قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي : سافرتم .
قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } أي : حرج وإثم .
قوله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة } ، يعني من أربع ركعات إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء .
قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم } أي : يغتالكم ويقتلكم .
قوله تعالى : { الذين كفروا } ، في الصلاة ، نظيره قوله تعالى : { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } [ يونس :83 ] أي : يقتلهم .
قوله تعالى : { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } أي : ظاهر العداوة .
اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة ، واختلفوا في جواز الإتمام . فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس رضي الله عنهم . وبه قال الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد صلاة الحضر .
وذهب قوم إلى جواز الإتمام ، روي ذلك عن عثمان ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه ، إن شاء أتم هو ، وإن شاء قصر ، والقصر أفضل .
أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم . وظاهر القرآن يدل على ذلك ، لأن الله تعالى قال :{ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ، ولفظ " لا جناح " إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتماً ، فظاهر الآية يوجب أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف ، وليس الأمر على ذلك ، إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو . والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود ، عن ابن جريج ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن باباه عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ، وقد أمن الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة آمناً ، لا يخاف إلا الله ، فصلى ركعتين .
وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر ، إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف ، يروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء ، وطاووس ، والحسن ، ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية باقياً ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز . خائفاً كان أو آمناً . واختلف أهل العلم في مسافة القصر فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير ، روي ذلك عن أنس رضي الله عنه . وقال عمرو بن دينار : قال لي جابر بن زيد : اقصر بعرفة . أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير ، واختلف في حد ما يجوز به القصر ، فقال الأوزاعي : مسيرة يوم ، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً ، وإليه ذهب مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو قول الحسن ، والزهري قريب من ذلك ، فإنهما قالا : مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، قال : مسيرة ليلتين قاصدتين ، وقال في موضع : ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام . وقيل : قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } متصل بما بعده من صلاة الخوف ، منفصل عما قبله . روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : نزل قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً وإذا كنت فيهم } الآية . ومثله في القرآن كثير ، أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر ، وهو في الظاهر كالمتصل به ، وهو منفصل عنه ، كقوله تعالى : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } [ يوسف :51 ] وهذه حكاية عن امرأة العزيز ، وقوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف :52 ] إخبار عن يوسف عليه السلام .
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفي النظام الإسلامي ، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني . . وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا . لولا ما ورد في حديث : " بني الإسلام على خمس . . . " ولكن قوة التكليف بالجهاد ؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية ؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته .
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية ؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب ، أو تخاف أمام المخاطر ، وتكسل أمام العقبات ، في خير الأزمنة وخير المجتمعات . وأن منهج العلاج في هذه الحالة ، ليس هو اليأس من هذه النفوس . ولكن استجاشتها ، وتشجيعها ، وتحذيرها ، وطمأنتها في آن واحد . وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم .
وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة ؛ ويقود المجتمع المسلم ؛ ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية ؛ وطبائعها الفطرية ، ورواسبها كذلك من الجاهلية . وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن ، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله .
بعد ذلك يستطرد الى رخصة ، يبيحها الله للمهاجرين ، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة . في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى . فيفتنوهم عن دينهم . وهي رخصة القصر من الصلاة - وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف - فهذا قصر خاص .
( وإذا ضربتم في الأرض ، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينًا ) . .
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه ، تعينه على ما هو فيه ، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه ، وما هو مرصود له في الطريق . . والصلاة أقرب الصلات إلى الله . وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات . فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) . .
ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب ، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار . فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله . وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله . . غير أن الصلاة الكاملة - وما فيها من قيام وركوع وسجود - قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب . أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه . أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه . . ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة .
والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص . وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية . فهذا مرخص به للمسافر إطلاقا ، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة . بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر - كفعل رسول الله [ ص ] في كل سفر - بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال .
وإذن فهذه الرخصة الجديدة - في حالة خوف الفتنة - تعني معنى جديدا غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر . إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها . كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد . حيث يصلي الضارب في الأرض قائما وسائرا وراكبا ، ويومى ء للركوع والسجود .
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنه ، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة ، ويأخذ حذره من عدوه :
يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ [ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ]{[8180]} } الآية [ المزمل : 20 ] .
وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } أي : تخَفّفوا فيها ، إما من كميتها بأن تجعل{[8181]} الرباعية ثنائية ، كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلّوا بها على قصر الصلاة في السفر ، على اختلافهم في ذلك : فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة ، من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }
ومن قائل{[8182]} لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ [ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]{[8183]} } [ المائدة : 3 ] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره . وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة .
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر ، أختلف إلى البحرين " فأمره أن يصلي ركعتين " وهذا مرسل{[8184]} .
ومن قائل : يكفي مطلق السفر ، سواء كان مباحا أو محظورا ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، تَرَخَّص ، لوجود مطلق السفر . وهذا قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، والثوري وداود ، لعموم الآية وخالفهم الجمهور . وأما قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد يكون هذا خُرِّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله{[8185]} { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ] ، وكقوله :{[8186]} { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } الآية [ النساء : 23 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابَيْه ، عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد أمَّن الله الناس{[8187]} ؟ فقال لي عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من حديث ابن جريج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون{[8188]} وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مِغْول ، عن أبي حنظلة الحذَّاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان . فقلت : أين قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم{[8189]} .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد ، حدثنا مِنْجَاب ، حدثنا شُرَيْك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الودَّاك : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة ، نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا ابن عَوْن ، عن ابن سِيرِين ، عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون ، لا نخاف بينهما ، ركعتين ركعتين .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد الحذَّاء{[8190]} عن عبد الله بن عون ، به{[8191]} قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب ، وهشام ، ويزيد بن إبراهيم التُّسْتَرِي ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
قلت : وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن هُشَيم ، عن منصور بن زَاذَان ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة ، لا يخاف إلا ربَّ العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي : صحيح{[8192]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة . قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عَشْرًا .
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي ، به{[8193]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سُفْيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن وهب الخُزَاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين .
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عنه ، به{[8194]} ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أنبأنا أبو إسحاق ، سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين .
وقال البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله ، أخبرنا نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وأبي بكر وعمر ، ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها .
وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [ الأنصاري ]{[8195]} به{[8196]} .
وقال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد ، عن الأعمش ، حدثنا إبراهيم ، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي مع{[8197]} أربع ركعات ركعتان متقبلتان .
ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به . وأخرجه مسلم من طرق ، عنه . منها عن قتيبة كما تقدم{[8198]} .
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ؛ ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية . وهو قول مجاهد ، والضحاك ، والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فَأقرَّت صلاة السفر ؛ وَزِيد في صلاة الحضر .
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنَّيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القَعْنَبي ، والنَّسائي عن قتيبةَ ، أربعتهم عن مالك ، به{[8199]} .
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ؛ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ؟
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان - وعبد الرحمن حدثنا سفيان - عن زُبَيْد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى{[8200]} ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن زُبَيْد اليامي{[8201]} به{[8202]} .
وهذا إسناد على شرط مسلم . وقد حَكَم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى ، عن عمر . وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله . وإن كان يحيى بن مَعين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه . وعلى هذا أيضا ، فقد وقع في بعض طرق أبي يَعْلى الموصِلي ، من طريق الثوري ، عن زُبَيد ، عن عبد الرحمن [ بن أبي ليلى ]{[8203]} عن الثقة ، عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عُجْرَة ، عن عمر ، به . ، فالله أعلم{[8204]} .
وقد روى مسلم في صحيحه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري - زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد - كلاهما عن بُكَير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، [ هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي : حدثني الحسن بن مسلم بن يَسَاف عن طاوس عن ابن عباس قال : فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين ]{[8205]} فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها ، فكذلك يصلى في السفر{[8206]} .
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد ، عن طاوس نفسه{[8207]} .
فهذا ثابت عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[8208]} ولا ينافي ما تقدم عن عائشة ؛ لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم . لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر ، رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك ، فيكون المراد بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ؛ ولهذا قال : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ]{[8209]} } .
ولهذا قال بعدها : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ]{[8210]} } الآية{[8211]} فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ؛ ولهذا لما اعتضد{[8212]} البخاري " كتاب{[8213]} صلاة الخوف " صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
وهكذا قال جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .
وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ } الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، التقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة ، فالتقصير ركعة .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسفان والمشركون{[8214]} بضجْنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فَهَمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم .
روى ذلك ابن أبي حاتم . ورواه ابن جرير ، عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضا ، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب . وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به .
فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن .
وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك الحنفي : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة{[8215]} .
