المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

88- ما كان يسوغ لكم - أيها المؤمنون - أن تختلفوا في شأن المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُبْطِنون الكفر ، وما يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم : أهم مؤمنون أم كافرون ؟ ويقتلون أم ينظرون ؟ وهم قابلون لأن يكونوا مهتدين أم لا ترجى منهم هداية ؟ إنهم قلبت مداركهم بما اكتسبوا من أعمال ، جعلت الشر يتحكم فيهم وما كان لكم أن تتوقعوا هداية من قَدَّر اللَّه في علمه الأزلي أنه لن يهتدي ، فإن من يكتب في علم اللَّه الأزلي ضلاله ، فلن تجدوا طريقاً لهدايته .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

قوله تعالى : { فما لكم في المنافقين فئتين } اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم : نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين ، فلما رجعوا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتلهم ، فإنهم منافقون . وقال بعضهم : اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو الوليد ، أنا شعبة ، عن عدي بن ثابت قال : سمعت عبد الله بن زيد يحدث عن زيد بن ثابت قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة تقول نقاتلهم ، وفرقة تقول لا نقاتلهم ، فنزلت : { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا } ، وقال : إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة . وقال مجاهد : قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ، ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا ، وأقاموا بمكة ، فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . وقال بعضهم : نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين ، حتى تباعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ، ولكنا اجتوينا المدينة ، واشتقنا إلى أرضنا ، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : نخرج إليهم فنقتلهم ، ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا .

وقالت طائفة : كيف تقتلون قوماً على دينكم إن لم يذروا ديارهم ؟ وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى واحداً من الفريقين ، فنزلت هذه الآية . وقال بعضهم : هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين ، فنزلت { فما لكم } يا معشر المؤمنين { في المنافقين فئتين } أي : صرتم فيهم فئتين ، أي : فرقتين .

قوله تعالى : { والله أركسهم } أي : نكسهم وردهم إلى الكفر .

قوله تعالى : { بما كسبوا } بأعمالهم غير الزاكية .

قوله تعالى : { أتريدون أن تهدوا } أي : أن ترشدوا .

قوله تعالى : { من أضل الله } ومعناه أتقولون أن هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله .

قوله تعالى : { ومن يضلل الله } أي : من يضلل الله عن الهدى .

قوله تعالى : { فلن تجد له سبيلاً } أي : طريقاً إلى الحق .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

{[219]}المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات : المنافقون المظهرون إسلامهم ، ولم يهاجروا مع كفرهم ، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه ، فبعضهم تحرج عن قتالهم ، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان ، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم . فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا ، بل أمرهم واضح غير مشكل ، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم ،


[219]:- في هامش أ: (وقد ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: "فما لكم في المنافقين فئتين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد". وليس هناك علامة تدل على محل هذه الزيادة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت ، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم ، أو هو تفريع عن قوله : { ومن أصدق من الله حديثاً } [ النساء : 87 ] . وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي ، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم ، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله : { فقاتل في سبيل الله } في سورة النساء ( 84 ) .

والاستفهام للتعجيب واللَّوم . والتعريف في { المنافقين } للعهد ، و { فئتين } حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله ، الذي هو التوبيخ ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام : { في المنافقين } متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى « منقسمين » ، ومعناه : في شأن المنافقين ، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين .

والفئة : الطائفة . وزنها فِلَة ، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع ، لأنّهم يَرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم . وأصلها فَيّءٌ ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء .

وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر ، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم . قيل : نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أُحد : عبد الله بن أبَيّ وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك . وفي « صحيح البخاري » عن زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبي من أُحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقُتُلْهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت « فما لكم في المنافقين فئتين » ، وقال : « إنّها طَيْبَة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة » أي ولَمْ يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام . فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم . وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى المدينة ، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة ، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها ، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون . ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية .

وعن الضّحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم :

{ إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم } [ النساء : 97 ] الآية . وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثَلاً لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذٍ من أهل المدينة ومن أهل مكة .

والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجاً لهم إلى يوم فتح مكة .

وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المُخطِئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين . وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالِم لا يكون بعيداً عن الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطىء أهلُ العلم في مثله .

وجملة { والله أرْكَسَهم بما كسبوا } حالية ، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى ، لأنّ معنى أركس رَدّ إلى الرّكْس ، والركس قريب من الرجس . وفي حديث الصحيح في الروث « إنّ هذا رِكْسٌ » وقيل : معنى أركس نكس ، أي ردّ ردّاً شنيعاً ، وهو مقارب للأول . وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها ، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات ، والعمل السيّء يأتي بمنتهى المعاصي ، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سبباً في بلوغ الغايات من جنسه .

وقوله : { أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله } استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } ، لأنّ السامعين يترقّبون بيان وجه اللوم ، ويتساءلون عمّاذا يتُخذون نحو هؤلاء المنافقين . وقد دلّ الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محلّ الاستئناف البياني ، وتقديرها : إنهم قد أضلّهم الله ، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ، بناء على أنّ قوله : { والله أركسهم } ليس المراد منه أنَّه أضلّهم ، بل المراد منه أساءَ حالهم ، وسوءُ الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان ، فيكون فَصْل الجملة فصل الاستئناف .

وإن جعلتَ معنى { والله أركسهم } أنّه ردّهم إلى الكفر ، كانت جملة { أتريدون } استئنافاً ابتدائياً ، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار ، بعد جملة { والله أركسهم } التي هي خبرية ، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين .