180- وكما شرع الله القصاص لصلاح الأمة وحفظ المجتمع ، كذلك شرع الله شريعة فيها صلاح الأسرة وحفظ كيانها وهي شريعة الوصية ، فعلى من ظهرت أمامه إمارات الموت وعلم أنه ميت لا محالة ، وكان ذا مال يعتد به أن يجعل من ماله نصيباً لمن يدرك من والديه وأقاربه - الأقربين غير الوارثين - وليراع في ذلك ما يحسن ويقبل في عرف العقلاء فلا يعطى الغنى ويدع الفقير ، بل يؤثر ذوي الحاجة ولا يسوي إلا بين المتساوين في الفاقة ، وكان ذلك الفرض حقاً واجباً على من آثر التقوى واتبع أوامر الدين .
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )
وقوله تعالى : { كتب عليكم } الآية ، كأن الآية متصلة بقوله { يا أيها الذين آمنوا } فلذلك سقطت واو العطف( {[1630]} ) ، و { كتب } معناه فرض وأثبت ، وقال بعض أهل العلم : الوصية فرض ، وقال قوم : كانت فرضاً ونسخت ، وقال فريق : هي مندوب إليها ، و { كتب } عامل في رفع { الوصية } على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات( {[1631]} ) ، وسقطت علامة التأنيث من { كتب } لطول الكلام فحسن سقوطها ، وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل ، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل { الوصية } في { إذا } لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو { الوصية } ، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة( {[1632]} ) ، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون { كتب }( {[1633]} ) هو العامل في { إذا } والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجه الإيجاب ب { كتب } لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، و { الوصية } مفعول لم يسم فاعله ب { كتب } وجواب الشرطين { إذا } و { إن } مقدّر( {[1634]} ) ، يدل عليه ما تقدم من قوله { كتب عليكم } ، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا ، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير : كتب عليكم الإيصاء ، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في { إذا } ، وترتفع { الوصية } بالابتداء وفيه جواب الشرطين( {[1635]} ) على نحو ما أنشد سيبويه : [ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللَّهُ يَحْفظُهَا( {[1636]} ) . . . أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير : فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قيل : فالوصية للوالدين ، ويتجه في إعرابها أن تكون { الوصية } مرتفعة ب { كتب } على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وتكون { الوصية } هي العامل في { إذا } ، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية ، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول ، وذلك كالألف واللام حيث توصل( {[1637]} ) ، أو كالمصدر ، وهذا في الآية مصدر وهو { الوصية } ، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفاً فإن في الظرف يسهل الاتساع ، و { إذا } ظرف ، وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر : [ الطويل ]
تَقُولُ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا بِيَمِينِهَا . . . أبَعْلِيَ هذا بِالرَّحَا المُتَقَاعِس( {[1638]} )
فإنه يرى أن «بالرحا » متعلق بقوله المتقاعس ، كأنه قال : أبَعلي هذا المتقاعس بالرحا ، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول ، وفي قوله تعالى { إذا حضر } مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته ، والخير في هذه الآية المال .
واختلف موجبوا الوصية في القدر الذي تجب منه( {[1639]} ) ، فقال الزهري وغيره : تجب فيما قل وفيما كثر ، وقال النخعي : تجب في خمسمائة درهم فصاعداً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة : في ألف فصاعداً .
واختلف العلماء في هذه الآية ، فقال فريق : محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرابة غير الوارثة( {[1640]} ) ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة : الآية عامة( {[1641]} ) وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض ، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون ، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة ، لهذا الحديث المتواتر : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث »( {[1642]} ) .
وقال ابن عمر وابن عباس أيضاً وابن زيد : الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً ، ونحو هذا قول مالك رحمه الله ، وقال الربيع بن خثيم( {[1643]} ) وغيره : لا وصية لوارث ، وقال عزْوة( {[1644]} ) بن ثابت للربيع بن خثيم : أوصِ لي بمصحفك ، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ : { وأولو الأرحام بعضَهم أولى ببعض في كتاب الله }( {[1645]} ) [ الأحزاب : 6 ] ، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه( {[1646]} ) .
وقال بعض أهل العلم : إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل ، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى { ما ننسخ من آية }( {[1647]} ) [ البقرة : 106 ] .
وقال قوم من العلماء : الوصية للقرابة أولى ، فإن كانت لأجنبي ، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم .
وقال الناس حين مات أبو العالية( {[1648]} ) : عجباً له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم .
وقال الشعبي : «لم يكن ذلك له ولا كرامة » .
وقال طاوس : «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله » وقاله جابر بن زيد .
وقال الحسن وجابر بن زيد أيضاً وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جلعها ، ويرد ثلثاها إلى قرابته .
وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء : الوصية ماضية حيث جعلها الميت ، والأقربون : جمع أقرب ، و { بالمعروف } معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تنزير( {[1649]} ) للوصية ، و { حقاً } مصدر مؤكد( {[1650]} ) ، وخص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر الناس إليها .