{ وإذا ضربتم في الأرض } سافرتم . { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه ، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر . وأن عائشة رضي الله تعالى عنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت . فقال " أحسنت يا عائشة " . وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر . فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتمام في الصحة والإجزاء ، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية . بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان ، فسمي الإتيان بهما قصرا على ظنهم . ونفي الجناح فيه لتطيب به نفوسهم ، وأقل سفر تقصر فيه أربعة برد عندنا وستة عند أبي حنيفة .
قرئ { تقصروا } من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ، ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش . { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت ، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن . وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم : وهو القتال والتعرض بما يكره .
{ ضربتم } معناه : سافرتم . فأهل الظاهر يرون القصر في كل سفر يخرج عن الحاضرة ، وهي من حيث تؤتى الجمعة ، وهذا قول ضعيف{[4246]} ، واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن راهويه : تقتصر الصلاة في أربعة برد ، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً . وحجتهم أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، وقال الحسن والزهري : تقصر الصلاة في مسيرة يومين ولم يذكرا أميالاً ، وروي هذا القول عن مالك ، وروي عنه أيضاً : تقصر الصلاة في يوم وليلة وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى ، وروي عن ابن عباس وابن عمر : أن الصلاة تقصر في مسيرة يوم التام ، وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلاً ، وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على مسيرة خمسة وأربعين ميلاً ، قال : يقصر ، وعن ابن القاسم في العتبية : أن قصر في ستة وثلاثين فلا إعادة عليه ، وقال يحيى بن عمر : يعيد أبداً ، وقال ابن عبد الحكم : في الوقت ، وقال ابن مسعود وسفيان والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن : من سافر مسيرة ثلاث قصر . قال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام وروي عن أنس بن مالك : أنه قصر في خمسة عشر ميلاً ، قال الأوزاعي : عامة العلماء في القصر في مسيرة اليوم التام ، وبه نأخذ .
واختلف الناس في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وحياء نفس ، واختلف الناس فيما سوى ذلك ، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح ، كالتجارة ونحوها ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وقال عطاء لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير ، وقد روي عن عطاء أنها تقصر في كل المباح ، والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية ، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما ، وروي عن الأوزاعي وأبي حنيفة إباحة القصر في جميع ذلك . وجمهور العلماء على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية ، وحينئذ هو ضارب في الأرض ، وهو قول مالك في المدونة وابن حبيب وجماعة المذهب ، قال ابن القاسم في المدونة : ولم يحد لنا مالك في القرب حداً ، وروي عن مالك إذا كانت قرية يجمع أهلها فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة أميال ؛ وإلى ذلك في الرجوع ، وإن كانت لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بساتينها ، وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله ، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل ، وهو شاذ ، وقد ثبت ( أن النبي عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ){[4247]} ، وليس بينهما ثلث يوم ، ويظهر من قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا } أن القصر مباح أو مخير فيه ، وقد روى ابن وهب عن مالك : أن المسافر مخير ، وقاله الأبهري ، وعليه حذاق المذهب ، وقال مالك في المبسوط : القصر سنة .
وهذا هو جمهور المذهب ، وعليه جواب المدونة بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره ، وقال محمد بن سحنون وإسماعيل القاضي : القصر فرض ، وبه قال حماد بن أبي سليمان ، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من صلى في السفر أربعاً فهو كمن صلى في الحضر ركعتين ، وحكى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب : أنه قال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ، وقد خاب من افترى ، ويؤيد هذا قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر{[4248]} ، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى : { أن تقصروا } فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنين من أربع ، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنّا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم انقطع الكلام ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي عليه السلام ، فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، فهلا شددتم عليهم ، فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها ، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } إلى آخر صلاة الخوف{[4249]} .
