سورة مكية نزلت بعد سورة إبراهيم ، وآياتها 112 آية ، وهي تبين قرب الساعة ، مع غفلة المشركين عنها . وقد ادعوا أن الرسول لا يكون بشرا ، وقالوا مرة عن القرآن سحر ، ومرة شعر ، ومرة أضغاث أحلام . والنذر بين أيديهم قائمة ، وما كان الرسل إلا رجالا مثل محمد صلي الله عليه وسلم وأن السابقين قبلهم كذبوا كما كذبت قريش فدمر فقصم الله قراهم ، وهو القادر علي الإهلاك والإبقاء ، وله كل ما في السماوات والأرض ، والملائكة في معارجهم يسبحون الله تعالي ولا يفترون ، وإن صلاح السماوات والأرض دليل علي أن منشيءهما واحد ، فلو شاركه أحد لفسدتا ، والرسل جميعا جاءت بعبادة الله وحده ليس له ولد . ولا يقول أحد إن إلها آخر مع الله وإلا فجزاؤه جهنم . وبين سبحانه شأن عظمة خلقه وعجائب التكوين في السماوات والأرض ، وبين حال المشركين والكافرين ، ونبه سبحانه وتعالي إلي حفظ الله تعالي للناس ، وأشار سبحانه إلي ما يكون مكن جزاء يوم القيامة للكافرين . وذكر قصة موسى وهارون مع فرعون ، وقصة إبراهيم مع قومه وإنعامه عليه بالذرية الطيبة ، وذكر سبحانه قصة لوط وقومه وهلاكهم ، وقصة نوح عليه السلام وكفر قومه ، وإبادتهم إلا من آمن ، ثم أشار سبحانه وتعالي إلي قصص سليمان ، وداود ، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ومريم وابنها عيسى ، وتحدث عن يأجوج ومأجوج ، وبين سبحانه العمل الصالح وثمرته ، وما يجازى به الذين اتقوا وأحسنوا وحالهم يوم القيامة ، ورحمة الله في الرسالة المحمدية ، وإنذار الله للمشركين ، وأن الأمر له يحكم وهو خير الحاكمين .
1- دنا للمشركين وقت حسابهم يوم القيامة ، وهم غافلون عن هوله ، معرضون عن الإيمان به .
{ 1 - 4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
هذا تعجب من حالة الناس ، وأنه لا ينجع فيهم تذكير ، ولا يرعون إلى نذير ، وأنهم قد قرب حسابهم ، ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة ، والحال أنهم في غفلة معرضون ، أي : غفلة عما خلقوا له ، وإعراض عما زجروا به . كأنهم للدنيا خلقوا ، وللتمتع بها ولدوا ، وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ ، ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم ، ولهذا قال : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } .
سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة
هذه السورة ، مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية . . موضوع العقيدة . . تعالجه في ميادينه الكبيرة : ميادين التوحيد ، والرسالة والبعث .
وسياق السورة يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها . فالعقيدة جزء من بناء هذا الكون ، يسير على نواميسه الكبرى ؛ وهي تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وعلى الجد الذي تدبر به السموات والأرض ، وليست لعبا ولا باطلا ، كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا ، ولم يشب خلقه باطل : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) . .
ومن ثم يجول بالناس . . بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم . . بين مجالي الكون الكبرى : السماء والأرض . الرواسي والفجاج . الليل والنهار . الشمس والقمر . . . موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها ، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر ، والمالك الذي لا شريك له في الملك ، كما أنه لا شريك له في الخلق . . ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . .
ثم يوجه مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض ، وإلى وحدة مصدر الحياة : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء : ( كل نفس ذائقة الموت ) . . وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون : ( وإلينا ترجعون ) . .
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى . فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمان : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) . . وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر : ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) . .
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى ، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض . فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل ، لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . . وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين ، وينجي الله الرسل والمؤمنين : ( ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ) . . وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) . .
ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا . يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم - عليه السلام - وعند الإشارة إلى داود وسليمان . ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح ، وموسى ، وهارون ، ولوط ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى عليهم السلام .
وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة . تتجلى . في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات ، بعدما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس .
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة ؛ وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة .
وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد ، هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل [ ص ] فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم . . . ) .
إن هذه الرسالة حق وجد . كما أن هذا الكون حق وجد . فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ؛ ولا مجال لطلب الآيات الخارقة ؛ وآيات الله في الكون وسنن الكون كله . توحي بأنه الخالق القادر الواحد ، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد .
نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير ، الذي يتناسق مع موضوعها ، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع . . يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا . فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما . وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها . .
ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم - عليه السلام - في مريم ونظمها هنا . وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك . ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه . أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام ، وإلقاء إبراهيم في النار . ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع .
والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة :
الأول : ويبدأ بمطلع قوي الضربات ، يهز القلوب هزا ، وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق ، وهي عنه غافلة لاهية : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . . . الخ .
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين ، الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين ، فعاشوا سادرين في الغي ظالمين : ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . قالوا : يا ويلنا ! إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) . .
ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة ، والحق والجد في نظام الكون . وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود . وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة . ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه .
فأما الشوط الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول [ ص ] بالسخرية والاستهزاء ، بينما الأمر جد وحق ، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام . وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب . . وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة . ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم . ويقرر أن ليس لهم من الله من عاصم . ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها ، وتزوي رقعتها وتطويها ، فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء . .
وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ ص ] إلى بيان وظيفته : ( قل : إنما أنذركم بالوحي ) وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم : ( ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون )حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون .
ويتضمن الشوط الثالث استعراض أمة النبيين ، وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة . كما تتجلى رحمة الله بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين .
أما الشوط الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير ، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة : ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت : إيقاعا قويا ، وإنذارا صريحا ، وتخلية بينهم وبين مصيرهم المحتوم . .
والآن نأخذ في دراسة الشوط الأول بالتفصيل . .
( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا . هل هذا إلا بشر مثلكم . أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ? قال : ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم . بل قالوا : أضغاث أحلام ، بل افتراه ، بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون . ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها . . أفهم يؤمنون ? وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ، وما كانوا خالدين . ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ) . .
مطلع قوي يهز الغافلين هزا . والحساب يقترب وهم في غفلة . والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى . والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته .
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، هن من العتاق الأول وهن من تلادي .
هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها ، وأن الناس في غفلة عنها ، أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها . وقال النسائي : حدثنا أحمد بن نصر ، حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم { في غفلة معرضون } قال : «في الدنيا » . وقال تعالى : { اتى أمر الله فلا تستعجلوه } وقال { اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا } الآية ، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال : أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول :
الناس في غفلاتهم *** ورحى المنية تطحن
فقيل له : من أين أخذ هذا ؟ قال من قول الله تعالى : { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الآمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب ، فأكرم عامر مثواه ، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب ، وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك ، فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } .