الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (27)

قوله تعالى : " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده " أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته ، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث ، فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته ، استدلالا بالشاهد على الغائب ، ثم أكد ذلك بقوله " وهو أهون عليه " وقرأ ابن مسعود وابن عمر : " يبدئ الخلق " من أبدأ يبدئ ، دليله قوله تعالى : " إنه هو يبدئ ويعيد " {[12470]} [ البروج : 13 ] . ودليل قراءة العامة قوله سبحانه : " كما بدأكم تعودون " {[12471]} [ الأعراف : 29 ] . و " أهون " بمعنى هين ، أي الإعادة هين عليه ، قاله الربيع بن خثيم والحسن . فأهون بمعنى هين ؛ لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء . قال أبو عبيدة : ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى : " وكان ذلك على الله يسيرا " [ النساء :30 ] وبقوله : " ولا يؤوده حفظهما " [ البقرة : 255 ] .

والعرب تحمل أفعل على فاعل ، ومنه قول الفرزدق :

إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمُه أعزُّ وأطْوَلُ

أي دعائمه عزيزة طويلة . وقال آخر{[12472]} :

لعمرك ما أدري وإني لأوجل *** على أينا تعدو المنية أوَّلُ

أراد : إني لوجل . وأنشد أبو عبيدة أيضا :

إني لأمنحك الصدود وإنني *** قَسَمًا إليك مع الصدود لأَمْيَلُ{[12473]}

أراد لمائل . وأنشد أحمد بن يحيى :

تمنَّى رجالٌ أن أموتَ وإن أُمُتْ *** فتلك سبيلٌ لستُ فيهَا بأَوْحَدِ

أراد بواحد . وقال آخر :

لعمركَ إن الزِّبْرِقَانَ لباذل *** لمعروفه عند السنينَ وأفضل

أي وفاضل . ومنه قولهم : الله أكبر ، إنما معناه الله الكبير . وروى معمر عن قتادة قال : في قراءة عبد الله بن مسعود " وهو عليه هين " . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية ، أي أيسر ، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا ، وقاله ابن عباس . ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده ، يقول : إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه ، فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم ، وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء . وقيل : الضمير في " عليه " للمخلوقين ، أي وهو أهون عليه ، أي على الخلق ، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم : كونوا فيكونون ، فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء . وقاله ابن عباس وقطرب . وقيل أهون أسهل ، قال :

وهان على أسماء أن شَطَّتْ النَّوَى *** يحن إليها والهٌ ويتُوقُ

أي سهل عليها ، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى : " وهو أهون عليه " قال : ما شيء على الله بعزيز . عكرمة : تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية . " وله المثل الأعلى " أي ما أراده جل وعز كان . وقال الخليل : المثل الصفة ، أي وله الوصف الأعلى " في السموات والأرض " كما قال : " مثل الجنة التي وعد المتقون " [ الرعد : 35 ] أي صفتها . وقد مضى الكلام في ذلك{[12474]} . وعن مجاهد : " المثل الأعلى " قول لا إله إلا الله ، ومعناه : أي الذي له الوصف الأعلى ، أي الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية . وكذا قال قتادة : إن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله ، ويعضده قوله تعالى : " ضرب لكم مثلا من أنفسكم " على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى . وقال الزجاج : " وله المثل الأعلى في السموات والأرض " أي قوله : " وهو أهون عليه " قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل ، يريد التفسير الأول . وقال ابن عباس : أي ليس كمثله شيء " وهو العزيز الحكيم " {[12475]} تقدم .


[12470]:راجع ج 19 ص 294.
[12471]:راجع ج 7 ص 187 فما بعد.
[12472]:القائل هو معن بن أوس.
[12473]:البيت للأحوص بن محمد الأنصاري.
[12474]:راجع ج 9 ص 324.
[12475]:راجع ج 1 ص 287. وج 2 ص 131.