قوله تعالى : { إذ تصعدون } . يعني ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن ، وقتادة ، تصعدون بفتح التاء والعين ، والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين . والإصعاد السير في مستوى الأرض ، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح ، قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، وقال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب ، وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد ، وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد .
قوله تعالى : { ولا تلوون على أحد } . أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد لا يلتفت بعضكم إلى بعض .
قوله تعالى : { والرسول يدعوكم في أخراكم } . أي : في آخركم ومن ورائكم " إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة " .
قوله تعالى : { فأثابكم } . فجازاكم ، جعل الإثابة بمعنى العقاب ، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب ، كقوله تعالى ( فبشرهم بعذاب أليم ) . جعل البشارة في العذاب ، ومعناه جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون .
قوله تعالى : { غماً بغم } . وقيل : الباء بمعنى على ، أي غماً على غم ، وقيل : غماً متصلاً بغم ، فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني ما نالوا من القتل والهزيمة . وقيل : الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح . والغم الثاني ما سمعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فأنساهم الغم الأول وقيل : الغم الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين ، والغم الثاني : حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال " أنا رسول الله " صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشعب ، فلما نظر المسلمون إليهم أهمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم . وقيل : إنهم غموا الرسول بمخالفة أمره ، فجازاهم الله بذلك الغم غم القتل والهزيمة .
قوله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } . من الفتح والغنيمة .
قوله تعالى : { ولا ما أصابكم } . أي ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة .
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور }
يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال ، ويعاتبهم على ذلك ، فقال : { إذ تصعدون } أي : تجدون في الهرب { ولا تلوون على أحد } أي : لا يلوي أحد منكم على أحد ، ولا ينظر إليه ، بل ليس لكم هم إلا الفرار والنجاء عن القتال .
والحال أنه ليس عليكم خطر كبير ، إذ لستم آخر الناس مما يلي الأعداء ، ويباشر الهيجاء ، بل { الرسول يدعوكم في أخراكم } أي : مما يلي القوم يقول : " إليَّ عباد الله " فلم تلتفتوا إليه ، ولا عرجتم عليه ، فالفرار نفسه موجب للوم ، ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس ، أعظم لوما بتخلفكم عنها ، { فأثابكم } أي : جازاكم على فعلكم { غما بغم } أي : غما يتبع غما ، غم بفوات النصر وفوات الغنيمة ، وغم بانهزامكم ، وغم أنساكم كل غم ، وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل .
ولكن الله -بلطفه وحسن نظره لعباده- جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم ، فقال : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من النصر والظفر ، { ولا ما أصابكم } من الهزيمة والقتل والجراح ، إذا تحققتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات ، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة ، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم ، وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم ، وظواهركم وبواطنكم ، ولهذا قال : { والله خبير بما تعملون }
ويحتمل أن معنى قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } يعني : أنه قدَّر ذلك الغم والمصيبة عليكم ، لكي تتوطن نفوسكم ، وتمرنوا على الصبر على المصيبات ، ويخف عليكم تحمل المشقات
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بما كان من بعضهم بعد أن اضطربت أحوالهم وجاءهم أعداؤهم من أمامهم ومن خلفهم بسبب ترك معظم الرماة لأماكنهم ، فقال - تعالى - { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
وقوله : { تُصْعِدُونَ } من الإصعاد وهو الذهاب فى صعيد الأرض والإبعاد فيه .
يقال : أصعد فى الأرض إذا أبعد فى الذهاب وأمعن فيه ، فهو الصعد .
قال القرطبى : الإصعاد : السير فى مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب .
والصعود : الارتفاع على الجبال والدرج .
وقوله { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بمحذوف تقديره اذكروا .
أى اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم مصعدين تهرولون بسرعة فى بطن الوادى بعد أن اختلت صفوفكم - واضطرب جمعكم . وصرتم لا يعرج بعضكم على بعض ولا يتلفت أحدكم إلى غيره من شدة الهرب ، والحال أن رسولكم صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أى يناديكم فى أخراكم أو فى جماعتكم الأخرى أو من خلفكم يقال .
جاء فلان فى آخر الناس وأخراهم إذا جاء خلفهم ، كما يقال : جاء فى أولهم وأولاهم .
والمراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو المنهزمين إلى الثبات وإلى ترك الفرار من الأعداء وإلى معاودة الهجوم عليهم وهو ثابت لم يتزعزع ومعه نفر من أصحابه .
قال ابن جرير لما اشتد المشكرون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلىَّ عباد الله " ! فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبى صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع معجز لحال المسلمين عندما اضطربت صفوفهم فى غزوة أحد ، فهى تصور حالهم وهم مصعدون فى الوادى بدون تمهل أو تثبت ، وتصور حالهم وقد أخذ منهم الدهش مأخذه بحيث أصبح بعضهم لا يلتفت إلى غيره أو يسمع له نداء ، أو يجيب له طلبا وتصور حال النبى صلى الله عليه وسلم وقد ثبت كالطود الأشم بدون اضطراب أو وجل ومعه صفوة من أصحابه وقد أخذ ينادى الفارين بقوله : " إلى عباد الله ، إلى عباد الله أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة " .
وقوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } .
بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الاضطراب وهو معطوف على قوله { صَرَفَكُمْ } أو على قوله { تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ } ولا يضر كونهما مضارعين فى اللفظ لأن إذ المضافة إليهما صيرتهما ماضيين فى المعنى .
وأصل الإثابة إعطاء الثواب ، وهو شىء يكون جزاء على عطاء أو فعل ولفظ الثواب لا يستعمل فى الأعم الأغلب إلا في الخير ، والمراد به هنا العقوبة التى نزلت بهم . وسميت العقوبة التى نزلت بهم ثوابا على سبيل الاستعارة التهكمية كما فى قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ويجوز أن يكون اللفظ مستعملا فى حقيقته ، لأن لفظ الثواب فى أصل اللغة معناه ما يعود على الفاعل من جزاء فعله ، سواء أكان خيراً أو شراً .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } الغم فى اللغة التغطية . يقال : غممت الشىء أى غطيته . ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين .
قال مجاهد وقتادة وغيرهما ، والغم الأول القتل والجراح والغم الثانى الإرجاف بمقتل النبى صلى الله عليه وسلم وقيل الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثانى : استعلاء المشركين عليهم . وعند ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم
والباء فى { بِغَمٍّ } على هذا بمعنى على . وقيل هى على بابها والمعنى أنهم غموا النبى صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم " .
ويجوز أن يكون الكلام لمجرد التكثير أى جازاكم بغموم وأحزان كثيرة متصل بعضها ببعض بأن منع عنكم نصره وحرمكم الغنيمة وأصابتكم الجراح الكثيرة وأشيع بينكم أن نبيكم قد قتل . . وكل ذلك بسبب أنكم خالفتم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم وتغلب حب الدنيا وشهواتها على قلوب بعضكم فلم تخلصوا لله الجهاد فأصابكم ما أصابكم .
وقوله { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } تعليل لقوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أى : ولقد عفا الله - تعالى - عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر ، ولا على ما أصابكم من جراح وآلام ، فإن عفو الله - تعالى - يذهب كل حزن ويمسح كل ألم .
وير صاحب الكشاف أن معنى " لكى لا تحزنوا " لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار .
ثم قال : ويجوز أن يكون الضمير فى { فَأَثَابَكُمْ } للرسول . أى : فآساكم فى الاغتمام - أى فصار أسوتكم - لأنه كما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرها فقد غمه ما نزل بكم . فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : والله - تعالى - عليم بأعمالكم ونياتكم علما كاملا ، وخير بما انطوت عليه نفوسكم فهو - سبحانه - لا تخفى عليه خافية مهما صغرت ، فاتقوه وراقبوه واتبعوا ما كلفكم به لتنالوا الفوز والسادة .
{ إذ تصعدون } متعلّق بقوله : { ثم صرفكم عنهم } [ آل عمران : 152 ] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون .
والإصْعاد : الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيداً ، قال جعفر بن عُلْبة :
* هَوَاي مَع الرَكْب اليَمَانِينَ مُصْعِد *
والإصعاد أيضاً السَّير في الوادي ، قال قتادة والربيع : أصعدوا يوم أحُد في الوادي . والمعنى : تفرّون مصعدين ، كأنَّه قيل : تذهبون في الأرض أي فراراً ، فـ ( إذ ) ظرف للزمان الَّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره .
{ ولا تلوون على أحد } أي في هذه الحالة . واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه ، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف ، والمراد على أحد منكم ، يعني : فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به ، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه .
وجملة { والرسول يدعوكم في أُخراكم } حال ، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم . ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة ، وهذا هو دعاء الرسول النَّاس بقوله : « إليّ عباد الله من يَكُر فله الجنَّة » .
وقوله : { فأثابكم غما } إن كان ضمير { فأثابكم } ضميرَ اسم الجلالةَ ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } [ آل عمران : 154 ] فهو عطف على { صَرَفكم } [ آل عمران : 152 ] أي ترتّب على الصرف إثابتكم . وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل . والغمّ ليس بخير ، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَينَاكُم فَعَجَّلْنَا قِراكم *** قبيلَ الصبح مِرداة طحونا
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم ، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله : { فبشّرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وفي هذا الوجه بعد : لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ ، ومقام لا تنديم . وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب ، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق :
أخاف زياداً أن يكون عطاؤُه *** أدَاهِم سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا
قلتُ : اطبُخوا لي جُبَّةً قميصاً .
ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة ، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده .
والباء في قوله : { بغمّ } للمصاحبة أي غمّاً مع غمّ ، وهو جملة الغموم الَّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النَّصر بعد ظهور بَوارقه ، ومن الانهزام ، ومن قتل من قُتل ، وجرح من جرح ، ويجوز كون الباء للعوض ، أي : جازاكم الله غمّاً في نفوسكم عوضاً عن الغمّ الَّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله : { فأثابكم } عائداً إلى الرسول في قوله : { والرسول يدعوكم } ، وفيه بعد ، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ .
والباء في قوله : { بغمّ } باء العوض . والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول ، والغمّ الثَّاني غمّ المسلمين ، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم ، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاءاً على غمّكم لأجله .
وقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } تعليل أوّل ل ( أثابكم ) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، وما أصابكم من القتل والجراح ، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة ، وقيل : ( لا ) زائدة والمعنى : لتحزنوا ، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله : { أثابكم } تهكّماً أو المعنى فأثابكم الرسول غمّاً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم : أي سكت عن تثريبكم ، ولم يظهر لكم إلاّ الاغتمام لأجلكم ، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزناً على ما فاتكم ، فأعرض عن ذكره جَبراً لخواطركم . وقيل : المعنى أصابكم بالغمّ الَّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب ، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب .
وفي الجمع بين { ما فاتكم } و { ما أصابكم } طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر ، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولقد عفا عنكم أيها المؤمنون إذ لم يستأصلكم، إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم، وهربكم {إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}...
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضمّ التاء وكسر العين، وبه القراءة عندنا لإجماع الحجة من القراء على القراءة به، واستنكارهم ما خالفه...
فأما الذين قرأوا: {تُصْعِدُونَ} -بضم التاء وكسر العين- فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أن القوم حين انهزموا عن عدوّهم أخذوا في الوادي هاربين. وذكروا أن ذلك في قراءة أبيّ: «إذْ تُصْعِدون في الوادي»...
قالوا: الهرب في مستوى الأرض، وبطون الأودية والشعاب، إصعاد لا صعود، قالوا وإنما يكون الصعود على الجبال والسلاليم والدّرَج، لأن معنى الصعود: الارتقاء والارتفاع على الشيء علوّا. قالوا: فأما الأخذ في مستوى الأرض الهبوط، فإنما هو إصعاد، كما يقال: أصعدنا من مكة، إذا ابتدأت في السفر منها والخروج، وأصعدنا من الكوفة إلى خراسان، بمعنى خرجنا منها سفرا إليها، وابتدأنا منها الخروج إليها. قالوا: وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوّهم في بطن الوادي...
وأما الحسن فإني أراه ذهب في قراءته: «إذْ تَصْعَدُونَ» بفتح التاء والعين إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صَعِدوا الجبل. وقد قال ذلك عدد من أهل التأويل...
وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضم التاء وكسر العين، بمعنى السبق والهرب في مستوى الأرض، أو في المهابط، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففي إجماعها على ذلك الدليل الواضح على أن أولى التأويلين بالآية تأويل من قال: أصعدوا في الوادي، ومضوا فيه، دون قول من قال: صعدوا على الجبل. وأما قوله: {وَلا تَلْوْونَ على أحَدٍ} فإنه يعني: ولا تعطفون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا من عدوّكم مصعدين في الوادي. ويعني بقوله: {وَالرّسُولُ يَدعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه في أخراكم، يعني أنه يناديكم من خلفكم: «إليّ عِبادَ اللّهِ، إليّ عِبادَ اللّه!»...
{فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} يعني: فجازاكم بفراركم عن نبيكم، وفشلكم عن عدوّكم، ومعصيتكم ربكم غما بغمّ، يقول: غمّا على غمّ. وسمى العقوبة التي عاقبهم بها من تسليط عدوّهم عليهم حتى نال منهم ما نال ثوابا، إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم، فدلّ بذلك جلّ ثناؤه أن كل عوض كالمعوّض من شيء من العمل، خيرا كان أو شرّا، أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إليه، فإنه مستحقّ اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة...
وأما قوله: {غَمّا بِغَمّ} فإنه قيل: غما بغمّ، معناه: غما على غم، كما قيل: {وَلأصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ} بمعنى: ولأصلبنكم على جذوع النخل. وإنما جاز ذلك، لأن معنى قول القائل: أثابك الله غما على غمّ: جزاك الله غما بعد غمّ تقدّمه، فكان كذلك معنى: فأثابكم غما بغمّ، لأن معناه: فجزاكم الله غما بعقب غمّ تقدّمه، وهو نظير قول القائل: نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان، وضربته بالسيف، وعلى السيف. واختلف أهل التأويل في الغمّ الذي أثيب القوم على الغمّ، وما كان غمهم الأوّل والثاني، فقال بعضهم: أما الغمّ الأوّل، فكان ما تحدّث به القوم أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قُتِل. وأما الغمّ الآخر، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح...
وقال آخرون: بل غمهم الأول كان قتل من قُتل منهم، وجرح من جُرح منهم والغمّ الثاني: كان من سماعهم صوت القائل: قُتل محمد صلى الله عليه وسلم... وقال آخرون: بل الغمّ الأوّل ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة، والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشعب. وذلك أن أبا سفيان فيما زعم بعض أهل السير لما أصاب من المسلمين ما أصاب، وهرب المسلمون، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أُحد الذي كانوا ولوا إليه عند الهزيمة، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه...
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: معنى قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين، والظفر بهم، والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم ربكم، وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم، غمّ ظنكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل، وميل العدوّ عليكم بعد فلولكم منهم. والذي يدلّ على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه، قوله: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} والفائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إليه من غيرهم، إما من ظهور عليهم بغلبهم، وإما من غنيمة يحتازونها، وأن قوله: {وَلا ما أصَابَكُمْ} هو ما أصابهم إما في أبدانهم، وإما في إخوانهم. فإن كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الغمّ الثاني هو معنى غير هذين، لأن الله عزّ وجلّ أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ثابهم غما بغمّ، لئلا يحزنهم ما نالهم من الغمّ الناشئ عما فاتهم من غيرهم، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم، وهو الغمّ الأول على ما قد بيناه قبل. وأما قوله: لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} فإن تأويله على ما قد بينت من أنه لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوّكم بالظفر عليهم والظهور وحيازة غنائمهم، ولا ما أصابكم في أنفسكم من جرح من جُرح وقَتل من قُتل من إخوانكم...
وأما قوله: {وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْلَمُونَ} فإنه يعني جلّ ثناؤه: والله بالذي تعلمون أيها المؤمنون من إصعادكم في الوادي هربا من عدوكم، وانهزامكم منهم، وترككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم، وحزنكم على ما فاتكم من عدوّكم، وما أصابكم في أنفسهم ذو خبرة وعلم، وهو محص ذلك كله عليكم حتى يجازيكم به المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو يعفو عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {إذ تصعدون ولا تلوون} فيه لغتان: تصعدون بفتح التاء وهو من الصعود: أ ن صعدوا الجبل و {تصعدون} بالرفع: أن أصعدوا أصحابهم نحو الوادي لأن المنهزم إذا التفت فرأى منهزما آخر اشتد...
وقوله تعالى: {فأثابكم غما بغم} اختلف فيه: قيل:... غم الاعتذار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغم الذي جفوه به حين مالوا إلى الدنيا في ما أمرهم... وحقيقته أن يكون أحد الغمين جزاء والآخر ابتداء، وفي ذلك تحقيق الزلة والجزاء، وذلك كقوله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى 30). وقوله تعالى: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم}... ويحتمل قوله: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} من الدنيا {ولا ما أصابكم} فيها من أنواع الشدائد بما أدخلتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغم بعصيانكم إياه، وقوله: {والله خبير بما تعملون} على الوعيد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...في قوله تعالى: {في أخراكم} مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس... وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع (كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله تعالى: {فأثابكم} معناه: جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم ثواباً على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب...
وقوله تعالى: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} معناه: من الغنيمة و {ما أصابكم} معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم. قال القاضي أبو محمد: واللام من قوله: {لكيلا} متعلقة ب"أثابكم"، المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه...
