المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

2- يا أيها المؤمنون لا تستبيحوا حرمة شعائر الله ، كمناسك الحج وقت الإحرام قبل التحلل منه وسائر أحكام الشريعة ، ولا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بإثارة الحرب فيها ، ولا تعترضوا لما يُهْدَى من الأنعام إلى بيت الله الحرام باغتصابه أو منع بلوغه محله ، ولا تنزعوا القلائد ، وهي العلامات التي توضع في الأعناق ، إشعاراً بقصد البيت الحرام ، وأنها ستكون ذبيحة في الحج ، ولا تعترضوا لِقُصَّادِ بيت الله الحرام يبتغون فضل الله ورضاه ، وإذا تحللتم من الإحرام ، وخرجتم من أرض الحرم ، فلكم أن تصطادوا ، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم صدوكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم . وليتعاون{[48]} بعضكم مع بعض - أيها المؤمنون - على فعل الخير وجميع الطاعات ، ولا تتعاونوا على المعاصي ومجاوزة حدود الله ، واخشوا عقاب الله وبطشه ، إن الله شديد العقاب لمن خالفه .


[48]:إن القرآن الكريم في هذه الآية سبق بالدعوة إلى التعاون جميع التشريعات الوضعية التي تهدف إلى التعاون في الخير بعشرات المئات من السنين.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } ، نزلت في الحطم ، واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة ، وخلف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : إلا ما تدعو الناس ؟ فقال : ( إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ) فقال : حسن ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان " ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرجل ، بمسلم " فمر بسرح المدينة ، فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه ، فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ، ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي . فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم ، قد خرج حاجاً ، فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } قال ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنهاهم الله عن ذلك ، وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة . وإشعارها إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار هاهنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الإبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، أنا أفلح ، عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها ، وأشعرها ، وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له ، وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار . وأما الغنم فلا تشعر بالجرح ، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يشعر الهدي . وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا تحلوا شعائر الله ) هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله ، حرمات الله ، واجتناب سخطه ، واتباع طاعته .

قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } . أي : القتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه عاما ويحرمونه عاماً .

قوله تعالى : { ولا الهدي } هو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير ، أو بقرة ، أو شاة .

قوله تعالى : { ولا القلائد } . أي الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم ، وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها ، وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها ، وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها ، فنهوا عن نزع شجرها .

قوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } . أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني الكعبة ، فلا تتعرضوا لهم .

قوله تعالى : { يبتغون } يطلبون .

قوله تعالى : { فضلاً من ربهم } . يعني الرزق بالتجارة .

قوله تعالى : { ورضواناً } أي : على زعمهم ، لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجل لهم العقوبة فيها . وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ، لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى هاهنا منسوخة بقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وبقوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] ، فلا يجوز أن يحج المشرك ، ولا يأمن كافر بالهدي والقلائد .

قوله تعالى : { وإذا حللتم } أي من إحرامكم .

قوله تعالى : { فاصطادوا } . أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد .

كقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] .

قوله تعالى : { ولا يجرمنكم } . قال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم .

قوله تعالى : { شنآن قوم } . أي بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئ ، قرأ ابن عامر وأبو بكر : شنآن قوم ، بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين ، مثل الضربان ، والسيلان ، والنسلان ، ونحوها .

قوله تعالى : { أن صدوكم عن المسجد الحرام } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم . وقال محمد بن جرير : لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، وكان الصد قد تقدم .

قوله تعالى : { أن تعتدوا } . عليهم بالقتل وأخذا لأموال .

قوله تعالى : { وتعاونوا } . أي : ليعن بعضكم بعضاً .

قوله تعالى : { على البر والتقوى } . قيل البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل البر الإسلام ، والتقوى : السنة .

قوله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . قيل : الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل : الإثم المعصية ، والعدوان البدعة .

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي ، أنا أبو الحسن بن علي بن عفان ، أنا زيد بن الحباب ، عن معاوية بن صالح ، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه ، عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " .

قوله تعالى : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا } .

اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة { وإذا حللتم فاصطادوا } . ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } . وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنّهم لا يظنّ بهم إحلال المحرّمات ، يدلّ على أنّ المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون .

ومعنى { لا تحلّوا شعائر الله } لا تحلّوا المحرّم منها بين الناس ، بقرينة قوله : { لا تحلّوا } ، فالتقدير : لا تحلّوا مُحرّم شعائرِ الله ، كما قال تعالى : في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء { فيحلّوا ما حرّم الله } [ التوبة : 37 ] ؛ وإلاّ فمِن شعائر الله ما هو حلال كالحَلق ، ومنها ما هو واجب . والمحرّمات معلومة .

والشعائر : جمع شعيرة . وقد تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] . وقد كانت الشعائر كلّها معروفة لديهم ، فلذلك عدل عن عدّها هنا . وهي أمكنة ، وأزمنة ، وذوات ؛ فالصفا ، والمروة ، والمشعر الحرام ، من الأمكنة . وقد مضت في سورة البقرة . والشهر الحرام من الشعائر الزمانية ، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات . فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئيّ على كلّيّة للاهتمام به ، والمراد به جنس الشهر الحرام ، لأنَّه في سياق النفي ، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى : { منها أربعة حُرُم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم } [ التوبة : 36 ] . فالتعريف تعريف الجنس ، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع . وقال ابن عطيّة : الأظهر أنّه أريد رجب خاصّة ليشتدّ أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، فإنَّما خُصّ بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرّمونه ، فلذلك كان يعرف برَجب مضر ؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرّمونه . وكان يقال له : شهر بني أميّة أيضاً ، لأنّ قريشاً حرّموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلّها لقول عوف بن الأحوص :

وشهرِ بني أميّة والهَدايا *** إذا حبست مُضرّجُها الدقاء

وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعمّ . والأظهر أنّ التعريف للجنس ، كما قدّمناه .

والهدي : هو ما يهدى إلى مناسك الحجّ لينحر في المنحر من مِنى ، أو بالمروة ، من الأنعام .

والقلائد : جمع قِلادة وهي ظفائر من صوف أو وَبَر ، يربط فيها نعلان أو قطعة من لِحَاءِ الشجر ، أي قِشره ، وتوضع في أعناق الهدايا مشبَّهة بقلائد النساء ، والمقصود منها أن يُعرف الهدي فلا يُتَعرّض له بغارة أو نحوها . وقد كان بعض العرب إذا تأخّر في مكة حتّى خرجت الأشهر الحُرُم ، وأراد أن يرجع إلى وطنه ، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يُتَعرّضُ له بسوء .

ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته ، وهذا كقول أبي بكر : والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه .

على أنّ القلائد ممّا ينتفع به ، إذ كان أهل مكة يتّخذون من القلائد نعالاً لفقرائهم ، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن ، وهي شُقق من ثياب توضع على كفل البدنة ؛ فيتّخذون منها قُمصاً لهم وأزُراً ، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأنّ في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } [ إبراهيم : 37 ] قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [ المائدة : 97 ] .

وقوله : { ولا آمّين البيت الحرام } عطف على { شعائر الله } : أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجّاج ، فالمراد قاصدوه لحجّه ، لأنّ البيت لا يقصد إلاّ للحجّ ، ولذلك لم يقل : ولا آمِّين مكة ، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه ، لأنّ من جملة حُرمَة البيت حرمة قاصده . ولا شك أنّ المراد آمِّين البيت من المشركين ؛ لأنّ آمِّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال . وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول : وهو أن خيلاً من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضُبَيْعَة الملقّب بالحُطَم ( بوزن زُفر ) ، والمكنّى أيضاً بابننِ هند . نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عَمْرو بننِ مَرْثَد ، وكان الحُطَم هذا من بكر بن وائل ، من نزلاء اليمامة ، فترك خيلَه خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إلام تدعو » فقال رسول الله : " إلى شهاد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة " فقال : حَسَن ما تدعو إليه وسأنظُرُ ولعلّي أن أسْلِم وأرى في أمرك غِلظة ولي مِن وَرائي مَنْ لا أقطَع أمراً دونهم وخرج فمرّ بسَرْح المدينة فاستاق إبلاً كثيرة ولحقه المسلمون لمَّا أُعلموا به فلم يلحقوه ، وقال في ذلك رجزاً ، وقيل : الرجزُ لأحد أصحابه ، وهو رَشِيد بن رَمِيض العَنَزي وهو :

هذا أوَانُ الشَّدّ فاشْتَدّي زِيَمْ *** قد لَفَّها الليلُ بسَوّاق حُطَـم

ليسَ براعِي إبِلٍ ولا غَنَـم *** ولا بَجَزّار على ظَهْر وَضَم

بَاتوا نِيَاماً وابنُ هِنْد لم ينمْ *** باتَ يُقَاسِيها غُلام كالزّلَــم

خَدَلَّجُ الساقَيْنِ خَفَّاقُ القَدَم

ثم أقبل الحُطم في العام القابل وهو عام القَضية فسمعوا تلبيَة حُجَّاج اليمامة فقالوا : هذا الحُطَم وأصحابه ومعهم هَدْي هو ممَّا نهبه من إبل المسلمين ، فاستأذنوا رسول الله في نَهبهم ، فنزلت الآية في النهي عن ذلك . فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية ، وكان النهي عن التعرّض لبُدْن الحُطم مشمولاً لما اشتملت عليه هذه الآية .

والبيت الحرام هو الكعبة . وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس }

[ المائدة : 97 ] في هذه السورة . وجملة { يبتغون فضلاً من ربّهم } صفة ل { آمِّين } من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحجّ إيماء إلى سبب حرمة آمِّي البيت الحرام .

وقد نهى الله عن التعرّض للحجيج بسوء لأنّ الحجّ ابتغاء فضل الله ورضوانه ، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك ، قال النابغة :

حيّاك ربّي فإنَّا لا يَحِلّ لنــا *** لَهْوُ النساءِ وإنّ الدّين قد عَزَما

مشمّرين على خُوص مزمَّمة *** نرجو الإله ونرجو البِرّ والطُعَما

ويتنزّهون عن فحش الكلام ، قال العجّاج :

وَرَبِّ أسْراب حَجيج كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَث التكلّم

ويظهرون الزهد والخشوع ، قال النابغة :

بمُصطحبات من لَصَافٍ وثَبْرة *** بَزُرْنَ إلالاً سَيْرُهُنّ التَّدَافُعُ

عَلَيْهِنّ شُعْث عامدون لربّهـم *** فهُنّ كأطراف الحَنِيّ خَوَاشِعُ

ووجه النَّهي عن التعرّض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين : أَنّ الحالة التي قصدوا فيها الحجّ وتلبّسوا عندها بالإحرام ، حالة خَيْر وقرب من الإيمان بالله وتذكّر نعمه ، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأنّ الخير يتسرّب إلى النفس رويداً ، كما أن الشرّ يتسرّب إليها كذلك ، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله : { وتَعاونوا على البِرّ والتقوى } .

والفضلُ : خير الدنيا ، وهو صلاح العمل . والرضوان : رضي الله تعالى عنهم ، وهو ثواب الآخرة ، وقيل : أراد بالفضل الربح في التجارة ، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلاّ إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكَّة .

{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .

تصريح بمفهوم قوله : { غير محلّي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] لقصد تأكيد الإباحة . فالأمر فيه للإباحة ، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي ، لأنّ تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهياً مستمرّاً ، ثم الأمر به كذلك ، وما هنا : إنَّما هو نهي موقّت وأمر في بقيّة الأوقات ، فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر : أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب . فالصيد مباح بالإباحة الأصليّة ، وقد حُرّم في حالة الإحرام ، فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته .

و { اصطادوا } صيغة افتعال ، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل ، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد . ونظيره : اضطرّه إلى كذا . وقد نُزّل { اصطادوا } منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول .

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .

عطف على قوله : { لا تحِلّوا شعائر الله } لِزيادة تقرير مضمونه ، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدأوكم بحرب .

ومعنى { يجرمنّكم } يكسبنّكم ، يقال : جرَمه يجرمه ، مثل ضَرب . وأصله كسب ، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها ، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرَم بمعنى كسب ، قالوا : جَرم فلان لنفسه كذا ، أي كسب .

وعدّي إلى مفعول ثان وهو { أن تعتدوا } ، والتقدير : يكسبكم الشنآن الاعتداء . وأمّا تعديته بعلى في قوله : { ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا }

[ المائدة : 8 ] فلتضمينه معنى يحملنّكم .

والشنآن بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر ، وقد تسكّن النون إمَّا أصالة وإمَّا تخفيفاً هو البغض . وقيل : شدّة البغض ، وهو المناسب ، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص :

أنمِي على البغضاء والشنآن

وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب ، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس ، فهو مثل الغَليان والنزَوان .

وقرأ الجمهور : { شَنَئان } بفتح النون . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر بسكون النون . وقد قيل : إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان ، أي عدوّ ، فالمعنى : لا يجرمنّكم عدوّ قوم ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف . وإضافة شنآن إذا كان مصدراً من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي بُغضكم قوماً ، بقرينة قوله : { أنْ صدّوكم } ، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه .

وقرأ الجمهور : { أن صدّوكم } بفتح همزة ( أنْ ) . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بكسر الهمزة على أنَّها ( إن ) الشرطية ، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط .

والمسجدُ الحرام اسم جعل علَماً بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب ، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يُدعى بذلك في الجاهليّة ، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يَكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } في سورة البقرة ( 144 ) ، وسيأتي عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبْده ليلاً من المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] .

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } .

تعليل للنهي الذي في قوله : { ولا يَجْرَمنَّكم شَنئان قوم } . وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة ، ولكنَّها عُطفت : ترجيحاً لما تضمَّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل ، يعني : أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى ، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم ، كان الشأن أن يُعينوا على البرّ والتقوى ، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها ، فيصير تحصيلها رغبة لهم ، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها ، ولو كان عدوّاً ، والحجّ بِرّ فأعينوا عليه وعلى التقوى ، فهم وإن كانوا كفّاراً يُعاونُون على ما هو برّ : لأنّ البرّ يَهدي للتقوى ، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام . ولمَّا كان الاعتداء على العدوّ إنَّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدّاً عن المسجد الحرام ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً ؛ فالضمير والمفاعلة في { تعاونوا } للمسلمين ، أي ليعن بعضكم بعضاً على البرّ والتقوى . وفائدة التعاون تيسير العمل ، وتوفير المصالح ، وإظهار الاتّحاد والتناصر ، حتّى يصبح ذلك خلقاً للأمّة . وهذا قبل نزول قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] .

وقوله : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } تأكيد لمضمون { وتعاونوا على البرّ والتقوى } لأنّ الأمر بالشيء ، وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه ، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه . والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضاً عن ظلم قوم لكُم نحوَهم شنآن .

وقوله : { واتّقوا الله } الآية تذييل . وقوله : { شديد العقاب } تعريض بالتهديد .