بدأت هذه السورة بنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقي الله ويتوكل عليه ، وانتقلت إلى الحديث عن الأدعياء ، ونفت أنهم لمن تبناهم ، وذكرت ما أوجبه الله لرسوله من المحبة والطاعة ، وما أوجبه لأمهات المؤمنين من الاحترام والتوقير ، وعرضت لما أخذه على النبيين من العهد في تبليغ الرسالات ، وفصلت غزوة الأحزاب وما كان فيها من خوف واضطراب ، وما تم للمؤمنين من نصر تحقق به وعد الله ، وعنيت بذكر الآداب التي ينبغي لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلكنها ويأخذن أنفسهن بها ، وعادت إلى الحديث عن النبيين ، وهدمت ما كان معروفا في الجاهلية من حرمة التزوج بحليلة الدعى على من تبناه ، ونوهت بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأثنت عليه بما هو أهله ، وأوصت بالمتعة والسراح الجميل لمن طلقت قبل الدخول ، وخصت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها أباحت له أن يدخل بمن وهبت نفسها له ، وصرحت بأنه لا يحل له النساء بعد التسع ، ثم بينت السورة الكريمة ما يجب على المؤمنين مراعاته في دخولهم بيوت النبي للطعام وفي انصرافهم عقبه ، وفي سؤالهم أزواجه من وراء حجاب ، وطالبت أمهات المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وتحدثت عن الساعة وأهوال القيامة ، ونصحت بالتقوى والقول السديد ، وختمت بالحديث عن فرائض الله التي حملها الإنسان ولم تطق حملها السماوات والأرض والجبال .
ومن ثم يتبين أن أهم أهدافها : الحديث عن الأدعياء ، وهدم العادة التي سادت من تحريم حلائلهم ، على من تبنوهم ، وامتنان الله تعالى على المؤمنين بتحقيق ما وعدهم من النصر والغلبة على المشركين ، وتفصيل ما شرعه الله للمؤمنين في دخول بيوت النبي ، وتحريم أزواجه عليهم ، وتحديد الآداب الخاصة بأمهات المؤمنين .
1- يا أيها النبي : استمر على ما أنت عليه من تقوى الله ، ولا تقبل رأيا من الكافرين والمنافقين ، إن الله محيط علما بكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله .
قوله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله } نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي ، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا ، اللات والعزى ومناة ، وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم ، فقال عمر : يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم ، فقال : إني قد أعطيتهم الأمان ، فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله } أي : دم على التقوى ، كالرجل يقول لغيره وهو قائم : قم ها هنا ، أي : اثبت قائماً . وقيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة . وقال الضحاك : معناه اتق الله ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم . { ولا تطع الكافرين } من أهل مكة ، يعني : أبا سفيان ، وعكرمة ، وأبا الأعور ، { والمنافقين } من أهل المدينة ، عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد ، وطعيمة { إن الله كان عليماً } بخلقه ، قبل أن خلقهم ، { حكيماً } فيما دبره لهم .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
أي : يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة ، واختصه بوحيه ، وفضله على سائر الخلق ، اشكر نعمة ربك عليك ، باستعمال تقواه ، التي أنت أولى بها من غيرك ، والتي يجب عليك منها ، أعظم من سواك ، فامتثل أوامره ونواهيه ، وبلغ رسالاته ، وأدِّ إلى عباده وحيه ، وابذل النصيحة للخلق .
ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد ، ولا يردك عنه راد ، فلا تطع كل كافر ، قد أظهر العداوة للّه ورسوله ، ولا منافق ، قد استبطن التكذيب والكفر ، وأظهر ضده .
فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة ، فلا تطعهم في بعض الأمور ، التي تنقض التقوى ، وتناقضها ، ولا تتبع أهواءهم ، فيضلوك عن الصواب .
[ وهي ] {[1]} مدنية .
قال [ عبد الله بن ] الإمام أحمد{[2]} : حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن زِرِّ قال : قال لي أُبي بن كعب : كَأين تقرأ سورة الأحزاب ؟ أو كَأين تعدها ؟ قال : قلت : ثلاثا وسبعين آية : فقال : قَط ! لقد رأيتها وإنها لتعادل " سورة البقرة " ، ولقد قرأنا فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، نكالا من الله ، والله عليم{[3]} حكيم " {[4]} .
ورواه النسائي من وجه آخر ، عن عاصم - وهو ابن أبي النجود ، وهو ابن بَهْدَلَة - به{[5]} . وهذا إسناد حسن ، وهو يقتضي أنه كان{[6]} فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا ، والله أعلم .
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى ، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا ، فَلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى . وقد قال طَلْق بن حبيب : التقوى : أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، مخافة عذاب الله .
وقوله : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : لا تسمع منهم ولا تستشرهم ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه ، فإنه عليم بعواقب الأمور ، حكيم في أقواله وأفعاله ؛ ولهذا قال : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّبِيّ اتّق اللّهَ بطاعته ، وأداء فرائضه ، وواجب حقوقه عليك ، والانتهاء عن محارمه ، وانتهاك حدوده وَلا تُطِع الكافِرِينَ الذين يقولون لك : اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك وَالمُنافِقِينَ الذين يظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك ، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالاً ، فلا تقبل منهم رأيا ، ولا تستشرهم مستنصحا بهم ، فإنهم لك أعداء إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما يقول : إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم ، وما الذي يقصدون في إظهارهم لك النصيحة ، مع الذي ينطوون لك عليه ، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك ، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه .
بسم الله الرحمن الرحيم { يا أيها النبي اتق الله } ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيما له وتفخيما لشأن التقوى ، والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعا له عما نهى عنه بقوله : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما يعود بوهن في الدين . روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام معهم بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت . { إن الله كان عليما } بالمصالح والمفاسد . { حكيما } لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة .
هذه السورة مدنية بإجماع فيما علمت ، وكذلك قال المهداوي وغيره{[1]}
قوله : { اتق } معناه : دم على التقوى ، ومتى أمر أحد بشيء هو به متلبس فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل الحالة الماضية ، وحذره تعالى من طاعة الكافرين وهم الُمَجِّلحون بالكفر ، {[9443]} والمنافقون ، وهم المظهرون للإيمان وهم لا يبطنونه ، وسبب الآية أنهم كانوا يتسخبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطلبات والإرادات ربما كان في إرادتهم سعي على الشرع وهم يدخلونها مدخل النصائح ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم وحرصه على استئلافهم ربما لاَيَنُهم{[9444]} في بعض الأمور ، فنزلت الآية بسبب ذلك تحذيراً له منهم وتنبيهاً على عداوتهم والنوازل في طلباتهم كثيرة محفوظة ، وقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي لا عليك منهم ولا من إيمانهم فالله عليم بما ينبغي لك حكيم في هدي من شاء وإضلال من شاء .