وذكر الطبري في سرد هذه المقالة حديث يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب ، إن الله تعالى يقول { إن خفتم } وقد أمن الناس ، فقال عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله عن ذلك فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته »{[4250]} ، قال الطبري : وهذا كله قول الحسن ، إلا أن قوله تعالى : { وإذا كنت } تؤذن بانقطاع ما بعدها مما قبلها ، فليس يترتب من لفظ الآية ، إلا أن القصر مشروط بالخوف ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا » - بسقوط { إن خفتم } وثبتت في مصحف عثمان رضي الله عنه ، وذهبت جماعة أخرى إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة القصر في السفر للخائف من العدو ، فمن كان آمناً فلا قصر له ، وروي عن عائشة أنها كانت تقول في السفر : أتموا صلاتكم ، فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر ، فقالت : إنه كان في حرب وكان يخاف ، وهل أنتم تخافون{[4251]} ؟ وقال عطاء : كان يتم الصلاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص ، وأتم عثمان بن عفان ، ولكن علل ذلك بعلل غير هذه ، وكذلك علل إتمام عائشة أيضاً بغير هذا وقال آخرون : القصر المباح في هذه الآية إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة ، والركعتان في السفر إنما هي تمام ، وقصرها أن تصير ركعة ، قال السدي : إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن يخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئاً ، ويكون للإمام ركعتان ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : ركعتان في السفر تمام غير قصر ، إنما القصر في صلاة المخافة يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة ، فتكون للإمام ركعتان ولهم ركعة ، ركعة{[4252]} ، وقال نحو هذا سعيد بن جبير وجابر بن عبد الله وكعب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاصي ذلك ، وروى ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة بكل طائفة ولم يقضوا{[4253]} ، وقال مجاهد عن ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة{[4254]} ، وروى جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم حارب خصفة وبني ثعلبة ، وروى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان{[4255]} .
وقال آخرون : هذه الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه ، إلى تكبيرتين ، إلى تكبيرة على ما تقدم من أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى : { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } [ البقرة : 239 ] ورجح الطبري هذا القول ، وقال : إنه يعادله قوله { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } أي بحدودها وهيئتها الكاملة ، وقرأ الجمهور «تَقصُروا » بفتح التاء وضم الصاد ، وروى الضبي عن أصحابه «تُقْصِروا » بضم التاء وكسر الصاد وسكون القاف وقرأ الزهري «تُقَصِّروا » بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد وشدها ، و { يفتنكم } معناه : يمتحنكم بالحمل عليكم وإشغال نفوسكم في صلاتكم ، ونحو هذا قول صاحب الحائط{[4256]} : لقد أصابتني في مالي هذا فتنة ، وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد ، وإلى هذا المعنى ترجع كيف تصرفت{[4257]} .
وعدو : وصف يجري على الواحد والجماعة ، و «مبين » مفعل من أبان ، المعنى : قد جلحوا{[4258]} في عداوتكم وراموكم كل مرام .
وقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } الآية قال جمهور الأمة : الآية خطاب للنبي عليه السلام ، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة ، وقال أبو يوسف وإسماعيل بن علية : الآية خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الصلاة بإمامة النبي عليه السلام لا عوض منها ، وغيره من الأمراء منه العوض فيصلي الناس بإمامين ، طائفة بعد طائفة ، ولا يحتاج إلى غير ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك جمهور العلماء على أن صلاة الخوف تصلى في الحضر إذا نزل الخوف ، وقال قوم : لا صلاة خوف في حضر ، وقاله في المذهب عبد الملك بن الماجشون ، وقال الطبري : { فأقمت لهم } معناه : حدودها وهيئتها ، ولم تقصر على ما أبيح قبل في حال المسايفة ، وقوله { فلتقم طائفة منهم معك } ، أمر بالانقسام ، أي وسائرهم وجاه العدو حذراً وتوقع حملته ، وأعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع ، وهي غزوة محارب وخصفة ، وفي بعض الروايات : أنها نزلت في ناحية عسفان وضجنان ، والعدو : خيل قريش ، عليها خالد بن الوليد ، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة هنا ؟ فقيل الطائفة المصلية ، وقيل : بل الحارسة .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يتناول الكل ، ولكن سلاح المصلين ما خف ، واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبي عليه السلام بأصحابه صلاة الخوف ، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء .
فروى يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة{[4259]} أنه صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائماً وأتموا ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وروى القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل هذا الحديث بعينه ، إلا أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلَّى بالطائفة الأخيرة ركعة ، سلم ، ثم قضت هي بعد سلامه ، وبهذا الحديث أخذ مالك رحمه الله في صلاة الخوف ، كان أولاً يميل إلى رواية يزيد بن رومان ، ثم رجع إلى رواية القاسم بن محمد بن أبي بكر{[4260]} .