فيه قولان: أحدهما: أنه متعلق بما قبله، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه: أحدها: كأنه قال وعفا عنكم إذ تصعدون، لأن عفوه عنهم لا بد وأن يتعلق بأمر اقترفوه، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله: {إذ تصعدون} والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد وثانيها: التقدير: ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون. وثالثها: التقدير: ليبتليكم إذ تصعدون. والقول الثاني: أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله، والتقدير: اذكر إذ تصعدون...
ولا تلوون على أحد: أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته، فإذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه، ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات إلى الشيء، يقال: فلان لا يلوي على شيء، أي لا يعطف عليه ولا يبالي به. ثم قال تعالى: {والرسول يدعوكم}... يحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو...
ثم قال: {فأثابكم غما بغم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي رجع إليه، قال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} والمرأة تسمى ثيبا لأن الواطئ عائد إليها، وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير، فإن حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم، كما يقال: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم}. المسألة الثانية: الباء في قوله: {غما بغم} يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة، كما يقال: هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى «مع» والتقدير: أثابهم غما مع غم، أما على التقدير الأول ففيه وجوه:... [منها]: وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره، فالله تعالى أذاقكم هذا الغم، وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب، والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم...
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة: فأحدها: غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال. وثانيها: غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك، وثالثها: غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية، ورابعها: ما أرجف به من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وخامسها: بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها، وسادسها: غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم، وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام، وذلك من أشق الأشياء، لأن الإنسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جبانا، فإذا أمر بالمعاودة، فإن فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف الكفر أو عقاب الآخرة، وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان...
وفي الآية قول... [آخر] اختاره القفال رحمه الله تعالى قال: وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله: {غما بغم} اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي أن الله عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصية، فكأنه تعالى قال: أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى...
ثم قال تعالى: {لكيلا تحزنوا} وفيه وجهان: الأول: أنها متصلة بقوله: {ولقد عفا عنكم} كأنه قال: ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا، لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن، والثاني: أن اللام متصلة بقوله: {فأثابكم} ثم على هذا القول ذكروا وجوها: الأول: قال الزجاج: المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي صلى الله عليه وسلم بسبب مخالفته، ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط، لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة، وذلك لان الغم الحاصل بسبب الإقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا. الثاني: قال الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر، لأجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا بإقبالها، وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله: {غما بغم} للمجازاة، أما إذا قلنا إنها بمعنى «مع» فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة، والعاقل إذا تعارض عنده الضرران، وجب أن يخص أعظمهما بالدفع، فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة، وزاجرا لكم عن ذلك، ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا، زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال: {والله خبير بما تعملون} أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادر على مجازاتها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الإقدام على المعصية، والله أعلم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الإصعاد: ابتداء السفر، والمخرج...
ومما تحتمله الآية: أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته، كان الجد في الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت، فصار ذلك أي: شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم، كأنه قيل: صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم. {والله خبير بما تعملون} هذه الجملة تقتضي تهديداً، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات، تنبيهاً على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر علة الصرف والعفو عنه صوّره فقال: {إذ} أي صرفكم وعفا عنكم حين {تصعدون} أي تزيلون الصعود فتنحدرون نحو المدينة، أو تذهبون في الأرض لتبعدوا عن محل الوقعة خوفاً من القتل {ولا تلوون} أي تعطفون {على أحد} أي من قريب ولا بعيد {والرسول} أي الذي أرسل إليكم لتجيبوه إلى كل ما يدعوكم إليه وهو الكامل في الرسلية {يدعوكم في أخراكم} أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير لا يبلغون أربعين نفساً على اختلاف الروايات -وثوقاً بوعد الله ومراقبة له، يقول كلما مرت عليه جماعة منهزمة:"إليّ عباد الله! أنا رسول الله! إليّ إليّ عباد الله" كما هو اللائق بمنصبه الشريف من الاعتماد على الله والوثوق بما عنده وعد من دونه من ولي وعدو عدماً؛ وإنما قلت: إن معنى ذلك الانهزام، لأن الدعاء يراد منه الإقبال على الداعي بعد الانصراف عما يريده ليأمر وينهى، فعلم بذلك أنهم مولون عن المقصود وهو القتال، وفي التفسير من البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير رضي الله تعالى عنه وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً. ولما تسبب عن العفو ردهم عن الهزيمة إلى القتال قال تعالى: {فأثابكم} أي جعل لكم ربكم ثواباً {غماً} أي باعتقادكم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان اعتقاداً كاذباً مُلتئم به رعباً {بغم} أي كان حصل لكم من القتل والجراح والهزيمة، وسماه- وإن كان في صورة العقاب -باسم الثواب لأنه كان سبباً للسرور حين تبين أنه خبر كاذب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سالم حتى كأنهم- كما قال بعضهم -لم تصبهم مصيبة، فهو من الدواء بالداء، ثم علله بقوله: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي من النصر والغنيمة {ولا ما أصابكم} أي من القتل والجراح والهزيمة لاشتغالكم عن ذلك بالسرور بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولما قص سبحانه وتعالى عليهم ما فعلوه ظاهراً وما قصدوه باطناً وما داواهم به قال- عاطفاً على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى خبير بما يصلح أعمالكم ويبرئ أدواءكم -: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {خبير بما تعملون} أي من خير وشر في هذه الحال وغيرها، وبما يصلح من جزائه ودوائه، فتارة يداوي الداء بالداء وتارة بالدواء، لأنه الفاعل القادر المختار.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي صرفكم عنهم في ذلك الوقت الذي أصعدتم فيه، أي ذهبتم وأبعدتم في الأرض منهزمين- وهو غير الصعود الذي هو الذهاب في المرتفعات كالجبال- لا تلوون أي: لا تعطفون على أحد بنجدة ولا مدافعة، ولا تلتفتون إلى من ورائكم لشدة الدهشة التي عرتكم والذعر الذي فاجأكم، {والرسول يدعوكم في أخراكم} أي تفعلون ذلك والرسول من ورائكم يدعوكم إليه فيمن تأخر معه منكم فكانوا ساقة الجيش- روي أنه كان يقول في دعوته:"إلي عباد الله إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة" وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون، وكان يجب أن يكون لكم أسوة حسنة في الرسول فتقتدوا به في صبره وثباته، ولكن أكثركم لم يفعل {فأثابكم غما بغم} أي فجازاكم الله غما بسبب الغم الذي أصاب الرسول من فشلكم وهزيمتكم أو غما متصلا بغم، فنال العدو منكم، ونلتم من أنفسكم إذ صرتم من الدهشة يضرب بعضكم بعضا، وفاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها. قال الأستاذ الإمام: الغم هو: الألم الذي يفاجئ الإنسان عند نزول المعصية، وأما الحزن فهو: الألم الذي يكون بعد ذلك ويستمر زمنا، أقول والمتبادر أن الغم: ألم أو ضيق في الصدر يكون في الأمر الذي يسوءك وإن لم تتبين حقيقته أو سببه أو لا تدري كيف يكون المخرج منه، فإن المادة تدل على معنى الخفاء...
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم} أي لأجل أن لا تحزنوا بعد هذا التأديب والتمرين على ما فاتكم من غنيمة ومنفعة، {ولا ما أصابكم} من قرح ومصيبة، فإن التربية إنما تكون بالعمل والتمرن الذي به يكمل الإيمان وترسخ الأخلاق...
{والله خبير بما تعملون} لا يخفى عليه شيء من دقائقه وأسبابه ولا من نيتكم فيه وعاقبته فيكم. ومن بلاغة هذه الجملة في هذه الموضع أن كل واحد من المخاطبين يتذكر عند سماعها أو تلاوتها أن الله تعالى مطلع على عمله عالم بنيته وخواطره فيحاسب نفسه، فإن كان مقصرا تاب من ذنبه وإن كان مشمرا ازداد نشاطا خوف الوقوع في التقصير وأن يراه الله حيث لا يرضى. قال الأستاذ الإمام: يقول فلا تعتذروا عن أنفسكم ولا تخادعوها فإن الخبير بأعمالكم المحيط بنفوسكم لا يخفى عليه من أمركم خافية، وإنما المعول على علمه وخبره لا على أعذاركم وتأويلكم لأنفسكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة... كي يعمق وقع المشهد في حسهم؛ ويثير الخجل والحياء من الفعل، ومقدماته التي نشأ عنها، من الضعف والتنازع والعصيان.. والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل.. فهم مصعدون في الجبل هربا، في اضطراب ورعب ودهش، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد! والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم، ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح: إن محمدا قد قتل، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم.. إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل.. وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم بفرارهم، غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه -وهو ثابت دونهم، وهم عنه فارون- ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم. فهذه التجربة التي مرت بهم، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم -وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم- وذلك الندم الذي ساور نفوسهم، وذلك الغم الذي أصابهم.. كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض، وكل ما يصيبهم من مشقة: (فأثابكم غما بغم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم).. والله المطلع على الخفايا، يعلم حقيقة أعمالكم، ودوافع حركاتكم
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولا تلوون على أحد} أي في هذه الحالة. واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف، والمراد على أحد منكم، يعني: فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه. وجملة {والرسول يدعوكم في أُخراكم} حال، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم. ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة... وقوله: {فأثابكم غما}... وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل. والغمّ ليس بخير، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية... أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله: {فبشّرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] وفي هذا الوجه بعد: لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ، ومقام لا تنديم. وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب... ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده...
