قوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } يخلقهم أولاً ثم يعيدهم بعد الموت للبعث ، { وهو أهون عليه } قال الربيع بن خثيم ، وقتادة والكلبي : أي : هو هين عليه وما شيء عليه بعزيز ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس . وقد يجيء أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق .
إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعز وأطول
أي : عزيزة طويلة . وقال مجاهد وعكرمة : وهو أهون عليه : أي : أيسر ، ووجهه أنه على طريق ضرب المثل ، أي : هو أهون عليه على ما يقع في عقولكم ، فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء ، أي : الابتداء . وقيل : هو أهون عليه عندكم . وقيل : وهو أهون عليه ، أي : على الخلق ، يقومون بصيحة واحدة ، فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفاً ، ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساءً ، وهذا معنى رواية ابن حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس . { وله المثل الأعلى } أي : الصفة العليا { في السموات والأرض } قال ابن عباس : هي أنه ليس كمثله شيء . وقال قتادة : هي أنه لا إله إلا هو ، { وهو العزيز } في ملكه ، { الحكيم } في خلقه .
ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون :
( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده - وهو أهون عليه - وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم ) . .
وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة ، وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد : ( وهو أهون عليه ) . . وليس شيء أهون على الله ولا أصعب . ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن . فيكون )ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم ، ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته ، فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله . وهي في طبيعتها أهون وأيسر ? !
( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) . . فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد ، وليس كمثله شيء ، إنما هو الفرد الصمد .
( وهو العزيز الحكيم ) . . العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد . الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير .
وقوله { يبدأ الخلق } معناه ينشئه ويخرجه من العدم ، وجاء الفعل بصيغة الحال لما كان في هذا المعنى ما قد مضى كآدم وسائر القرون وفيه ما يأتي في المستقبل ، فكانت صيغة الحال تعطي هذا كله ، و { يعيده } معناه يبعثه من القبور وينشئه تارة أخرى ، واختلف المتأولون في قوله { وهو أهون عليه } ، فقال ابن عباس والربيع بن خيثم : المعنى وهو هين ونظيره قول الشاعر : ( لعمرك ما أدري وأني لأوجل ){[9306]} بمعنى لوجل ، وقول الآخر ( بيت دعائمه أعز وأطول ){[9307]} ، وقولهم في الأذان الله أكبر{[9308]} وقال الآخر وهو الشافعي :
فتلك سبيل لست فيها بأوحد{[9309]} . . . واستشهد بهذا البيت أبو عبيدة وهذا شاهده كثير ، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه » ، وفي بعض المصاحف و «كل هين عليه » ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة : المعنى وهو أيسر عليه ، وإن كان الكل من اليسر عليه في حيز واحد وحال متماثلة ، ولكن هذا التفضيل بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البداءة للتمرن والاستغناء عن الروية التي كانت في البدأة ، وهذان القولان الضمير فيهما عائد على الله تعالى ، وقالت فرقة أخرى : الضمير في { عليه } عائد على الخلق .
قال الفقيه الإمام القاضي : فهذا بمعنى المخلوق فقط ، وعلى التأويلين يصح أن يكون المخلوق أو يكون مصدراً من خلق ، فقال الحسن بن أبي الحسن إن الإعادة أهون على المخلوق من إنشائه لأنه في إنشائه يصير من حالة إلى حالة ، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ونحو هذا ، وفي الإعادة إنما يقوم في حين واحد ، فكأنه قال وهو أيسر عليه ، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً ، وقال بعضها : المعنى «وهو أهون » على المخلوق أن يعيد شيئاً بعد إنشائه ، أي فهذا عرف المخلوقين فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق .
قال الفقيه الإمام القاضي : والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ويؤيده قوله تعالى { وله المثل الأعلى } لما جاء بلفظ فيه استعارة واستشهاد بالمخلوق على الخالق وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به تكييف ولا تماثل مع شيء و «العزة والحكمة » ، صفتان موافقتان لمعنى الآية ، فبهما يعيد وينفذ أمره في عباده كيف شاء .