وروى مجاهد وغيره عن ابن عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت على خلاف فيه{[4261]} : أن النبي عليه السلام صلَّى صلاة الخوف بعسفان والعدو في قبلته ، قال : فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقال المشركون : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، فقالوا : تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، قال : فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات ، وأخبره خبرهم ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر فكبروا جميعاً ، ثم ركع فركعنا جميعاً ، ثم رفع فرفعنا جميعاً ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين ، ثم ركع فركعوا جميعاً ، ثم رفع فرفعوا جميعاً ، ثم سجد النبي فسجد الصف الذي يليه ، فلما رفع سجد الآخرون ، ثم سلم فسلموا جميعاً ، ثم انصرفوا ، قال عبد الرزاق بن همام{[4262]} في مصنفه : وروى الثوري عن هشام مثل هذا ، إلا أنه قال : ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الآخرون فيسجدون في مصاف الأولين ، قال عبد الرزاق عن معمر عن خلاد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال : لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف إلا مرتين ، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه صلى صلاة الخوف في غير هذين الموطنين ، وذكر ابن عباس أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة خوف{[4263]} ، وروى عبد الله بن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك فصلى بهم النبي عليه السلام ركعة ، ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد ، وبهذه الصفة في صلاة الخوف أخذ أشهب رحمه الله ، ومشى على الأصل في أن لا يقضي أحد قبل زوال حكم الإمام ، فكذلك لا يبني ، ذكر هذا عن أشهب جماعة منهم ابن عبد البر وابن يونس وغيرهما ، وحكى اللخمي عنه : أن مذهبه أن يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا منه صاروا تجاه العدو ، وقضت الأخرى ، وهذه سنة رويت عن ابن مسعود ، ورجح ابن عبد البر القول بما روي عن ابن عمر ، وروي أن سهل بن أبي حثمة قد روي عنه مثل ما روي عن ابن عمر سواء ، وروى حذيفة حين حكى صلاة النبي عليه السلام في الخوف : أنه صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئاً زائداً على ركعة ، وذكر ابن عبد البر وغيره عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ، فكانت لرسول الله أربع ، ولكل رجل ركعتان ، وبهذه كان يفتي الحسن بن أبي الحسن ، وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة ، وقال أصحاب الرأي : إذا كانت صلاة المغرب افتتح الإمام الصلاة ومعه طائفة ، وطائفة بإزاء العدو ، فيصلي بالتي معه ركعتين ، ثم يصيرون إلى إزاء العدو ، وتأتي الطائفة التي صلت مع الإمام ركعتين إلى مقامهم الأول في الصلاة ، فيقضون ركعة وسجدتين وحداناً ويسلمون ، ثم يجيئون إلى إزاء العدو ، وتنصرف الطائفة الأخرى إلى مقام الصلاة ، فيقضون ركعتين بقراءة وحداناً ويسلمون ، وكملت صلاتهم .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وهذا طرد قول أصحاب الرأي في سائر الصلوات ، سأل مروان بن الحكم أبا هريرة ، هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ قال أبو هريرة : نعم ، قال مروان : متى ؟ قال أبو هريرة : عام غزوة نجد ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبر رسول الله وكبروا جميعاً ، الذين معه والذين بإزاء العدو ثم ركع رسول الله وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت الطائفة التي كانت معه إلى إزاء العدو وأقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا فسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قاعد ثم كان السلام فسلم رسول الله وسلموا جميعاً . وأسند أبو داود في مصنفه عن عائشة رضي الله عنها صفة في صلاة النبي صلاة الخوف تقرب مما روي عن أبي هريرة وتخالفها في أشياء إلا أنها صفة صلاة الخوف من لدن قول أبي يوسف وابن علية أحد عشر قولاً منع صلاة الخوف لكونها خاصة النبي صلى الله عليه وسلم وعشر صفات على القول الشهير فإنها باقية للأمراء .
انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر ، على عادة القرآن في تفنين أغراضه ، والتماس مناسباتها . والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها . والضرب في الأرض : السفر .
( وإذا ) مضمّنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها ، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط . ( وإذا ) منصوبة بفعل الجواب .
وقصر الصلاة : النقص منها ، وقد عُلم أنّ أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها ، فلا جرم أن يعلم أنّ القصر من الصلاة هو نقص الركعات ، وقد بيّنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ صيّر الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين . وأجملت الآية فلم تعيّن الصلوات التي يعتريها القصر ، فبيّنته السنّة بأنّها الظهر والعصر والعشاء . ولم تقصر الصبح لأنّها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة ، ولم تقصر المغرب لئلاّ تصير شفعاً فإنّها وتر النهار ، ولئلاّ تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح .
وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر ، ويظهر من أسلوبها أنّها نزلت في ذلك ، وقد قيل : إنّ قصر الصلاة في السفر شُرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصحّ ، وقيل : في ربيع الآخر من سنة اثنتين ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوماً . وقد روى أهل الصحيح قول عائشة رضي الله عنها : فُرِضت الصلاة ركعتين فأقِرّت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر ، وهو حديث بيّن واضح . ومحمل الآية على مقتضاه : أنّ الله تعالى لمّا فرض الصلاة ركعتين فتقرّرت كذلك فلمّا صارت الظهر والعصر والعشاء أربعاً نسخ ما كان من عددها ، وكان ذلك في مبدأ الهجرة ، وإذ قد كان أمر الناس مقاماً على حالة الحضر وهي الغالب عليهم ، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين ، فلمّا غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلّوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين ، فلذلك قال تعالى : { فليس عليكم جناح } وقال : { أن تقصروا من الصلاة } وإنّما قالت عائشة « أقرت صلاة السفر » حيث لم تتغيّر عن الحالة الأولى ، وهذا يدلّ على أنّهم لم يصلّوها تامّة في السفر بعد الهجرة ، فلا تعارض بين قولها وبين الآية .
وقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } شرط دلّ على تخصيص الإذن بالقصر بحَال الخوف من تمكّن المشركين منهم وإبطالِهم عليهم صلاتهم ، وأنّ الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان ، فالآية هذه خاصّة بقصر الصلاة عند الخوف ، وهو القصر الذي له هيئة خاصّة في صلاة الجماعة ، وهذا رأي مالك ، يدلّ عليه ما أخرجه في « الموطأ » : أنّ رجلاً من آل خالد بن أسِيد سأل عبد الله بن عُمر « إنّا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر » ، فقال ابن عمر : « يابن أخي إنّ الله بعث إلينا محمداً ولا نعلم شيئاً فإنّما نفعل كما رأيناه يفعل » ، يعني أنّ ابن عمر أقرّ السائل وأشعره بأنّ صلاة السفر ثبتت بالسنّة ، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقّاص أنّ هذه الآية خاصّة بالخوف ، فكانا يكمّلان الصلاة في السفر .
وهذا التأويل هو البيّن في محمل هذه الآية ، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنّة ، وأحدهما أسبق من الآخر ، كما قال ابن عمر . وعن يعلى بن أمية أنّه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إنّ الله تعالى يقول : { إن خفتم } وقد أمِن الناس . فقال : عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألتُ رسول الله عن ذلك فقال " صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقَته " . ولا شكّ أنّ محمل هذا الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمرَ على فهمه تخصيصَ هذه الآية بالقصر لأجل الخوف ، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقّة ، وقوله : له صدقة الخ ، معناه أنّ القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله ، أي تخفيف ، وهو دون الرخصة فلا تردّوا رخصته ، فلا حاجة إلى ما تَمَحّلوا به في تأويل القيد الذي في قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وتقتصر الآية على صلاة الخوف ، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية ؛ والقائلون بتأكيد سنّة القصر مثل مالك بن أنس وعامّة أصحابه ، عن تأويل قوله : { فليس عليكم جناح } بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ . ويكون قوله : { وإذا ضربتم في الأرض } إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله : { وإذا كنت فيهم } الآيات .
أمّا قصر الصلاة في السفر فقد دلّت عليه السنّة الفعلية ، واتَّبعه جمهور الصحابة إلاّ عائشة وسعدَ بن أبي وقاص ، حتّى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في « الموطأ » و« الصحيحين » لدلالته على أنّ صلاة السفر بقيت على فرضها ، فلو صلاّها رباعية لكانت زيادة في الصلاة ، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة : صلاة السفر ركعتان تمامٌ غيرُ قصر . وإنّما قال مالك بأنّه سنّة لأنّه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر إلاّ القصر ، وكذلك الخلفاء من بعده . وإنّما أتمّ عثمان بن عفّان الصلاة في الحج خشية أن يتوهّم الأعراب أنّ الصلوات كلّها ركعتان . غير أنّ مالكاً لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } لمنافاته لصيغ الوجوب . ولقد أجاد محامل الأدلّة .
وأخْبِر عن الكافرين وهو جمع بقوله : { عَدُوّاً } وهو مفرد . وقد قدّمنا ذلك عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدوَ لكم } [ النساء : 92 ] .