التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

قوله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) .

هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين . وقد كان ذلك واجبا حتى نزلت آية المواريث ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدين والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) وما بعدها من آيات في الفرائض فكان ذلك ناسخا لما بين يدينا من آية في الأمر بالوصية للوالدين والأقربين .

وبعد نزول آية المواريث في النساء فرض الله لكل ذي حق حقه في الميراث ، فما عاد الأبوان أن يرثا ، أما الأقربون فمن كان له نصيب في الميراث فليس له أن يستحق وصية ، ومن ليس له نصيب بقي على حاله من جواز الوصية له .

والظاهر من السياق في هذه الآية أن الوصية كانت مفروضة للوالدين والأقربين قبل نزول أية النساء في تبيين الفرائض . لكن الوصية باتت منسوخة بعد نزول آية البقرة هذه .

وقيل : إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بالحديثة الصحيح : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " ذلك أن آية المواريث لا يتعين فيها مفهوم النسخ بوضوح مثلما هو في الحديث .

وعلى أية حال فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بالكتاب والسنة والإجماع حتى إنها باتت بعد ذلك منهيا عنها ؛ لقوله عليه السلام : " فلا وصية لوارث " .

أما الأقارب الذين ليس لهم نصيب في الميراث فإنه يندب أو يوصى لهم في حدود ثلث المال ، بل أنهم أولى بالوصية من الأباعد ؛ لقوله سبحانه : ( والأقربين بالمعروف ) .

وفي التخصيص على الوصية والدعوة لها أخرج الشيخان عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " .

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله ( ص ) يقول ذلك إلا وعندي وصيتي .

وقوله : ( إن ترك خيرا ) الخير هو المال . ولم تحدد الآية حجم المال الذي يستحب إخراج الوصية منه . وفي تقديري أن ذلك منوط بتورع المؤمن الذي يبتغي الوصية على ألا يكون في ذلك ضير على الورثة .

وقوله : ( بالمعروف ) أي بالرفق والتوسط والاعتدال . إذ يوصي صاحب المال للأقربين وغيرهم في نغير إجحاف يلحق بالورثة . وخير ذلك ما كان معتدلا فلا إسراف ولا تقتير .

ولعل خير حجم للوصية أن يكون دون الثلث كالربع أو الخمس . ويستفاد ذلك مما ثبت في الصحيحين أن سعدا رضي الله عنه قال : يا رسول الله إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : " لا " قال : فبالشطر ؟ قال : " لا " قال : فالثلث ؟ قال " الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .

وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله ( ص ) قال : " الثلث والثلث كثير " .

وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه أوصى بالخمس . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلى من أوصي بالثلث . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أوصى بالربع .

وذهب فريق من العلماء إلى أن الذي له مال قليل وله ورثة فمن الأفضل له ترك الوصية . وقد روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم .

وثمة مسألة وهي : هل تجوز الوصية بأكثر من الثلث ؟

فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث لكن الحنفية خالفوا في ذلك إذ قالوا : إذا لم يكن للموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله . وعللوا ذلك بأن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثة أغنياء لا يتكففون الناس كما في الحديث الشريف .

وكذلك أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله .

أما إذا أذن ورثة الموصي أن تزيد الوصية على الثلث ، فقد أجازها عامة العلماء باستثناء أهل الظاهر ، إذ قالوا : لا يجوز الوصية بأكثر من الثلث حتى وإن أجازها الورثة . واستدل الجمهور على قولهم بالجواز بما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة " .

وقوله : ( حقا على المتقين ) حقا ، منصوب على المصدر ، وتقديره : حق حقا . ولا يعني الحق هنا الفرضية والوجوب . ولو كان كذلك لقال على المسلمين ، وليس المتقين وحدهم بما يدل على أن المراد بالحق الندب . وقيل : بل الوصية واجبة من قليل المال وكثيره{[209]} .


[209]:- تفسير الطبري جـ 2 ص 71 وتفسير القرطبي جـ 2 ص 267.