هذه السورة مدنية نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وهي أطول سورة في القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف ، وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة ، فقد ذكرت أن القرآن مصدر الهدى ، وذكرت الذين أنعم الله عليهم بالرضا ، والذين غضب عليهم من الكفار والمنافقين .
وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن ، وأن دعوته حق لا ريب فيها ، ثم تحدثت عن أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين ، وعن الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين ، ثم خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة ، وجاء فيها تذكيرهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى عليه السلام ، وتذكيرهم كذلك بإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة ، واستغرق ذلك نحو نصف السورة ، وتخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى .
وانتقل الحديث إلى خطاب أهل القرآن بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه ، وبذكر مسألة القبلة ونحوها .
ثم جاء الحديث عن التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه ، وجاء الحديث عن الشرك ، وعن المحرمات من الطعام ، وأن التحريم والتحليل من حق الله وحده .
وتعرضت السورة لبيان أصول البر ، وذكر بعض أحكام الصيام والوصية وأكل أموال الناس بالباطل ، والقصاص والقتال والحج والخمر والميسر والنكاح والطلاق والرضاع والعدة وغيرها ، كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة والتوحيد والبعث ، وتحدثت عن الإنفاق وعن تحريم الربا والتجارة وكتابة الدّين ، ثم ختمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم أن ينصرهم ويؤيدهم .
وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :
أن اتباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة ، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه ، وأنه يجب إيثار الخير على الشر ، وترجيح الأعلى على الأدنى .
وأن أصول الدين ثلاثة ، وهي : الإيمان بالله ، والإيمان بالبعث ، والعمل الصالح .
وأن الجزاء على الإيمان والعمل معا ، وأن شرط الإيمان هو : الإذعان النفسي والتسليم القلبي لكل ما جاء به الرسول ، وأن غير المسلمين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبع المسلمون دين هؤلاء .
وأن الولاية العامة الشرعية يجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل ، لا لأهل الكفر والظلم . وأن الإيمان بدين الله كما أنزله يستلزم الوحدة والاتفاق ، وأن ترك الاهتداء بذلك يورث الاختلاف والشقاق ، وأن تحقيق الأمور الجليلة يستعان عليه بالصبر والصلاة ، وأن التقليد الأعمى باطل يؤدي إلى الجهالة والعصبية .
وأن الله أحل لعباده الطيبات من المطعم ، وحرم أشياء خبيثة محدودة ، ولا يجوز لغير الله أن يحل أو يحرم ، وأن المحرمات تباح للمضطر لأن الضرورات تبيح المحظورات وتقدر الضرورة بقدرها ، وأن الدين مبني على اليسر ورفع الحرج ، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يأمر عباده إلا بما يطيقون ، وأن إلقاء النفس إلى التهلكة حرام لا يجوز ، وأن الأشياء تطلب بأسبابها ووسائلها المؤدية إليها ، وأن الإكراه في الدين ممنوع ، وأن القتال مشروع في الإسلام للدفاع ، ولتأمين حرية الدين ، وتأمين سيادة الإسلام في مجتمعه .
وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا ، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة ، وأن سد الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة .
وأن الإيمان والصبر سببان لنصرة القلة العادلة على الكثرة الباغية ، وأن أكل أموال الناس بالباطل حرام ، وأن الإنسان مجزي بعمله لا بعمل غيره ، وأن حكمة التشريع يدركها العقل السليم لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد .
1- ألف لام ميم : هذه حروف ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها ليشير بها إلى إعجاز القرآن الكريم المؤلف من حروف كالحروف التي يؤلِّف منها العرب كلامهم ، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وهى مع ذلك تنطوي على التنبيه للاستماع لتميز جرسها .
قوله تعالى : { الم } . قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سر القرآن ، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى ، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها . قال أبو بكر الصديق : في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور ، وقال علي : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إن لكل كتاب سراً ، وإن سر القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما سوى ذلك . وقال جماعة : هي معلومة المعاني ، فقيل : كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص : الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق . وقيل في ( المص ) أنا الله الملك الصادق ، وقال الربيع بن أنس : في الم الألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه المجيد . وقال محمد بن كعب : الألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى ( الم ) : أنا الله أعلم : ومعنى ( المص ) : أنا الله أعلم وأفصل ، ومعنى ( الر ) : أنا الله أرى ، ومعنى ( المر ) : أنا الله أعلم وأرى . قال الزجاج : وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة يريدها كقولهم :
قلت لها قفى لنا فقالت لي قاف *** . . . . . . . .
أي : وقفت ، وعن سعيد بن جبير قال : هي أسماء الله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنك تقول ( الر ، وحم ، ون ) ، فيكون الرحمن ، وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها ، وقال قتادة : هذه الحروف أسماء القرآن . وقال مجاهد و ابن زيد : هي أسماء السور ، وبيانه : أن القائل إذا قال : قرأت ( المص ) . عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت ب ( المص ) ، وروى عن ابن عباس أنها أقسام ، وقال الأخفش : إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ، ومبادي أسمائه الحسنى .
سورة البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان
هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة . وهي أطول سور القرآن على الإطلاق . والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى ؛ فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية الأخرى - وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت - تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية ؛ إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها ؛ وأن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها - لا جميعها - وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كأيات الربا ، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة .
فأما تجميع آيات كل سورة في السورة ، وترتيت هذه الآيات ، فهو توقيفي موحى به . . روى الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ، وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟ وما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله [ ص ] كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ؛ فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : " ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ؛ وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وخشيت أنها منها ؛ وقبض رسول الله [ ص ] ولم يبين لنا أنها منها . فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتها في السبع الطوال .
فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول الله [ ص ] وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي [ ص ] أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل . وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي [ ص ] القرآن ، وفي رواية فيدارسه القرآن ، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة . ومن الثابت أن رسول الله [ ص ] وقد قرأ القرآن كله على جبريل - عليه السلام - كما أن جبريل قد قرأه عليه . . ومعنى هذا أنهما قرآه مرتبة آياته في سوره .
ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة ! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس ! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص . ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ؛ ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة ، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو . ولها إيقاع موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة . . وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا . ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة .
هذه السورة تضم عدة موضوعات . ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا . . فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة ، واستقبالهم لها ، ومواجهتهم لرسولها [ ص ] وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها . . . وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة ، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى . . وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها ؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض ، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها ، ونقضهم لعهد الله بخصوصها ، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام - صاحب الحنيفية الأولى ، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم . . وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين ، كما سيجيء في استعراضها التفصيلي .
ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة ، وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة ، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى . . يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء . مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها - مع اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور ؛ من أعدائها وأوليائها على السواء . مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد ؛ ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور ؛ ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق ، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة . . وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني .
لقد تمت هجرة الرسول [ ص ] إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم . تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة ؛ وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره . . كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة - وبخاصة بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - وموت أبي طالب كافل النبي وحاميه . . كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها . ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها ، بموقف قريش منها ، وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل ، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار ، في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول وعشيرته الأقربين ، وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغيرهم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة . وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير ، على الدخول في عقيدة رجل تقف منه عشيرته هذا الموقف . وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة ، وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة !
ومن ثم كان بحث الرسول [ ص ] عن قاعدة أخرى غير مكة ، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية ، ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة . حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة . . وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة .
ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب ، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة ، عدة اتجاهات . . سبقها الاتجاه إلى الحبشة ، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل . والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية . فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين . غير أن الأمر كان على الضد من هذا ، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا . إنما هاجر رجال ذوو عصبيات ، لهم من عصبيتهم - في بيئة قبلية - ما يعصمهم من الأذى ، ويحميهم من الفتنة ؛ وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين ، منهم جعفر بن أبي طالب - وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي [ ص ] ومنهم الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو سلمة المخزومي ، وعثمان بن عفان الأموي . . . . وغيرهم . وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا . . وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش ؛ وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم ، فرارا من الجاهلية ، تاركين وراءهم كل وشائج القربى ، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا ؛ وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة ، بنت أبي سفيان ، زعيم الجاهلية ، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها . . ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة ، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة . وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة . ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه ، كما ورد في روايات صحيحة .
كذلك يبدو اتجاه الرسول [ ص ] إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة . . وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول الله [ ص ] أسوأ استقبال ، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة ، حتى أدموا قدميه الشريفتين ، ولم يتركوه حتى آوى إلى حائط [ أي حديقة ] لعتبة وشيبة إبني ربيعة . . وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق : " اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ؟ إلى عدو ملكته أمري ! أم بعيد يتجهمني ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
بعد ذلك فتح الله على الرسول [ ص ] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب ، فكانت بيعة العقبة الأولى ، ثم بيعة العقبة الثانية . وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة ، وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة .
وقصة ذلك في اختصار : أن النبي [ ص ] التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة من الخزرج في موسم الحج ، حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين للحج ؛ ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه . وكان سكان يثرب من العرب - الأوس والخزرج - يسمعون من اليهود المقيمين معهم ، أن هنالك نبيا قد أطل زمانه ؛ وكانت يهود تستفتح به على العرب ، أي تطلب أن يفتح لهم على يديه ، وأن يكون معهم على كل من عداهم . فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي [ ص ] قال بعضهم لبعض : تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه . . وأجابوه لما دعاهم . وقالوا له : إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم . فعسى الله أن يجمعهم بك . . ولما عادوا إلى قومهم ، وعرضوا الأمر عليهم ، ارتاحوا له ، ووافقوا عليه .
فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج ، فالتقوا بالنبي [ ص ] وبايعوه على الإسلام . وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم .
وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك ، فطلبوا أن يبايعوه ، وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي [ ص ] على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم . وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى . . ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي : قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ؛ واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقبل !
وهكذا أخذوا الأمر بقوة . . ومن ثم فشا الإسلام في المدينة ، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا ، تاركين وراءهم كل شيء ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط . ثم هاجر رسول الله [ ص ] وصاحبه الصديق . هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا . . وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول [ ص ] .
من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة . وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقومات الإيمان ، وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا . ولكنها أولا تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . . )
ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار ؛ وهو يمثل مقومات الكفر على الإطلاق . ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك ، سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . .
كذلك كانت هناك طائفة المنافقين . ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها ، والتي أشرنا إليها من قبل ؛ ولم يكن لها وجود بمكة . فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة ، بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها . على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا ، وكانت الدعوة مطاردة ، وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم ، الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء . فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة - أي مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد ؛ ويضطر لمصانعتها كثيرا أو قليلا - وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما - وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء ، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم . ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة . .
وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين ، ندرك من بعض فقراته أن المعني بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام ، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس ، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين ! : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ؛ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزؤون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ، وما كانوا مهتدين . مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون . أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ، والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ، إن الله على كل شيء قدير . . )
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في قلوبهم مرض - نجد إشارة إلى( شياطينهم ) . والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود ، الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد . أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة :
لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة ؛ وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة . . كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب - الأوس والخزرج - ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء ، إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب . ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام - وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا ! - فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا . . فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه . ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم ، ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج ، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون بالأنصار ، إلى المهاجرين ، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق .
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأن فيهم الرسالة والكتاب . فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما . فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب ! فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب الله ، بحكم أنهم أعرف به من المشركين ، وأجدر بالاستجابة له من المشركين . . أخذتهم العزة بالإثم ، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة !
ثم إنهم حسدوا النبي [ ص ] حسدا شديدا . حسدوه مرتين : مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب - وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة .
على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى : ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف ! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة . ويذوبوا في المجتمع الإسلامي . وهما أمران - في تقديرهم - أحلاهما مر !
لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة ، [ وسور غيرها كثيرة ] في تفصيل دقيق ، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه . . جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذ النداء العلوي لهم : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟ وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . . وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وجحودهم لنعم الله عليهم ، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم . . ونكثهم لعهد الله معهم . . جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم : ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . . ( وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) . . ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ) . . . ( وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله . قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ) . . . ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) . . . ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) . . . ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) . . . ( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . تلك أمانيهم ) . . . ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) . . . الخ الخ .
وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا . مما جعل القرآن يخاطبهم - في عهد النبي [ ص ] كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى - عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي ، ودورهم هو هو ، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان ! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين . ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها . وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما ! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد ، وحرب منوعة المظاهر ، متحدة الحقيقة !
وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف ، وهذا التنبيه ، وهذا التحذير ، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا . .
تبدأ السورة - كما أسلفنا - بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة - بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكرهم فيما بعد مطولا - وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك . ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها . في وحدة ملحوظة ، تمثل الشخصية الخاصة للسورة ، مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها .
فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى : المتقين . والكافرين . والمنافقين . وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين . . نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده . وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله . وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة . . ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ! هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، وهو بكل شيء عليم ) . .
وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض : ( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . . وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف - وهو عهد الإيمان - : ( قلنا : اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل - أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق - تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى - عليه السلام - وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة .
ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه . . لقد كانوا أول كافر به . وكانوا يلبسون الحق بالباطل . وكانوا يأمرون الناس بالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم . وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه . وكانوا يخادعون الذين آمنوا باظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته ! وكانوا يريدونإن يردوا المسلمين كفارا . وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون هذا أيضا - وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل - عليه السلام - بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم ! وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء . وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى - كما فعلوا عند تحويل القبلة - وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين .
ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ؛ وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى - عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم . وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل ، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل .
وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم ، وهم على هذه الجبلة الملتوية القصد ، المؤوفة الطبع . كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون ، بما أنهم ورثة إبراهيم . وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته ، ويتقيدون بعهده مع ربه ؛ وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد [ ص ] والمؤمنين به ، بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج الله ؛ ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه . وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) .
وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي [ ص ] وإلى الجماعة المسلمة من حوله ؛ حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض ، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص ، وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص .
ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة . وهي البيت المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله وحده ، هذه القبلة التي كان النبي [ ص ] يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .
ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة . منهج التصور والعبادة ، ومنهج السلوك والمعاملة ، تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها ، إنما هو ابتلاء ، ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته وهداه . وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه وفضلا . وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . . وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب . وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله . وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى . وأحكام الوصية . وأحكام الصوم . وأحكام الجهاد . وأحكام الحج . وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة . وأحكام الصدقة وأحكام الربا . وأحكام الدين والتجارة . . .
وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى . وعن حلقات من قصةإبراهيم . ولكن جسم السورة - بعد الجزء الأول منها - ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة ، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها الخاص للوجود ، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى .
وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها ، فيبين طبيعة التصور الإيماني ، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم ، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه ، مع السمع والطاعة : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا ، وارحمنا ، أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين . . )
ومن ثم يتناسق البدء والختام ، وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان .
تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة : " ألف . لام . ميم " . يليها الحديث عن كتاب الله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ) . .
ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية . وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة . نختار منها وجها . إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف ، وهي في متناول المخاطبين به من العرب . ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله . الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابا !
والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا . وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس . . أن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات . فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة ، أو آنية أو أسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائنا في دقته ما يكون . . ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة . حياة نابضة خافقة . تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز . . سر الحياة . . ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر ، ولا يعرف سره بشر . . وهكذا القرآن . . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ، ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا ، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات ، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض . . هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة !
بحول الله تعالى ومعونته هذه السورة مدنية ، نزلت في مدد شتى ، وفيها آخر آية( {[1]} ) نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] ، ويقال لسورة البقرة : ( فسطاط القرآن ) لعظمها وبهائها ، وما تضمنت من الأحكام والمواعظ .
وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام( {[2]} ) ، وفيها خمسمائة حكم( {[3]} ) ، وخمسة عشر مثلا ، وروى الحسن ابن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال : ( أي القرآن أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلمن قال : سورة البقرة ) ، ثم قال : ( وأيها أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : آية الكرسي ) ( {[4]} ) ، ويقال : إن آيات الرحمة والرجاء والعذاب تنتهي فيها معانيها إلى ثلاثمائة وستين معنى . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين( {[5]} ) من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش ) ( {[6]} ) .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرق ، أو غمامتان سودوان ، أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما ) ( {[7]} ) وفي البخاري أنه عليه السلام قال : ( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) ( {[8]} ) .
وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان ) ( {[9]} ) . وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( لكل شيء سنام ، وسنام القرآن سورة البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن ، وهي آية الكرسي ) ( {[10]} ) .
وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية ، وقيل : وست وثمانون آية ، وقيل : وسبع وثمانون .
اختلف في الحروف التي في أوائل السورة على قولين :
قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : «هي سرّ الله في القرآن ، وهي من المتشابه( {[152]} ) الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن يتكلم فيها ، ولكن يؤمن بها وتُمَرُّ كما جاءت » .
وقال الجمهور من العلماء : «بل يجب أن يُتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها » واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولاً : ( {[153]} )
فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : «الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم ، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها » .
وقال ابن عباس أيضاً : «هي أسماء الله أقسم بها » .
وقال زيد بن أسلم : «هي أسماء للسور » .
وقال قتادة : «هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر » .
وقال مجاهد : «هي فواتح للسور » . قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد : «بل » و «لا بل » . نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش .
وقال قوم : «هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حيي بن أخطب( {[154]} ) » وهو قول أبي العالية رفيع وغيره .
وقال قطرب وغيره : «هي إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم ، فقوله { الم } بمنزلة قولك أ ، ب ، ت ، ث ، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفاً » .
وقال قوم : «هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاباً في أول سور منه حروف مقطعة » .
وقال ابن عباس : «هي حروف تدل على : أنا الله أعلم ، أنا الله أرى ، أنا الله أفصّل »( {[155]} ) .
وقال ابن جبير عن ابن عباس : «هي حروف كل واحد منها إما أن يكون من اسم من أسماء الله ، وإما من نعمة من نعمه ، وإما من اسم ملك من ملائكة ، أو نبي من أنبيائه » .
وقال قوم : «هي تنبيه ك " يا " في النداء » .
وقال قوم : «روي أن المشركين لما أعرضوا( {[156]} ) عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة » .
قال القاضي أبو محمد : والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل : لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر : [ الواليد بن المغيرة ] [ الرجز ] .
قلنا لها قفي فقالت قاف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[157]} )
أراد قالت : وقفت . وكقول القائل( {[158]} ) : [ زهير بن أبي سلمى ] [ الرجز ] .
بالخير خيرات وإن شرّاً فا . . . ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد : وإن شرّاً فشر ، وأراد : إلا أن تشاء . والشواهد في هذا كثيرة ، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرْتَ عنها أو عطفْتَها فإنك تُعربها .
وموضع { الم } من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، أو على أنه ابتداء ، أو نصب بإضمار فعل ، أو خفض بالقسم ، وهذا الإعراب( {[159]} ) يتجه الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف ، والنصب في بعض ، والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها .