المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

219- ويسألونك - يا محمد - عن حكم الخمر والقمار ، فقل : إن فيهما ضرراً كبيراً من إفساد الصحة وذهاب العقل والمال وإثارة البغضاء والعدوان بين الناس ، وفيهما منافع وبعض المنافع الصحية والربح السهل ، ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما . ويسألونك عمَّا ينفقون ، فأجبهم أن ينفقوا في ذات الله السهل اليسير الذي لا يشق عليكم إنفاقه ، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فيما يعود عليكم من مصالح الدنيا والآخرة{[18]} .


[18]:هذه الآية تقرر حقيقة ثابتة هي أن الخمر والميسر منافع عرضية، كما أن فيهما إثما كبيرا، وأن هذا الإثم أكبر مما يتراءى فيهما من منافع، فشارب الخمر ينتفع ببعض النشوة التي تنقلب إلى خمود يؤدي شربها بعد ذلك إلى إصابته بمختلف الأمراض التي تقود شاربها إلى الإدمان عليها ويتعدى ضررها ذلك إلى الإضرار بكثير من أجهزة الجسم المختلفة كالجهاز الهضمي والعصبي والدوري والدموي، وفي تجارتها منافع مادية ولكن هذه المنافع لا تعتبر شيئا بجانب الأضرار الجسمية التي يحدثها ترويجها بين الناس. والميسر كالخمر، فالنشوة التي يشعر بها المقامر هي على حساب أعصابه واربح الذي يربحه قد يضيع في جلسة واحدة أو في مرات تالية بل قد يصيبه إدمانه بالإفلاس، والفوائد المادية التي يربحها أصحاب دور القمار لا تساوي شيئا بجانب الأضرار الجسمية التي تنجم عن نشر هذه الجريمة بين الناس.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } . الآية ، نزلت في عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر أفتنا في الخمر والميسر ؟ فإنهما مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فأنزل الله هذه الآية . وجملة القول في تحريم الخمر على ما قال المفسرون ، أن الله تعالى أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وهي : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً ) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ ، ثم نزلت في مسألة عمر ومعاذ بن جبل .

قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } . فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد تقدم في تحريم الخمر " فتركها قوم لقوله :

قوله تعالى : { إثم كبير } . وشربها قوم لقوله :

قوله تعالى : { ومنافع للناس } . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، هكذا إلى آخر السورة بحذف " لا " فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) فحرم السكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية تركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة ، وتركها قوم في أوقات الصلاة ، وشربوها في غير حين الصلاة ، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر ، واتخذ عتبان بن مالك صنيعاً ، ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص ، وكان قد شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار ، فانشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار وفخر لقومه ، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحه . فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري ، فقال عمر : اللهم بين لنا رأيك في الخمر بياناً شافياً ؟ ، فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة . إلى قوله ( فهل أنتم منتهون ) وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام ، فقال عمر رضي الله عنه . انتهينا يا رب .

قال أنس حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرم عليهم شيئاً أشد من الخمر . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما نزلت الآية في سورة المائدة حرمت الخمر ، فخرجنا بالحباب إلى الطريق فمنا من كسر جبه ، ومنا غسله بالماء والطين ، ولعله غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حيناً ، فلما مطرت استبان فيها لون الخمر ، وفاحت منها ريحها .

وعن أنس رضي الله عنه ، سميت الخمر خمرا لأنهم كانوا يدعونها في الدنان حتى تختمر وتتغير ، وعن ابن المسيب لأنها تركت حتى صفا لونها ، ورسب كدرها .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، أخبرنا ابن علية ، أخبرنا عبد العزيز بن صهيب قال : قال لي أنس بن مالك . ما كان لنا خمر غير فضيخكم ، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : حرمت الخمر . فقالوا : أهرق هذه القلائل يا أنس ، قال : فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل .

واختلف الفقهاء في ماهية الخمر ، فقال قوم : هي عصير العنب أو الرطب الذي اشتد وغلا من غير عمل النار فيه ، واتفقت الأئمة على أن هذا الخمر نجس يحد شاربها ، ويفسق ويكفر مستحلها ، وذهب سفيان الثوري ، وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعدى هذا ، ولا يحرم ما يتخذ من غيرهما كالمتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيذ ، إلا أن يسكر منه فيحرم ، وقالوا إذا طبخ عصير العنب والرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال ولكنه يكره ، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه قالوا : هو حلال مباح شربه إلا أن السكر منه حرام ، ويحتجون بما روي أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه . ورأى أبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث . وقال قوم : إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالاً ، وهو قول إسماعيل بن علية . وذهب أكثر أهل العلم إلى أن كل شراب أسكر كثيره فهو خمر ، وقليله حرام يحد شاربه . واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " .

أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن أبي سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو الربيع العتكي ، أخبرنا حماد بن زيد ، عن أيوب بن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها ولم يتب لم يشربها في الآخرة " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا أحمد بن أبي رجاء ، أنا يحيى عن أبي حيان ، عن الشعبي عن ابن عمر قال : خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنه قد نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر ، والحنطة والشعير والعسل ، والخمر ما خامر العقل .

وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً " .

فثبت أن الخمر لا يختص بما يتخذ من العنب أو الرطب .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال : إني وجدت من فلان ريح خمر أو شراب ، وزعم أنه شرب الطلاء ، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته ، فجلده عمر الحد تاماً .

وما روى عن عمر ، وأبي عبيدة ومعاذ في الطلاء فهو فيما طبخ حتى خرج عن أن يكون مسكراً .

سئل ابن عباس عن الباذق فقال : سبق حكم محمد الباذق ، فما أسكر فهو حرام .

قوله تعالى : { والميسر } . يعني القمار ، قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والميسر : مفعل من قولهم يسر لي الشيء إذا وجب بيسر يسراً وميسراً ، ثم قيل للقمار ميسر ، وللمقامر ياسر ويسر ، وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزوراً فينحرونها ، ويجزؤونها عشرة أجزاء ، ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام السبعة ، منها أنصباء وهي : الفذ وله نصيب واحد ، والتوأم وله نصيبان ، والرقيب وله ثلاثة أسهم ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسبل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، وثلاثة منها : لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد ، ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدي رجل عدل عندهم يسمى المحيل والنفيض ، ثم يحيلها ويخرج قدحاً منها باسم رجل منهم ، فأيهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج ، فإن خرج له واحد من الثلاثة التي لا أنصباء لها كان يأخذ شيئاً ، ويغرم ثمن الجزور كله . وقال بعضهم : كان لا يأخذ شيئاً ولا يغرم ، ويكون ذلك القدح لغواً ، ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك ويسمونه البرم ، وهو أصل القمار الذي كانت تفعله العرب . والمراد من الآية أنواع القمار كلها ، قال طاووس وعطاء ومجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر . حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب ، وروي عن علي رضي الله عنه في النرد والشطرنج أنهما من الميسر .

قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } . وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش ، قرأ حمزة والكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة وقرأ الباقون بالباء فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة . ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) .

قوله تعالى : { ومنافع للناس } . فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح ، واستمراء الطعام ، وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها ، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب ، وارتفاق الفقراء به . والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء .

قوله تعالى : { وإثمهما أكبر من نفعهما } . قال الضحاك وغيره : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، وقيل : إثمهما أكبر من نفعهما قبل التحريم وهو ما يحصل من العداوة والبغضاء .

قوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق ؟ فقال :

قوله تعالى : { قل العفو } . قرأ أبو عمرو والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق " العفو " بالرفع ، معناه : الذي ينفقون هو العفو . وقرأ الآخرون بالنصب ، على معنى ، قل : أنفقوا العفو . واختلفوا في معنى العفو ، فقال قتادة وعطاء والسدي : هو ما فضل عن الحاجة ، وكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة ، ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية ، ثم نسخ بآية الزكاة . وقال مجاهد : معناه : التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلاً على الناس .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد ابن مخمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أنا إبراهيم ابن عبد الله بن عمر الكوفي ، أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " .

وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال الله تعالى ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) وقال طاووس : ما يسر ، والعفو : اليسر من كل شيء ومنه قوله تعالى ( خذ العفو ) أي الميسور من أخلاق الناس . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله عندي دينار ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أنفقه على نفسك قال : عندي آخر قال : أنفقه على ولدك قال : عندي آخر ؟ قال : أنفقه على أهلك قال : عندي آخر قال : أنفقه على خادمك ، قال : عندي آخر قال : أنت أعلم .

قوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات } . قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة ، لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال : كذلك أيها القبيل ، وقيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه خطاب يشتمل على خطاب الأمة كقوله تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) .

219

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

215

ثم يمضي السياق ، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار . . وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها . يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم ، وتسغرق مشاعرهم وأوقاتهم :

( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس . وإثمهما أكبر من نفعهما )

وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر . ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما . إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها ، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها . وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر ، ولا تناسبه بعثرة العمر ، وبعثرة الوعي ، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين ، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم ، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر ؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار ؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية . أمس واليوم وغدا ! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة . .

وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم . فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا . فالخير يتلبس بالشر ، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض . ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر . فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع ، فتلك علة تحريم ومنع . وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع .

هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم . وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته . ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر .

عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني ، أي بمسألة اعتقادية ، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى .

ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد ، أو بوضع اجتماعي معقد ، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج ، ويهيء الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة .

فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك : أمضى أمره منذ اللحظة الأولى . في ضربة حازمة جازمة . لا تردد فيها ولا تلفت ، ولا مجاملة فيها ولا مساومة ، ولا لقاء في منتصف الطريق . لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور ، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام .

فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف . والعادة تحتاج إلى علاج . . فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين ، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى . . ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . والصلاة في خمسة أوقات ، معظمها متقارب ، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة ! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب ، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي ؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله . فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها . . حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) . .

وأما في الرق مثلا ، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي ، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق ، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبلتعديل ظواهرها وآثارها . والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية . . ولم يأمر الإسلام بالرق قط ، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى . ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي . ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا ، يأخذ به المحاربون جميعا . . فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل .

وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله - مع الزمن - إلا الإلغاء ، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها . وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق ، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة .

بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء . . ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان . وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد ، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض . ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين ، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السييء في عالم الرق هناك . وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام . . ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل ، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشيء . . لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى ، بل قال : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) . . ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم . وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها . فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين ، وتتبادل الأسرى من الفريقين ، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين .

وبتجفيف موارد الرق الأخرى - وكانت كثيرة جدا ومتنوعة - يقل العدد . . وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية . فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده . ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك ، فيصبح أجر عمله له ، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته - أي إنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا - ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة . والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته . . وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة . كبعض حالات القتل الخطأ ، وفدية اليمين ، وكفارة الظهار . . وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن ، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها ، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه .

فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك ؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي ، شيئافشيئا . وهذه حقيقة . . ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه . . ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه ، قليلا أو كثيرا . . ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا . . لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلامية ، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك . فالإسلام لم يتغير . ولم تضف إلى مبادئه مباديء جديدة . إنما الذي تغير هم الناس . وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم . ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه .

وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية ، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ . إنما يستأنفها من حيث يستمد استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة . .

وهذه الحقيقة مهمة جدا . سواء من وجهة التحقيق النظري ، أو النمو الحركي ، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي . ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة ، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية ، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي . ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة . وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي . ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطيء في فهم هذا التاريخ ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين !

ثم نمضي مع السياق في تقرير المباديء الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية :

( ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .

لقد سألوا مرة : ماذا ينفقون ؟ فكان الجواب عن النوع والجهة . فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة . . والعفو : الفضل والزيادة . فكل ما زاد على النفقة الشخصية - في غير ترف ولا مخيلة - فهو محل للإنفاق . الأقرب فالأقرب . ثم الآخرون على ما أسلفنا . . والزكاة وحدها لا تجزيء . فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى : فالزكاة لا تبريء الذمة إلا بإسقاط الفريضة . ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائما . إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله ، وتنفقها في مصارفها المعلومة ، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله . والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله ، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح ؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام : " في المال حق سوى الزكاة " . . حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله - وهذا هو الأكمل والأجمل - فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله ، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة . كي لا يضيع في الترف المفسد . أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل .

( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .

فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة . فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني . وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها . ولا ينشىء تصورا صحيحا للأوضاع والقيم والموازين . فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر . وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبدا إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح . . ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة . فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه ، وزكاة

لمشاعره . كما يرد عليه صلاحا للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاما وسلاما . ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظا لكل فرد . وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء ، وما فيها من قيم وموازين ، مرجحا لكفة الإنفاق ، تطمئن إليه النفس ، وتسكن له وتستريح . ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

{ يسألونك عن الخمر والميسر } روي ، أنه نزل بمكة قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } فأخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأم أحدهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون } فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت { إنما الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب . والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره ، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل ، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه ، وهي حرام مطلقا وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر .

{ والميسر } أيضا مصدر كالموعد ، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : { قل فيهما } أي في تعاطيهما . { إثم كبير } من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور ، وارتكاب المحظور . وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء . { ومنافع للناس } من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة . { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما . ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة . { ويسألونك ماذا ينفقون } قيل سائله أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف ، ثم سأل عن كيفية الإنفاق . { قل العفو } العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة ، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد . قال :

خذي العفو مني تستديمي مودتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وروي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر عليه مرارا فقال : هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى " . وقرأ أبو عمرو برفع { العفو } . { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد ، أو ما ذكر من الأحكام ، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين ، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع ، { لعلكم تتفكرون } في الدلائل والأحكام .