علم أهل الكتاب من كتبهم ، وعلم منهم مشركو مكة نعوت نبي آخر الزمان ، وكان مقتضى ذلك أن يؤمنوا به إذا بعث . فلما بعث فيهم رسول الله مؤيدا بالقرآن اختلفوا وأخلفوا وعدهم ، وتبعة أهل الكتاب في ذلك أشد من المشركين ، وأمر هؤلاء جميعا في الآخرة أن يخلدوا في النار ، والمؤمنون أصحاب المنازل العالية في الفضل هم خير البرية ، جزاؤهم الخلود في الجنة ، والرضى بما بلغوا من المطالب وأعطوا من المآرب ، هذا النعيم لمن خاف ربه .
1- لم يكن الذين كفروا بالله وبرسوله من اليهود والنصارى ومن المشركين منصرفين عن غفلتهم وجهلهم بالحق حتى تأتيهم الحُجة القاطعة .
{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم اليهود والنصارى ، { والمشركين } وهم عبدة الأوثان ، { منفكين } زائلين منفصلين ، يقال : فككت الشيء فانفك ، أي : انفصل ، { حتى تأتيهم البينة } لفظه مستقبل ومعناه الماضي ، أي : حتى أتتهم الحجة الواضحة ، يعني : محمد صلى الله عليه وسلم ، أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالاتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإسلام والإيمان . فهذه الآية فيمن آمن من الفريقين ، أخبر أنهم لم ينتهوا عن الكفر حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، فأنقذهم الله من الجهل والضلالة .
{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
يقول تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : [ من ] اليهود والنصارى { وَالْمُشْرِكِينَ } من سائر أصناف الأمم .
{ مُنْفَكِّينَ } عن كفرهم وضلالهم الذي هم عليه ، أي : لا يزالون في غيهم وضلالهم ، لا يزيدهم مرور السنين{[1464]} إلا كفرًا .
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } الواضحة ، والبرهان الساطع ،
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد - وهو ابن سلمة - أخبرنا علي - هو ابن زيد - عن عمار بن أبي عمار قال : سمعت أبا حَيَّة البدري - وهو : مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري - قال : لما نزلت : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } إلى آخرها ، قال جبريل : يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها أُبَيًّا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : " إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة " . قال أبي : وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال : " نعم " . قال : فبكى أبي{[1]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : " إن الله أمرني أن أقرأ عليك : " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " قال : وسمانى لك ؟ قال : " نعم " . فبكى .
ورواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث شعبة ، به{[2]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا مُؤَمِّل ، حدثنا سفيان ، حدثنا أسلم المنقري ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبْزَى ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا " . قلت : يا رسول الله ، وقد ذُكرتُ هناك ؟ قال : " نعم " . فقلت له : يا أبا المنذر ، فَفَرحت بذلك . قال : وما يمنعني والله يقول : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] . قال مؤمل : قلت لسفيان : القراءة في الحديث ؟ قال : نعم . تفرد به من هذا الوجه{[3]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا : حدثنا شعبة ، عن عاصم بن بَهْدَلة ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي : " إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن " . قال : فقرأ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال : فقرأ فيها : ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال ، فأعطيه{[4]} لسأل ثانيًا ، ولو سأل ثانيًا فأعطيه{[5]} لسأل ثالثًا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب . وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية ، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ، ومن يفعل خيرا فلن يكفره .
ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، به{[6]} وقال : حسن صحيح .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد الحلبي ، حدثنا محمد بن عيسى الطباع ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا المنذر ، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن " . قال : بالله آمنت ، وعلى يدك أسلمت ، ومنك تعلمت . قال : فرد النبي صلى الله عليه وسلم القول . [ قال ]{[7]} فقال : يا رسول الله ، أذكرت هناك ؟ قال : " نعم ، باسمك ونسبك في الملأ الأعلى " . قال : فاقرأ إذًا يا رسول الله{[8]} . هذا غريب من هذا الوجه ، والثابت ما تقدم . وإنما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة تثبيتًا له ، وزيادة لإيمانه ، فإنه - كما رواه أحمد والنسائي ، من طريق أنس ، عنه{[9]} ورواه أحمد وأبو داود ، من حديث سليمان بن صُرَد عنه{[10]} ورواه أحمد عن عفان ، عن حماد ، عن حميد ، عن أنس ، عن عبادة بن الصامت ، عنه{[11]} ورواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عنه{[12]} كان قد أنكر على إنسان ، وهو : عبد الله بن مسعود ، قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأهما ، وقال ، لكل منهما : " أصبت " . قال أبي : فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية . فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره ، قال أبي : فَفضْتُ عَرَقًا ، وكأنما أنظر إلى الله فرقًا . وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف . فقلت : " أسأل الله معافاته ومغفرته " . فقال : على حرفين . فلم يزل حتى قال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف . كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه وألفاظه في أول التفسير . فلما نزلت هذه السورة الكريمة وفيها : { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار ، لا قراءة تعلم واستذكار ، والله أعلم .
وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة ، وكان فيما قال : أولم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ " . قال : لا ، قال : " فإنك آتيه ، ومُطوَّف به " . فلما رجعوا من الحديبية ، وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم سورة " الفتح " ، دعا عمر بن الخطاب وقرأها عليه ، وفيها قوله : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } الآية [ الفتح : 27 ] ، كما تقدم .
وروى الحافظ أبو نُعَيم في كتابه " أسماء الصحابة " من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري المدني : حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم ، عن ابن شهاب ، عن إسماعيل بن أبي حكيم المدني ، حدثني فُضَيل ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله ليسمع قراءة { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } فيقول : أبشر عبدي ، فوعزتي لأمكننه{[13]} لك في الجنة حتى ترضى " . حديث غريب جدًا . وقد رواه الحافظ أبو موسى المديني وابن الأثير ، من طريق الزهري ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن نَظير المزني - أو : المدني - عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليسمع قراءة { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } ويقول : أبشر عبدي ، فوعزتي لا أنساك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ، ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى " {[14]} .
أما أهل الكتاب فهم : اليهود والنصارى ، والمشركون : عَبَدةُ الأوثان والنيران ، من العرب ومن العجم . وقال مجاهد : لم يكونوا { مُنْفَكِّينَ } يعني : منتهين حتى يتبين لهم الحق . وكذا قال قتادة .
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } أي : هذا القرآن ؛ ولهذا قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ * رَسُولٌ مّنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفاً مّطَهّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ * وَمَا تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُوا منْ أهل الْكِتابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكّينَ حتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ } فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل ، والمشركون من عَبدة الأوثان منفكين ، يقول : منتهين ، حتى يأتيهم هذا القرآن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { مُنْفَكّينَ } قال : لم يكونوا ليَنتهوا حتى يتبين لهم الحقّ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { مُنْفَكّينَ } قال : منتهين عما هم فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله { مُنْفَكّينَ حَتَى تأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ } : أي هذا القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكّينَ } قال : لم يكونوا منتهين حتى يأتيهم ذلك المنفَكّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون ، لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم ، حتى بُعث ، فلما بُعث تفرّقوا فيه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : معنى ذلك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد ، حتى تأتيهم البيّنة ، وهي إرسال الله إياه رسولاً إلى خلقه ، رسول من الله .
وقوله : { مُنْفَكّينَ } في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ، ولذلك صَلُح بغير خبر ، ولو كان بمعنى ما زال ، احتاج إلى خبر يكون تماما له ، واستؤنف قوله { رَسُولٌ مِنَ اللّهِ } وهي نكرة على البيّنة ، وهي معرفة ، كما قيل : { ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ فَعّالٌ } فقال : حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله ، ببعثه الله إياه إليهم ، ثم ترجم عن البيّنة ، فقال : تلك البينة { رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً } يقول : يقرأ صحفا مطهرة من الباطل { فِيها كُتُبٌ قَيّمَةٌ } يقول : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ، لأنها من عند الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً } يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .