محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (27)

{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي بعد موتهم . قال أبو السعود : وتكريره لزيادة التقرير ، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي من البدء . أي بالقياس إلى ما يقتضيه معقول المخاطبين . لأن من أعاد منهم صنعة شيء ، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها . وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة .

لطائف :

الأولى – تذكير الضمير ، مع رجوعه إلى الإعادة ، لما أنها مؤولة ب ( أن يعيد ) .

الثانية – قال الزمخشري : فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدمت في قوله {[6067]} : { هو علي هين } ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص ، وهو محزه . فقيل : هو علي هين } وإن كان مستعصبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر . وأما ها هنا ، فلا معنى للاختصاص كيف ؟ والأمر مبني على ما يعقلون ، من أن الإعادة أسهل من الابتداء . فلو قدمت الصلة ، لتغير المعنى . اه .

قال الناصر : كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر ، لا بالحبر . وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر .

الثالثة – قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله {[6068]} : { ثم إذا دعاكم } حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره ، ثم هونت بعد ذلك ؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة . لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء . انتهى .

قال الناصر : إنما يلقى في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها ب ( ثم ) إيذانا بتغاير مرتبتها وعلو شأنها . وقوله : ( في الجواب ) : إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء ، لا يخلص . فإن الإعادة ذكرت ها هنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره . وقيامها ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة . فيلزم تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء . ويعود الإشكال . والمخلص ، والله أعلم ، جعل ( ثم ) على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب . وإن سلم أنها لتراخي المراتب ، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا ، ومرتبة المعطوف هي الدنيا . وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب . فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع ، أرفع درجة من المعطوف عليه ، والله أعلم . انتهى .

وفي ( حواشي القاضي ) : إن ( ثم ) إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها . أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى ، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي في الزمان . والمراد عظمه في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه . فلا ينافي قوله : { وهو أهون عليه } وكونه أعظم من قيام السماء والأرض ، لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء ، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات . وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات . فاندفع اعتراض الناصر بأنه ، على تسليمه ، مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا مع أن يكون المعطوف في مثله أرفع درجة ، أكثري لا كلي . كما صرح به الطيبي هنا . فلا امتناع فيما منعه . وهي فائدة نفسية . ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في ( شرح الكشاف ) وقوله تعالى : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما . كالقدرة العامة والحكمة التامة . وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل ، عقبه بهذا . فكأنه قيل هذا ، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة . فكل شيء بدءا وإعادة وإيجادا وإعداما ، عنده على حد سواء ، ولا مثل له ولا ند . وقال الزجاج : المراد بالمثل قوله : { وهو أهون عليه } فاللام فيه للعهد . فحمل المثل على ظاهره . وعلى ما ذكر أولا ، هو مجاز عن الوصف العجيب . فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل . اه { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي الغالب على أمره ، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته { الْحَكِيمُ } الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة .


[6067]:(19 مريم 9 و 21).
[6068]:(30 الروم 25).