وقوله: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} تعليل أوّل ل (أثابكم) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، وما أصابكم من القتل والجراح، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة، وقيل: (لا) زائدة والمعنى: لتحزنوا، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله: {أثابكم} تهكّماً أو المعنى فأثابكم الرسول غمّاً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم: أي سكت عن تثريبكم، ولم يظهر لكم إلاّ الاغتمام لأجلكم، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزناً على ما فاتكم، فأعرض عن ذكره جَبراً لخواطركم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا بيان لبعض ما جرى للمسلمين في أحد، بعد أن نزل الرماة إلى ميدان الغنيمة في غير الوقت المحدود، وهو يصور جيش الحق، وقد اضطرب بسبب ذلك الغلط الذي كان يبدو صغيرا لمن وقعوا فيه، وله نتائج خطيرة، والصورة البيانية التي تستمد من النص الكريم ترينا كيف كان المقاتلون يسيرون على غير مقصد يقصدون إليه، لا إلى النجاة بأنفسهم يسعون، وقد أحيط بهم، ولا إلى العدو يقصدون، وقد أظهر أنه استعلى عليهم مؤقتا، وظنوا هم في أنفسهم الظنون، ولا فوضى في جند أكثر من أن يسير على غير مقصد، وجيش الإسلام وهو في هذه الحيرة وهذا التيه كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخره يدعو جنده قائلا فيما روي عنه:"إلي عباد الله إلى عباد الله، انا رسول الله، من يكر فله الجنة"...
{فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} أثاب معناه أعاد وأعقب ما ارتكبوه كنتيجة غما بغم، فمعنى الثوب عودة الشيء ورجوعه إلى الأمر الذي كان مقدرا له على أنه غايته ونتيجته...
{والله خبير بما تعملون} ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص للإشارة إلى أن ما وقع كله كان في علم الله، يعلمه علما دقيقا قد أحصى فيه كل أعمالكم قبل وقوعها، وقدر نتائجها ونهاياتها، وما يعقبه بعد ذلك من عبرة يحملكم على الطاعة المطلقة للقائد الحكيم الذي يهديكم سبيل الرشاد، وانه لا نصر مع المعصية، ولا هزيمة مع الطاعة واحتساب النية، والله بكل شيء محيط.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه صورة من صور معركة أُحد، في نهاياتها التي رافقت أجواء الهزيمة بعد النصر، وأبرزت كثيراً من السلبيات الفكرية والروحية في النماذج المتنوّعة المتواجدة في المعركة: [إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرَّسول يدعوكم في أخراكم] فقد انهزم المسلمون وأبعدوا في الأرض هرباً من الموقف الصعب الذي فرضته الهزيمة؛ وانطلق الرَّسول يدعوهم إلى أخراهم فيقول: ارجعوا إليّ عباد اللّه، ارجعوا إنّي أنا رسول اللّه، من يكرّ فله الجنَّة [فأثابكم غمّاً بغمٍّ] أي: غمّاً أذقتموه للرّسول بعصيانكم له، أو غمّاً مضاعفاً، أي غمّاً بعد غمّ، وغمّاً متصلاً بغمّ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة... ما يوحي بأنَّهم كانوا ممتدين في هربهم في خطّ طويل ابتعد أولهم عنه، واقترب آخرون منه؛ فقد كان يريدهم أن يتوقفوا قليلاً ليدرس معهم طبيعة الموقف، ويُحاول من خلاله تحويل الهزيمة إلى نصر جديد، ولكنَّهم لا يلوون على أحد، فلا يلتفتون إلى نداء الرَّسول أو غيره، فقد أخذت الهزيمة الداخلية مأخذها منهم، فهربوا من الموت... وعاشوا الغمّ النفسي الذي أثاره اللّه في نفوسهم في ما واجهوه من حالة الانسحاق الذاتي والندم المرير على ما قاموا به، وأفاقوا على واقع لم يحسبوا له حساباً، وذلك كردّ فعلٍ على الغمّ الذي جلبوه للرّسول وللمسلمين وللإسلام. وقد أراد اللّه لهم من خلال ذلك أن يعرّفهم كيف يربطون بين النتائج وأسبابها، فلا يُبادرون إلى الاندفاع في موقف إلاَّ بعد التفكير والتأمّل في عواقبه، لأنَّهم باندفاعهم يملكون الذهنية الساذجة أمام مشاكل الحياة وآلامها وهزائمها، لذا عليهم أن يملكوا الذهنية التي تجلس في كلّ مجال من هذه المجالات، لتحلّل وتناقش وتستنتج، من أجل أن تحوّل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، وتغيّر السلبيات إلى إيجابيات.
وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: [لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم واللّه خبيرٌ بما تعملون] فإنَّ الظاهر منها أنَّ اللّه أراد لهم أن يعيشوا الحالة النفسية التي تمثِّل ما يشبه الصدمة في الداخل على أساس ما حدث من أجل أن تكون تجربة ودرساً يُبعدهم عن مشاعر الحزن إزاء الخسارة أو المصيبة. إنَّ الخطّ الإسلامي في أمثال هذه الحالات الصعبة التي يمرّ بها المسلمون في الواقع السلبي الذي قد تتمخض عنه الحرب بالهزيمة العسكرية، هو عدم السقوط أمام التجربة المرّة بالحزن العاطفي الذي يجتر معه الإنسان الآلام في حالة نفسيةٍ مدمّرة، كما لو كانت الهزيمة أو الفشل نهاية المطاف في حياته، فلا يصير إلى غلبة أو نجاح بعدها أبداً. فإنَّ الحزن عاطفة إنسانية نبيلة، ولكن لا بُدَّ للإنسان من أن يحرّكها في الاتجاه الإيجابي الذي يثير في النفس المرارة لتدخل في هذا الجوّ في وعي التجربة، لاستخلاص العبر منها، من أجل الدخول في تجربة جديدة في مستقبل جديد.. وهكذا يتحوّل هذا الغمّ الذي يمثِّل ضيقاً في الصدر، وألماً في الإحساس، إلى انفتاح على كلّ مفردات القضية السلبية، من أجل أن يتفهموا طبيعتها وتفاصيلها، على صعيد الخسائر البشرية والمادية والمعنوية، فاللّه لا يريد للحزن أن يكون طابع المجاهدين العاملين في نتائج الأوضاع المعقّدة في حياتهم، فعليهم أن يراقبوا اللّه في ذلك من خلال إيمانهم بأنَّه خبير بما يفعلونه، سواء كان ذلك من خلال باطن أفعالهم أو ظاهرها، لينفتحوا على مواقع الصواب من خلال المحاسبة الدقيقة لكلّ الماضي المعقّد في انتظار المستقبل المنفتح، وهكذا يرتفع الحزن على الخسارة ليحل محله الوعي والأمل بانتظار الربح في المستقبل الآتي.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
بيان حقيقة كبرى وهى أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في واحد ترتب عليها آلام وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وثير فكيف بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفى كل أوامره ونواهيه وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ إنه سبحانه يذكر المسلمين بموقفهم في نهاية معركة «أُحد» فيقول: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) أي تذكروا إذ فررتم من المعركة، ورحتم تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل، تاركين رسول الله وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلاً: «إِليّ عباد الله إِليّ عباد الله فإني رسول الله» وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبداً، ولا تلبون نداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم (فأثابكم غما بغم)، لِما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولِما أصاب جماعة منكم من الجراحات والإصابات ولِما بلغكم من شائعة قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولقد كان كلّ ذلك من نتائج مخالفتكم لأوامر القيادة النبوية، وتجاهلكم لتأكيداتها بالمحافظة على المواقع المناطة لكم.
ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الانتصار (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم).
(والله خبير بما تعملون) فهو يعرف جيداً من ثبت منكم وأطاع، وكان مجاهداً واقعياً، ومن هرب وعصى، وعلى ذلك فليس لأحد أن يخدع نفسه، فيدعي خلاف ما صدر منه في تلك الحادثة، فإذا كنتم من الفريق الأول بحق وصدق فاشكروه سبحانه، وإن لم تكونوا كذلك فتوبوا إليه واستغفروه من ذنوبكم.