السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (27)

ثم ذكر المدلول الآخر بقوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق } أي : على سبيل التجديد كما تشاهدون ، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال { ثم يعيده } أي : بعد الموت للبعث . وفي قوله تعالى { وهو أهون عليه } قولان أحدهما : أنها للتفضيل على بابها ، وعلى هذا يقال : كيف يتصوّر التفضيل والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حدّ سواء ؟ وفي ذلك أجوبة أحدها : إنّ ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أنّ إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانه وتعالى ، فخوطبوا بحسب ما ألفوه . ثانيها : أنّ الضمير في عليه ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي : والعود أهون على الخلق أي : أسرع ؛ لأنّ البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنساناً ، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل : وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالاً ، والمعنى : يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم يعني : أن يقوموا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساء ، وهي رواية الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس . ثالثها : أنّ الضمير في عليه يعود على المخلوق بمعنى : والإعادة أهون على المخلوق أي : إعادته شيئاً بعدما أنشأه ، هذا في عرف المخلوقين فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى والثاني : أنّ أهون ليس للتفضيل بل هي صيغة بمعنى هين كقولهم : الله أكبر أي : كبير ، وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس ، وقد يجيء أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق :

إنّ الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعز وأطول

أي : عزيزة طويلة وعود الضمير على الباري تعالى أولى ليوافق الضمير في قوله تعالى { وله المثل } أي : الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامّة والحكمة الشاملة . قال ابن عباس : هو أنه ليس كمثله شيء ، وقال قتادة : هو أنه لا إله إلا هو ، قال البيضاوي : ومن فسره بلا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية { الأعلى } أي : الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه .

ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال { في السماوات والأرض } أي : اللتين خلقهما ولم يستعصيا عليه فكيف يستعصي عليه شيء فيهما { وهو } أي : وحده { العزيز } أي : الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان { الحكيم } أي : الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره إلى التوصل إلى بعض شيء منه ، ولا تتمّ حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث بل هي الحكمة العظمى ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير .