39- فاستجاب الله دعاءه ، فنادته الملائكة وهو قائم في معبده متجهاً إلى ربه ، بأن الله يبشرك بولد اسمه يحيى ، يؤمن بعيسى - عليه السلام - الذي سيوجد بكلمة من الله فيكون على غير السُنَّة العامة في التوالد ، ويجعله ( أي يحيى ) يسود قومه بالعلم والصلاة ، يعزف عن الشهوات والأهواء ، ويجعله من الأنبياء والصالحين .
قوله تعالى : { فنادته الملائكة } . قرأ حمزة والكسائي : " فناداه " بالياء ، والآخرون بالتاء لتأنيث لفظ الملائكة وللجمع ، مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيها أحسن كقوله تعالى : ( قالت الأعراب ) . وعن إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يذكر الملائكة في القرآن ، قال أبو عبيدة : إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافاً للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى ، وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياء وذكروا القرآن ، وأراد بالملائكة ها هنا جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل ( ينزل الملائكة ) يعني جبريل بالروح والوحي ، ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم : سمعت هذا الخبر من الناس ، وإنما سمع من واحد ، نظيره قوله تعالى ( الذين قال لهم الناس ) يعني نعيم بن مسعود ( أن الناس ) يعني أبا سفيان بن حرب . وقال المفضل بن سلمة : إذا كان القاتل رئيساً يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه ، وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة ، وقلما يبعث إلا ومعه جمع فجرى على ذلك .
قوله تعالى : { وهو قائم يصلي في المحراب } أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول ، فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعني في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض تلمع ففزع منه فناداه وهو جبريل عليه السلام ، يا زكريا :
قوله تعالى : { إن الله يبشرك } . قرأ ابن عامر وحمزة " إن الله " بكسر الألف على إضمار القول تقديره : فنادته الملائكة فقالت إن الله ، وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه ، كأنه قال : فنادته الملائكة بأن الله يبشرك : قرأ حمزة : يبشرك ، وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله ( فبم تبشرون ) فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا في الموضعين وفي سبحان ، والكهف ، وحم عسق ، ووافق ابن كثير وأبو عمرو في " حم عسق " والباقون بالتشديد ، فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحها : دليل التشديد قوله تعالى ( فبشر عبادي ) ( وبشرناه بإسحاق ) ( قالوا بشرناك بالحق ) وغيرها من الآيات ، ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة ، وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه .
قوله تعالى : { بيحيى } هو الاسم لا يجر لمعرفته وللزائد في أوله ومثل يزيد ويعمر ، وجمعه يحيون مثل موسون ، وعيسون ، واختلفوا في أنه لم سمي يحيى ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأن الله أحيا به عقر أمه .
قال قتادة :لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، وقيل : سمي يحيى لأنه استشهد والشهداء أحياء ، وقيل :معناه يموت ، وقيل : لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية .
قوله تعالى : { مصدقاً } نصب على الحال .
قوله تعالى : { بكلمة من الله } يعني عيسى عليه السلام ، سمي عيسى كلمة الله لأن الله تعالى قال له : كن من غير أب فكان ، فوقع عليه اسم الكلمة . وقيل سمي كلمة لأنه يهتدي به بكلام الله تعالى ، وقيل : هي بشارة الله تعالى لمريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام ، وقيل : لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبياً بلا أب فمساه كلمة لحصوله بذلك الوعد ، وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه ، وكان يحيى عليه السلام اكبر من عيسى بستة أشهر ، وكانا ابني خالة ، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام ، وقال أبو عبيدة : ( بكلمة من الله ) أي بكتاب من الله وآياته ، تقول العرب : أنشدني كلمة فلان أي قصيدته .
قوله تعالى : { وسيداً } هو فعيل ، من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله .
قال المفضل : أراد سيداً في الدين ، قال الضحاك : السيد الحسن الخلق ، قال سعيد بن جبير : السيد الذي يطيع ربه عز وجل ، وقال سعيد بن المسيب : السيد الفقية العالم .
وقال قتادة : سيد في العلم والعبادة والورع ، وقيل : الحليم الذي لا يغضبه شيء ، قال مجاهد : الكريم على الله تعالى ، وقيل : السيد التقي ، قاله الضحاك : قال سفيان الثوري : الذي لا يحسد . وقيل : الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير . وقيل : هو القانع بما قسم الله له . وقيل : هو السخي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس على أنا نبخله قال : وأي داء أدوأ من البخل ؟ لكن سيدكم عمرو بن الجموح " .
قوله تعالى : { وحصوراً ونبياً من الصالحين } . والحصور أصله من الحصر وهو الحبس ، والحصور في قول ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن : الذي لا يأتي النساء ، ولا يقربهن ، وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل ؛ يعني انه يحصر نفسه عن الشهوات ، وقال سعيد بن المسيب : هو العنين الذي لاماء له ، فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء . قال سعيد بن المسيب : كان له مثل هدبة الثوب ، وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وفيه قول آخر ، إن الحصور هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه ، واختار قوم هذا القول لوجهين :أحدهما ، لأن الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء . والثاني :أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء .
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب ؟
كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن ، ولا تتقيد بمألوف الناس ؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد :
( فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى ، مصدقا بكلمة من الله . وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ) . .
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر ، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ؛ ويملك الإجابة حين يشاء . وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر ، اسمه معروف قبل مولده ؛ " يحيى " ؛ وصفته معروفة كذلك : سيدا كريما ، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات ، ويملك زمام نزعاته من الانفلات . ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله . ونبيا صالحا في موكب الصالحين .
لقد استجيبت الدعوة ، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا . ثم يحسبون أن مشيئة الله - سبحانه - مقيدة بهذا القانون ! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا - لا مطلقا ولا نهائيا - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة ، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه ، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة . . فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله . وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله ، فلا يخبط في التيه بلا دليل ، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل ، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل !
{ فنادته الملائكة } أي من جنسهم كقولهم زيد يركب الخيل . فإن المنادي كان جبريل وحده . وقرأ حمزة والكسائي " فناداه " بالإمالة والتذكير . { وهو قائم يصلي في المحراب } أي قائما في الصلاة ، و{ يصلي } صفة قائم أو خبر أو حال آخر أو حال من الضمير في قائم . { أن الله يبشرك بيحيى } أي بأن الله . وقرأ نافع وابن عامر بالكسر على إرادة القول ، أو لأن النداء نوع منه . وقرأ حمزة والكسائي ( يبشرك ) ، و{ يحيى } اسم أعجمي وإن جعل عربيا فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل . { مصدقا بكلمة من الله } أي بعيسى عليه السلام ، سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ، أو بكتاب الله ، سمي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته . { وسيدا } يسود قومه ويفوقهم وكان فائقا للناس كلهم في أنه ما هم بمعصية قط . { وحصورا } مبالغا في حبس النفس عن الشهوات والملاهي . روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت . { ونبيا من الصالحين } ناشئا منهم أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الله جلّ ثناؤه، أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقلّ ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
{وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى}: فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا. فقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا. وأما المحراب: [فهو] مقدم المسجد.
{أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ} بتشديد الشين وضمّ الياء على وجه تبشير الله زكريا بالولد.
{بِيَحْيَى} فإنه اسم أصله يَفْعَل، من قول القائل: حي فلان فهو يحيا، وذلك إذا عاش فيحيى «يَفْعَل» من قولهم «حيي». وقيل: إن الله جلّ ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بالإيمان. {مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ}: إن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك، {مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله}: يعني بعيسى ابن مريم، وعلى سننه ومنهاجه... كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلمة من الله وروح.
{وَسَيّدا}: وشريفا في العلم والعبادة.
وتأويل الكلام: إن الله يبشرك بيحيى مصدّقا بهذا وسيدا، والسيد: من قول القائل: ساد يسود... في العبادة والحلم والعلم والورع... السيد: التقيّ... الكريم على الله... الفقيه العالم... الذي لا يغلبه الغضب.
{وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ}: ممتنعا من جماع النساء من قول القائل: حصرت من كذا أحصر: إذا امتنع منه ومنه قولهم: حصر فلان في قراءته: إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، وكذلك حصر العدوّ: حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف.
وأصل جميع ذلك واحد: وهو المنع والحبس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال ثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا»، قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض، فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: «وَذَلكَ أنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ، وبذلك سماه الله سيدا وحصورا».
{وَحَصُورا}: هو الذي لا ماء له... الذي لا يقرب النساء.
{وَنَبِيّا مِنَ الصالِحِينَ}: رسولاً لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم. {مِنَ الصّالِحِينَ}: من أنبيائه الصالحين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: السيد: الذي يطيع ربه ولا يعصيه... {بيحيى}: قيل: سماه به لما حيي به الدين والمروءة، أو حيي به العلم والحكمة، أو حيي به الأخلاق الفاضلة والأفعال المرضية،... ولهذا، والله أعلم، سمي سيدا، لأن السود في الخلق يكسب بهذا النوع من الأحوال، وسمي مسيحا بالبركة، أو يبارك في كل شيء يمسه بيده نحو أن يبرأ به، ويحيى، والله أعلم. وحقيقة السود أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة والأفعال المرضية. وجائز أن يكون عليه السلام جمعهما فيه، فسمي بهما، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً ونَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ} يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يُسمَّى بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى سَمَّى يحيى سيداً، والسيد هو الذي تَجِبُ طاعته؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحُكْمِ بينه وبين بني قُرَيْظة:"قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ"؛ وقال صلى الله عليه وسلم للحسن: "إنَّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ"؛ ... وقال لبني سَلِمَةَ: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يا بني سَلِمَةَ؟ "قالوا: الحرّ بن قيس على بُخْلٍ فيه، قال: "وأيّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ! ولَكِنْ سَيِّدُكُمْ الجَعْدُ الأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ"...
فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمَّى سيداً. وليس السيد هو المالَك فحسب؛ ... وقد رُوي أن وفد بني عامر قَدِمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت سيدنا وذو الطَّوْلِ علينا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "السَّيِّدُ هو اللهُ تَكَلَّمُوا بكَلاَمِكُمْ ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ"، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل السادة من بني آدم، ولكنه رآهم متكلّفين لهذا القول، فأنكره عليهم، كما قال:"إنَّ أَبْغَضَكُمْ إليَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَشَدِّقُونَ المُتَفَيْهقُونَ"، فكره لهم تكلُّفَ الكلام على وجه التّصنّع...
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تَقُولُوا للمُنَافِقِ سَيِّداً فإنّه إنْ يَكُ سَيِّداً فَقَدْ هَلِكْتُمْ"، فنهى أن يُسَمَّى المنافق سيداً، لأنه لا تجب طاعته...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
واختلفوا في تسميته كلمة من الله على قولين: أحدهما: أنه خلقه بكلمته من غير أب. والثاني: أنه سُمِيَ بذلك لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بكلام الله عز وجل...
وسَيِّداً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الخليفة. والخامس: سيد المؤمنين، يعني بالرياسة عليهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما سأل السؤال، ولازم الباب أَتَتْهُ الإجابةُ. وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة...
"مصدقاً بكلمة من الله": أن تصديقه بكلمة "الله "فيما تعبده به، أو هو مكوَّن بكلمة الله...
"وَسَيِّدًا": السيدُ من ليس في رق مخلوق، تحرَّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق، ويقال:السيد: من تحقق بعلويته سبحانه، ويقال السيد من فاق أهل عصره، وكذلك كان يحيى عليه السلام...
"وَحَصُورًا": أي مُعْتَقاً من الشهوات، مكفياً أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر...
{وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ}: مستحقاً لبلوغ رتبتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟ كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن، ولا تتقيد بمألوف الناس؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد: (فنادته الملائكة -وهو قائم يصلي في المحراب- أن الله يبشرك بيحيى، مصدقا بكلمة من الله. وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين)...
. لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء؛ ويملك الإجابة حين يشاء. وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده؛ " يحيى"؛ وصفته معروفة كذلك: سيدا كريما، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته من الانفلات. ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله. ونبيا صالحا في موكب الصالحين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {فنادته الملائكة} للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت. وقوله: {وهو قائم} جملة حالية والمقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته؛ لأنّ دعاءه كان في صلاته...
والسيد فَيْعِل من سَاد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل...
والسيّد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معاً...
وفي الحديث "أَنا سيّد ولد آدم ولا فخر "وفيه « إنّ ابني هذا سيّد» يعني الحسنَ بن علي فقد كان الحسنُ جامعاً خصال السؤدد الشرعي، وحسبك من ذلك أنّه تنازل عن حق الخلافة لجمع كلمة الأمة، ولإصلاح ذات البين،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قوله تعالى: {أن الله يبشرك بيحيى}... واقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى ان ذلك المولود سيحيى اسمه وذكره بعد موته،وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء،إذ قال كما في سورة مريم {يرثني ويرث آل يعقوب واجعله رب رضيا} [مريم 6]. وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا،فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه؛ ولذا قال سبحانه في وصفه: {مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين}... والسيد فيعل من السيادة،وهي الشرف والتفوق والعلو،وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها،ويضبطها ويأخذ بعنانها،فلا تذل،ولا تتكبر ولا تجمح،ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور،والاستغناء عما في هذا المصر؟فقيل له:الحسن البصري فقال:وبم ساده؟قيل استغنى عما في أيدي الناس،واحتاج الناس إلى ما في يده،فقال:ذلك هو السيد حقا. فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معاني السؤدد ومكارم الأخلاق...
أنه نبي من الصالحين،وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا؛ فإن الوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه،ولكن الله سبحانه وتعالى من عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله {ومن الصالحين} إشارة إلى موطن النبوة.وموضع اختيارها،والله سبحانه وتعالى اعلم حيث يجعل رسالته،وهو سبحانه وتعالى لا يختارهم إلا من الصالحين،فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة،ويعصمهم عن المعاصي بعدها...
إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه، قام إلى الصلاة، فنادته الملائكة، وهو قائم يصلي، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته، {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ}...
والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي يبشر، فهو الذي يقدر، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة، {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} لقد قال له الله: سأعطيك. وزيادة على العطاء سماه الله ب {يَحْيَى} وفوق كل ذلك: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}...
ولننظر إلى دقة الحق حين يقول: {بِيَحْيَى مُصَدِّقاً}. هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق، وهو سيأتي بكلمة من الله، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام...