88- ما كان يسوغ لكم - أيها المؤمنون - أن تختلفوا في شأن المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُبْطِنون الكفر ، وما يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم : أهم مؤمنون أم كافرون ؟ ويقتلون أم ينظرون ؟ وهم قابلون لأن يكونوا مهتدين أم لا ترجى منهم هداية ؟ إنهم قلبت مداركهم بما اكتسبوا من أعمال ، جعلت الشر يتحكم فيهم وما كان لكم أن تتوقعوا هداية من قَدَّر اللَّه في علمه الأزلي أنه لن يهتدي ، فإن من يكتب في علم اللَّه الأزلي ضلاله ، فلن تجدوا طريقاً لهدايته .
قوله تعالى : { فما لكم في المنافقين فئتين } اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم : نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين ، فلما رجعوا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتلهم ، فإنهم منافقون . وقال بعضهم : اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو الوليد ، أنا شعبة ، عن عدي بن ثابت قال : سمعت عبد الله بن زيد يحدث عن زيد بن ثابت قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة تقول نقاتلهم ، وفرقة تقول لا نقاتلهم ، فنزلت : { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا } ، وقال : إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة . وقال مجاهد : قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ، ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا ، وأقاموا بمكة ، فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . وقال بعضهم : نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين ، حتى تباعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ، ولكنا اجتوينا المدينة ، واشتقنا إلى أرضنا ، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : نخرج إليهم فنقتلهم ، ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا .
وقالت طائفة : كيف تقتلون قوماً على دينكم إن لم يذروا ديارهم ؟ وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى واحداً من الفريقين ، فنزلت هذه الآية . وقال بعضهم : هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين ، فنزلت { فما لكم } يا معشر المؤمنين { في المنافقين فئتين } أي : صرتم فيهم فئتين ، أي : فرقتين .
قوله تعالى : { والله أركسهم } أي : نكسهم وردهم إلى الكفر .
قوله تعالى : { بما كسبوا } بأعمالهم غير الزاكية .
قوله تعالى : { أتريدون أن تهدوا } أي : أن ترشدوا .
قوله تعالى : { من أضل الله } ومعناه أتقولون أن هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله .
ما لكم فئتين في شأن المنافقين. والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم ؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم . بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء .
( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ؟ ) ..
ولعله كان في قول الفريق .. المتسامح !!.. ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا ، ويتركوا اللجلجة ! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم .
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا ..
فإنما يضل الله الضالين . أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة . وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية بما بعدوا عنها، وسلكوا غير طريقها ونبذوا العون والهدى ، وتنكروا لمعالم الطريق !
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين ، واختلف في سبب ذلك ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا بَهْز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا{[7969]} فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها طَيْبة ، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة{[7970]} .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا بمكة ، قد تكلموا بالإسلام ، كانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون{[7971]} حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس ، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله ! أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم . فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين{[7972]} عن شيء فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }
رواه ابن أبي حاتم ، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا .
وقال زيد بن أسلم ، عن ابنٍ لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك .
وقوله : { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } أي : ردهم وأوقعهم في الخطأ .
قال ابن عباس : { أَرْكَسَهُمْ } أي : أوقعهم . وقال قتادة : أهلكهم . وقال السدي : أضلهم .
وقوله : { بِمَا كَسَبُوا } أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل .
{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي : لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه .
{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوَاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } : فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين ، { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يعني بذلك : والله ردّهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم . والإركاس : الردّ ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النّارِ إنّهُمُ ***كانُوا عُصَاةً وقالوا الإفْكَ وَالزّورَا
يقال منه : أركسهم وركسهم . وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله وأبيّ : «والله ركسهم » بغير ألف .
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وانصرفوا إلى المدينة ، وقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولأصحابه : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُمْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثني الفضل بن زياد الواسطي ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاريّ يحدّث عن زيد بن ثابت : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أُحد ، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا . فنزلت هذه الاَية : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا } . . . الاَية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة : «أنّها طَيّبَةٌ وإنّها تَنْفِي خَبَشَها كمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الفِضّةِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه .
حدثني زريق بن السخت ، قال : حدثنا شبابة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : ذكروا المنافقين عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال فريق : نقتلهم ، وقال فريق : لا نقتلهم فأنزل الله تبارك وتعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } . . . إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة ، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } قال : قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدّوا بعد ذلك ، فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها . فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . فبين الله نفاقهم ، فأمر بقتالهم . فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة ، فلقيهم هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم حلف ، وهو الذي حصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يؤمنون هلالاً ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله بنحوه ، غير أنه قال : فبين الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم فلم يقاتلوا يومئذ ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، فليس علينا منهم بأس ! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوّكم ! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك ! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء¹ فنزلت : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } . . . الاَية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } . . . الاَية ، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة ، وكانا قد تكلما بالإسلام ، ولم يهاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فلقيهما ناس من أصحاب نبيّ الله وهما مقبلان إلى مكة ، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال ، وقال بعضهم : لا تحلّ لكم . فتشاجروا فيهما ، فأنزل الله في ذلك : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُم } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر بن راشد ، قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، وكان ذلك منهم كذبا . فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال ، وقالت طائفة : دماؤهم حرام¹ فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } هم ناس تخلفوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة ، وأعلنوا الإيمان ، ولم يهاجروا . فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا . فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتّخَمْناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظّهْر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا¹ واختلف فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء الله المنافقون ، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم ! وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتّخموها . فخرجوا إلى الظهر يتنزّهون ، فإذا برءوا رجعوا . فقال الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } يقول : ما لكم تكونون فيهم فئتين { والله أرْكَسَهُمْ بمَا كَسبوا } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : هذا في شأن ابن أبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم . فقال سعد بن معاذ : فإنى أبرأ إلى الله وإلى رسوله منه ! يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب¹ لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين : التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم ، والاَخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة ، وفي قول الله تعالى ذكره : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا } أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر ، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرض هجرة ، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه .
واختلف أهل العربية في نصب قوله : { فِئَتَيْنِ } فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : ما لك قائما ، يعني ما لك في حال القيام . وهذا قول بعض البصريين¹ وقال بعض نحويي الكوفيين : هو منصوب على فعل «ما لك » ، قال : ولا يُبالَى كان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة . قال : ويجوز في الكلام أن يقول : ما لك السائر معنا ، لأنه كالفعل الذي ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما . قال : وكل موضع صلحت فيه «فعل » و«يفعل » من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة ، كما ينصب كان وأظنّ لأنهنّ نواقص في المعنى وإن ظننت أنهنّ تامات . وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن المطلوب في قول القائل : «ما لك قائما » القيام ، فهو في مذهب كان وأخواتها وأظنّ وصواحباتها .
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } فقال بعضهم : معناه : ردّهم¹ كما قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } ردّهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : والله أوقعهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يقول : أوقعهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أضلّهم وأهلكهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } قال : أهلكهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم بما عملوا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم .
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام ، فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه من أضله الله عنه ، يعني بذلك : من خذله الله عنه فلم يوفقه للإقرار به . وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية ، يقول لهم جلّ ثناؤه : أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحقّ واتباع الإسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين ؟ { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } يقوله : ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده ، فأضله عنه ، فلن تجد له يا محمد سبيلاً ، يقول : فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله ( عنه ) ، ولا منهجا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه .
{ فما لكم في المنافقين } فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين . { فئتين } أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم ، وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم . وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد ، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن ، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة و{ فئتين } حال عاملها لكم كقولك : ما لك قائما . و{ في المنافقين } حال من { فئتين } . أي متفرقتين فيهم ، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ، ومعنى الافتراق مستفاد من { فئتين } . والله أركسهم بما كسبوا } ردهم إلى حكم الكفرة ، أو نكسهم بأن صيرهم للنار . وأصل الركس رد الشيء مقلوبا . { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } أن تجعلوه من المهتدين . { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الهدى .
وقوله : { فما لكم في المنافقين } الآية . الخطاب للمؤمنين ، وهذا ظاهره استفهام ، والمقصد منه التوبيخ ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب { المنافقين } ؟ فقال ابن عباس : هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة ، وأقاموا بين أظهر الكفار ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم : إنكم لا تخافون أصحاب محمد ، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم ، فاتصل خبرهم بالمدينة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فقالت طائفة : نخرج إلى أعداء الله المنافقين ، وقالت طائفة : بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد : بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة ، فأظهروا الإسلام ، ثم قالوا : لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر ، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى { حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] ، وقال زيد بن ثابت : نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، لأن أصحاب النبي عليه اسلام اختلفوا فيهم ، وقال السدي : بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنه نفاقاً كفراً ، وقالوا : إنّا اجتويناها ، وقال ابن زيد : إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك ، لأن الصحابة اختلفوا فيهم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة{[4180]} ، حسبما وقع في البخاري ، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله ، وكل من قال في هذه الآية : إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله :
{ حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه ، وترك الخلاف والنفاق ، كما قال عليه السلام ، ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ){[4181]} .
و{ فئتين } معناه فرقتين ، ونصبهما على الحال كما تقول : ما لك قائماً ، هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل ، والتقدير ما لكم كنتم { فئتين } أو صرتم ، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة ، كما نقول ما لك الشاتم لزيد ، وخطأ هذا القول الزجّاج ، لأن المعرفة لا تكون حالاً ، و { أركسهم } معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم ، «والركس » الرجيع ، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء ، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال إنها ركس »{[4182]} ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]
فَأَرْكسُوا في حَميمِ النَّّار إنَّهُم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا
وحكى النضر بن شميل والكسائي ، «ركس وأركس » بمعنى واحد ، أي رجعهم ، ومن قال من المتأولين : أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى ، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر{[4183]} .
و { بما كسبوا } معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق ، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم ، وقوله : { أتريدون } استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه ، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون : بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله للضلالة وحتمها عليه ، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده .
تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت ، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم ، أو هو تفريع عن قوله : { ومن أصدق من الله حديثاً } [ النساء : 87 ] . وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي ، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم ، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله : { فقاتل في سبيل الله } في سورة النساء ( 84 ) .
والاستفهام للتعجيب واللَّوم . والتعريف في { المنافقين } للعهد ، و { فئتين } حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله ، الذي هو التوبيخ ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام : { في المنافقين } متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى « منقسمين » ، ومعناه : في شأن المنافقين ، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين .
والفئة : الطائفة . وزنها فِلَة ، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع ، لأنّهم يَرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم . وأصلها فَيّءٌ ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء .
وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر ، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم . قيل : نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أُحد : عبد الله بن أبَيّ وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك . وفي « صحيح البخاري » عن زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبي من أُحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقُتُلْهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت « فما لكم في المنافقين فئتين » ، وقال : « إنّها طَيْبَة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة » أي ولَمْ يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام . فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم . وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى المدينة ، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة ، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها ، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون . ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية .
وعن الضّحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم :
{ إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم } [ النساء : 97 ] الآية . وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثَلاً لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذٍ من أهل المدينة ومن أهل مكة .
والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجاً لهم إلى يوم فتح مكة .
وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المُخطِئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين . وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالِم لا يكون بعيداً عن الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطىء أهلُ العلم في مثله .
وجملة { والله أرْكَسَهم بما كسبوا } حالية ، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى ، لأنّ معنى أركس رَدّ إلى الرّكْس ، والركس قريب من الرجس . وفي حديث الصحيح في الروث « إنّ هذا رِكْسٌ » وقيل : معنى أركس نكس ، أي ردّ ردّاً شنيعاً ، وهو مقارب للأول . وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها ، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات ، والعمل السيّء يأتي بمنتهى المعاصي ، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سبباً في بلوغ الغايات من جنسه .
وقوله : { أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله } استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } ، لأنّ السامعين يترقّبون بيان وجه اللوم ، ويتساءلون عمّاذا يتُخذون نحو هؤلاء المنافقين . وقد دلّ الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محلّ الاستئناف البياني ، وتقديرها : إنهم قد أضلّهم الله ، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ، بناء على أنّ قوله : { والله أركسهم } ليس المراد منه أنَّه أضلّهم ، بل المراد منه أساءَ حالهم ، وسوءُ الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان ، فيكون فَصْل الجملة فصل الاستئناف .
وإن جعلتَ معنى { والله أركسهم } أنّه ردّهم إلى الكفر ، كانت جملة { أتريدون } استئنافاً ابتدائياً ، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار ، بعد جملة { والله أركسهم } التي هي خبرية ، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين .