بدأت هذه السورة بنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقي الله ويتوكل عليه ، وانتقلت إلى الحديث عن الأدعياء ، ونفت أنهم لمن تبناهم ، وذكرت ما أوجبه الله لرسوله من المحبة والطاعة ، وما أوجبه لأمهات المؤمنين من الاحترام والتوقير ، وعرضت لما أخذه على النبيين من العهد في تبليغ الرسالات ، وفصلت غزوة الأحزاب وما كان فيها من خوف واضطراب ، وما تم للمؤمنين من نصر تحقق به وعد الله ، وعنيت بذكر الآداب التي ينبغي لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلكنها ويأخذن أنفسهن بها ، وعادت إلى الحديث عن النبيين ، وهدمت ما كان معروفا في الجاهلية من حرمة التزوج بحليلة الدعى على من تبناه ، ونوهت بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأثنت عليه بما هو أهله ، وأوصت بالمتعة والسراح الجميل لمن طلقت قبل الدخول ، وخصت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها أباحت له أن يدخل بمن وهبت نفسها له ، وصرحت بأنه لا يحل له النساء بعد التسع ، ثم بينت السورة الكريمة ما يجب على المؤمنين مراعاته في دخولهم بيوت النبي للطعام وفي انصرافهم عقبه ، وفي سؤالهم أزواجه من وراء حجاب ، وطالبت أمهات المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وتحدثت عن الساعة وأهوال القيامة ، ونصحت بالتقوى والقول السديد ، وختمت بالحديث عن فرائض الله التي حملها الإنسان ولم تطق حملها السماوات والأرض والجبال .
ومن ثم يتبين أن أهم أهدافها : الحديث عن الأدعياء ، وهدم العادة التي سادت من تحريم حلائلهم ، على من تبنوهم ، وامتنان الله تعالى على المؤمنين بتحقيق ما وعدهم من النصر والغلبة على المشركين ، وتفصيل ما شرعه الله للمؤمنين في دخول بيوت النبي ، وتحريم أزواجه عليهم ، وتحديد الآداب الخاصة بأمهات المؤمنين .
1- يا أيها النبي : استمر على ما أنت عليه من تقوى الله ، ولا تقبل رأيا من الكافرين والمنافقين ، إن الله محيط علما بكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله .
قوله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله } نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي ، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا ، اللات والعزى ومناة ، وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم ، فقال عمر : يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم ، فقال : إني قد أعطيتهم الأمان ، فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله } أي : دم على التقوى ، كالرجل يقول لغيره وهو قائم : قم ها هنا ، أي : اثبت قائماً . وقيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة . وقال الضحاك : معناه اتق الله ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم . { ولا تطع الكافرين } من أهل مكة ، يعني : أبا سفيان ، وعكرمة ، وأبا الأعور ، { والمنافقين } من أهل المدينة ، عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد ، وطعيمة { إن الله كان عليماً } بخلقه ، قبل أن خلقهم ، { حكيماً } فيما دبره لهم .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
أي : يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة ، واختصه بوحيه ، وفضله على سائر الخلق ، اشكر نعمة ربك عليك ، باستعمال تقواه ، التي أنت أولى بها من غيرك ، والتي يجب عليك منها ، أعظم من سواك ، فامتثل أوامره ونواهيه ، وبلغ رسالاته ، وأدِّ إلى عباده وحيه ، وابذل النصيحة للخلق .
ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد ، ولا يردك عنه راد ، فلا تطع كل كافر ، قد أظهر العداوة للّه ورسوله ، ولا منافق ، قد استبطن التكذيب والكفر ، وأظهر ضده .
فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة ، فلا تطعهم في بعض الأمور ، التي تنقض التقوى ، وتناقضها ، ولا تتبع أهواءهم ، فيضلوك عن الصواب .
سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون
هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة ، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى ، إلى ما قبل صلح الحديبية ، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا . وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة ، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشىء .
والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا ؛ ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا ، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير . أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره . ذلك كافتتاح السورة : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ، إن الله كان عليما حكيما . واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا . ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه . . . ) . . وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا . وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما ) . . والتعقيب على موقف المرجفين " يوم الأحزاب " التي سميت السورة باسمها . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ، وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ? ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة ، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . . وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا ) . .
ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة ، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة ؛ ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة . كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وللنظام الإسلامي .
والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة ، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة ؛ وبيان أصولها من العقيدة والتشريع ؛ كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها ؛ وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد .
وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب ، وغزوة بني قريظة ، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما ، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة ، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف . كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم .
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث ، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود ؛ وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة . سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة ؛ أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية . . ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية ؛ وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة .
ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة ، وتماسك سياقها ، وتساوق موضوعاتها المنوعة . وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة .
تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرينوالمنافقين ، واتباع ما يوحي إليه ربه ، والتوكل عليه وحده . وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته . ونظمه وأوضاعه ، وآدابه وأخلاقه . . أصل استشعار القلب لجلال الله ، والاستسلام المطلق لإرادته ؛ واتباع المنهج الذي اختاره ، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته .
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية . مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . . يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد ، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد ، وإلا نافق ، واضطربت خطاه . وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا ، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا ؛ وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات .
ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار - وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشئ حقيقة وراءه ، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام . . ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم )فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون ، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى [ التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد ] . ويستبقي بعد ذلك أو ينشىء الولاية العامة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المؤمنين جميعا ؛ ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم ؛ كما ينشيء صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) . . ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة ؛ ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية .
ويعقب على هذا التنظيم الجديد ، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم الله ؛ بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب الله القديم ، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين ، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة . على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات ، والمبادئ ، والتوجيهات ، لتقر في الضمائر والأخلاد .
وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة .
ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة الله على المؤمنين ، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين . ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويرا حيا ، في مشاهد متعاقبة ، ترسم المشاعر الباطنة ، والحركات الظاهرة ، والحوار بين الجماعات والأفراد . وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب ؛ وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة ، من خلال ما وقع فعلا ، وما جاش في الأخلاد والضمائر .
وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس ، وتقرير القيم ، ووضعالموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود . . طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت ، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة ، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها . ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع ، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف ، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة ، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف ، وتنمية الصواب والاستقامة . وربط هذا كله بقدر الله وإرادته وعمله ونهجه المستقيم ، وبفطرة النفس ، ونواميس الوجود .
وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ) . . ويتوسطها قوله . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة . ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . وبقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) . . ويختمها بقوله : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ) . .
وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف ، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضا يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) . . ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . . ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) . .
بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعدما وسع الله عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم . تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة . وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ورضين هذا المقام الكريم عند الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وآثرنه على متاع الحياة . ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة . وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته ، والحكمة التي يسمعنها من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات .
فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زيد بن حارثة مولاه . وما نزل في شأنه أولا من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله ، ليس لهم منه شيء ، وليس لهم في أنفسهم خيرة . إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء ، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) . .
ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق ؛ وما وراءه من إبطال آثار التبني ، الذي سبق الكلام عليه في أولالسورة . إبطاله بسابقة عملية ؛ يختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه ، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية ، وصعوبة الخروج عليها . فيقع الابتلاء على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع ، بعد تقريرها في أعماق الضمير : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا ) . .
وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين كافة : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) . .
ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه من المؤمنين . . ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) . .
ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول . ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه . ويستطرد إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي وزوجاته ، في حياته وبعد وفاته وتقرير احتجابهن إلا على آبائهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن . وإلى بيان جزاء الذين يؤذون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أزواجه وبيوته وشعوره ؛ ويلعنهم في الدنيا والآخرة . مما يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا .
ويعقب على هذا بأمر أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين كافة أن يدنين عليهن من جلابيبهن ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) . . وبتهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة بإغراء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بهم وإخراجهم من المدينة كما خرج من قبل بنو قينقاع وبنو النضير ، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة أخيرا . وكل هذا يشير إلى شدة إيذاء هذه المجموعة للمجتمع الإسلامي في المدينة بوسائل شريرة خبيثة .
والشوط السادس والأخير في السورة يتضمن سؤال الناس عن الساعة ، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند الله ، والتلويح بأنها قد تكون قريبا . ويتبع هذا مشهد من مشاهد القيامة : ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) . . ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم : ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) . .
ثم تختم السورة بإيقاع هائل عميق الدلالة والتأثير : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات . وكان الله غفورا رحيما ) . .
وهو إيقاع يكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشرية ، وعلى عاتق الجماعة المسلمة بصفة خاصة ؛ وهي التي تنهض وحدها بعبء هذه الأمانة الكبرى . أمانة العقيدة والاستقامة عليها . والدعوة والصبر على تكاليفها ، والشريعة والقيام على تنفيذها في أنفسهم وفي الأرض من حولهم . مما يتمشى مع موضوع السورة ، وجوها ؛ وطبيعة المنهج الإلهي الذي تتولى السورة تنظيم المجتمع الإسلامي على أساسه .
ومن ثم كان التوجيه الأول في السورة التي تتولى تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين بتشريعات وأوضاع جديدة ، هو التوجيه إلى تقوى الله . وكان القول موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم القائم على تلك التشريعات والتنظيمات . . ( يا أيها النبي اتق الله ) . . فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى ، وهي الحارس القائم في أعماق الضمير على التشريع والتنفيذ . وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه .
وكان التوجيه الثاني هو النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع توجيههم أو اقتراحهم ، والاستماع إلى رأيهم أو تحريضهم : ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) . . وتقديم هذا النهي على الأمر باتباع وحي الله يوحي بأن ضغط الكافرين والمنافقين في المدينة وما حولها كان في ذلك الوقت عنيفا ، فاقتضى هذا النهي عن اتباع آرائهم وتوجيهاتهم ، والخضوع لدفعهم وضغطهم . ثم يبقى ذلك النهي قائما في كل بيئة وكل زمان ، يحذر المؤمنين أن يتبعوا آراء الكافرين والمنافقين إطلاقا ، وفي أمر العقيدة وأمر التشريع وأمر التنظيم الاجتماعي بصفة خاصة . ليبقى منهجهم خالصا لله ، غير مشوب بتوجيه من سواه .
ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة - كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف - فإن الله هو العليم الحكيم ؛ وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته : ( إن الله كان عليما حكيما ) . . وما عند البشر إلا قشور ، وإلا قليل !
[ وهي ] {[1]} مدنية .
قال [ عبد الله بن ] الإمام أحمد{[2]} : حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن زِرِّ قال : قال لي أُبي بن كعب : كَأين تقرأ سورة الأحزاب ؟ أو كَأين تعدها ؟ قال : قلت : ثلاثا وسبعين آية : فقال : قَط ! لقد رأيتها وإنها لتعادل " سورة البقرة " ، ولقد قرأنا فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، نكالا من الله ، والله عليم{[3]} حكيم " {[4]} .
ورواه النسائي من وجه آخر ، عن عاصم - وهو ابن أبي النجود ، وهو ابن بَهْدَلَة - به{[5]} . وهذا إسناد حسن ، وهو يقتضي أنه كان{[6]} فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا ، والله أعلم .
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى ، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا ، فَلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى . وقد قال طَلْق بن حبيب : التقوى : أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، مخافة عذاب الله .
وقوله : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : لا تسمع منهم ولا تستشرهم ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه ، فإنه عليم بعواقب الأمور ، حكيم في أقواله وأفعاله ؛ ولهذا قال : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ }
بسم الله الرحمن الرحيم { يا أيها النبي اتق الله } ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيما له وتفخيما لشأن التقوى ، والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعا له عما نهى عنه بقوله : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما يعود بوهن في الدين . روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام معهم بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت . { إن الله كان عليما } بالمصالح والمفاسد . { حكيما } لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة .
هذه السورة مدنية بإجماع فيما علمت ، وكذلك قال المهداوي وغيره{[1]}
قوله : { اتق } معناه : دم على التقوى ، ومتى أمر أحد بشيء هو به متلبس فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل الحالة الماضية ، وحذره تعالى من طاعة الكافرين وهم الُمَجِّلحون بالكفر ، {[9443]} والمنافقون ، وهم المظهرون للإيمان وهم لا يبطنونه ، وسبب الآية أنهم كانوا يتسخبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطلبات والإرادات ربما كان في إرادتهم سعي على الشرع وهم يدخلونها مدخل النصائح ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم وحرصه على استئلافهم ربما لاَيَنُهم{[9444]} في بعض الأمور ، فنزلت الآية بسبب ذلك تحذيراً له منهم وتنبيهاً على عداوتهم والنوازل في طلباتهم كثيرة محفوظة ، وقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي لا عليك منهم ولا من إيمانهم فالله عليم بما ينبغي لك حكيم في هدي من شاء وإضلال من شاء .