم . . وإذن فما من شيء يخفى عليه ، وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع .