فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

{ كتب } وجب . { خيرا } مالا .

{ الوصية } العهد وفي أصل معناها الصلة .

عهد الله تعالى إلى المؤمنين الذين تظهر فيهم علامات الموت ولهم مال يبلغ حدا فوق القلة والكفاف أن يوصوا{[583]} بشيء من هذا الذي سيتركونه ويرتحلون عنه إلى أبويهم وقرابتهم دون تضييق على بعض مقابل الإغداق على الآخرين ، فذلك الإيصاء على هذا النحو من الحقوق التي يرعاها أهل الخشية من الله العظيم وتقواه ؛ روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) وجواب { إن ترك } { الوصية } بتقدير فاء محذوفة أي إن ترك خيرا فالوصية ، والعامل في { إذا } { كتب } والمعنى توجب إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر . . ويمكن أن يقدر المعنى ههنا كما قدر في آية { كتب عليكم القصاص في القتلى } فكما أن التقدير هناك كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه يقال هنا كتب عليكم إذا أردتم الوصية وعندكم مال كثير أن توصوا قبل حلول الموت واحتج من لم يوجب الوصية بأن قال : لو كانت واجبة لما جعلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى إرادة الموصي حيث قال في الحديث الذي أورده آنفا ( يريد أن يوصي ) ولكان ذلك لازما على كل حال وعن قتادة وغيره الآية عامة تقرر الحكم بها برهة من الدهر ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض{[584]} ؛ وكذا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول آيات المواريث : { ليس لوارث وصية }{[585]} .


[583]:جاء ذكر الوصية في القرآن الكريم في أربع: الآيات من سورة النساء قوله تعالى {.. من بعد وصية..} في الآية رقم 11 وكررت ثلاثا في الآية رقم 12.وفي سورة المائدة قوله تعالى {... حين الوصية}من الآية 106. وهذه الآية الكريمة من سورة البقرة ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث.
[584]:في البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والربع وللزوج الشطر والربع. وقيل إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى وهي قوله عليه السلام (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) مما يقول بعض علماء الأحكام: ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية وبالميراث إن لم يوصى أو ما بقي بعد الوصية لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع والشافعي وأبو الفرج وإن كان منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء وإجماع المسلمين على أنه لا تجوز وصية لوارث وأقول: لقد روى البخاري في صحيحه -وبحسبك هو- الحديث الشريف {ليس لوارث وصية} فالنسخ إذن بالسنة الصحيحة ونقل عن ابن عمر وابن عباس وابن زيد الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندبا ونحو هذا قول مالك رحمه الله وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي وقال الربيع: لا وصية. قال عروة قلت للربيع أوصي لي بمصحفك فنظر إلى ولده وقال {... وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه.
[585]:أخرج الترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) قال الترمذي حديث حسن صحيح.