الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (27)

{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم ؛ لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وتعتذرون للصانع إذا خطيء في بعض ما ينشئه بقولكم : أوّل الغزو أخرق ، وتسمون الماهر في صناعته معاوداً ، تعنون أنه عاودها كرّة بعد أخرى ؛ حتى مرن عليها وهانت عليه .

فإن قلت : لم ذكر الضمير في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } والمراد به الإعادة ؟ قلت : معناه : وأن يعيده أهون عليه .

فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدّمت في قوله : { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } [ مريم : 21 ] ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص وهو محزه ، فقيل : هو عليّ هين ، وإن كان مستصعباً عندكم أن يولد بين همّ وعاقر ؛ وأما ههنا فلا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء ؛ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى .

فإن قلت : ما بال الإعادة استعظمت في قوله : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ } حتى كأنها فضلت على قيام السموات والأرض بأمره ، ثم هوّنت بعد ذلك ؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة ، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء . وقيل الضمير في عليه للخلق . ومعناه : أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء ، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام ، والتمام أهون عليه وأقل تعباً وكبداً ، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ . وقيل : الأهون بمعنى الهين . ووجه آخر : وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله ، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بدّ له من فعله ، لأنه لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب ، والأفعال : إما محال والمحال ممتنع أصلاً خارج عن المقدور ، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح ، وهو رديف المحال ؛ لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة . وإما تفضل والتفضل حالة بين بين ، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله . وإما واجب لا بدّ من فعله ، ولا سبيل إلى الإخلال به ، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول . فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب ، كانت أبعد الأفعال من الامتناع . وإذا كانت أبعدها من الامتناع ، كانت أدخلها في التأني والتسهل ، فكانت أهون منها . وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء { وَلَهُ المثل الأعلى } أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به . ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَهُوَ العزيز الحكيم } أي القاهر لكل مقدور { الحكيم } الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه . وعن مجاهد { المثل الأعلى } قول لا إله إلا الله ، ومعناه : وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية . ويعضده قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ الروم : 28 ] وقال الزجاج : { وَلَهُ المثل الأعلى فِى السماوات والأرض } أي : قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل . يريد : التفسير الأوّل .