محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتّقين 180 } .

{ كتب عليكم } أي : فرض ، كما استفاض في الشرع { إذا حضر أحدكم الموت } أي أمارته وهو المرض المخوف { إن ترك خيرا } أي مالا ينبغي أن يوصي فيه ، وقد أطلق في القرآن " الخير " وأريد به المال في آيات كثيرة : منها هذه ، ومنها قوله : { وما تنفقوا من خير } {[982]} ، / ومنها : { وإنه لحب الخير لشديد } {[983]} ، ومنها : { رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } {[984]} إلى غيرها . وإنما سمّى المال خيرا تنبيها على معنى لطيف : وهو أن المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعا من وجه محمود . . ! كما أن في التسمية إشارة إلى كثرته ، كما قال بعضهم : لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيب . . ! وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه : ( أن عليا رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أوصي ؟ فقال له علي : إنما قال الله : { إن ترك خيرا الوصية } . إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك . . ! ) وروى الحاكم عن ابن عباس : ( من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا ! ) وقال طاوس : ( لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا ) . وقال قتادة : ( كان يقال : ألفا فما فوقها ) .

ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة ، وأن مردّها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان .

ثم ذكر نائب فاعل { كتب } بعد أن اشتدّ التشوّف إليه ، فقال { الوصية } وتذكير الفعل الرافع لها : إما لأنه أُريد بالوصية الإيصاء ، ولذلك ذكّر الضمير في قوله { فمن بدّله بعد ما سمعه } وإما للفصل بين الفعل ونائبه ، لأن الكلام لما طال ، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث . وقوله : { للوالدين } بدأ بهما لشرفهما وعظم حقّهما { والأقربين } من عداهما من جميع القرابات { بالمعروف } وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرّها .

/ وفي ( الصحيحين ) {[985]} : أن سعدا قال : ( يا رسول الله ، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي . أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : لا . . ! قال : فبالشطر ؟ قال : لا . . ! قال : فالثلث ؟ قال الثلث ، والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس ! ) .

وفي ( صحيح البخاري ) {[986]} أن ابن عباس قال : ( لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الثلث والثلث كثير ) . . !

وروى الإمام أحمد{[987]} عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة : سمعت / حنظلة بن جذيم بن حنيفة أن جدّه حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشقّ ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال حنيفة : ( إني أوصيت ليتيم لي بمائة من / الإبل كنا نسميها المطيبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا لا لا . . ! الصدقة خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن كثرت فأربعون ) ! وذكر الحديث بطوله .

ثم أكد تعالى الوجوب بقوله : { حقا } وكذا قوله { على المتقين } فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير .


[982]:[2/ البقرة/ 272] ونصها: {* ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون 272}. و[2/ البقرة/ 273] ونصها: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم 273}.
[983]:[100/ العاديات/ 8].
[984]:[28/ القصص/ 24] ونصها: {فسقى لهما ثم تولّى إلى الظّل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير 24}.
[985]:أخرجه البخاري في: 23 ـ كتاب الجنائز، 36 ـ باب رثي النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة. ونصه: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي. فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة. أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال (لا) فقلت: بالشطر؟ فقال: (لا) ثم قال الثلث، والثلث كبير (أو كثير) إنك أن تذرَ ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ بها، حتى ما تجعل في امرأتك فقلت: يا رسول الله! أخلَّف بعد أصحابي؟ قال إنك لن تخلَّف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة. ثم لعلك أن تخلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويُضرَّ بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم. لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن مات بمكة). وأخرجه مسلم في: 25 ـ كتاب الوصية، حديث5 (طبعتنا).
[986]:أخرجه البخاري في: 55 ـ كتاب الوصايا، 3 ـ باب الوصية بالثلث. ومسلم في: 25 ـ كتاب الوصية، حديث 10 (طبعتنا).
[987]:أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بالجزء الخامس صفحة 67 (طبعة الحبليّ) وهاكم الحديث بطوله، بنصه: عن ذيال بن عتبة بن حنظلة قال: (سمعت حنظلة بن جذيم، جدي، أن جده حنيفة قال لجذيم: اجمع لي بَنِيّ فإني أريد أن أوصي. فجمعهم فقال: إن أول ما أوصي أن ليتيمي هذا الذي في حجري مائة من الإبل، التي كنا نسميها في الجاهلية المطيبة. فقال جذيم: يا أبت! إني سمعت بنيك يقولون: إنما نقرّ بهذا عند أبينا. فإذا مات رجعنا فيه. قال: فبيني وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال جذيم: رضينا. فارتفع جذيم وحنيفة، وحنظلة معهم غلام وهو رديف لجذيم. فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم سلموا عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما رفعك؟ يا أبا جذيم! قال: هذا. وضرب بيده على فخذ جذيم. فقال: إني خشيت أن يفجأني الكبر أو الموت. فأردت أن أوصي. وإني قلت: إن أول ما أوصي أن ليتيمي هذا، الذي في حجري، مائة من الإبل، كنا نسميها في الجاهلية المطيبة. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأينا الغضب في وجهه. وكان قاعدا فجثا على ركبتيه. وقال لا. لا. لا. الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون. فإن كثرت فأربعون. قال فودعوه، ومع اليتيم عصا وهو يضرب جملا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عظمت هذه هراوة يتيم. قال حنظلة: فدنا بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي بنين ذوي لحى ودون ذلك، وإن ذا أصغرهم فادع الله له. فمسح رأسه وقال: بارك الله فيك، أو بورك فيه). قال ذيال: (فلقد رأيت حنظلة يؤتي بالإنسان الوارم وجهه، أو البهيمة الوارمة الضرع فيتفل على يديه ويقول: بسم الله. ويضع يده على رأسه ويقول: على موضع كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمسحه عليه. وقال ذيال: فيذهب الورم).