10- حين جاءوكم من أعلى الوادي ومن أسفله ، حين مالت الأبصار عن مستوى نظرها ، وارتفعت القلوب إلى منتهى الحلقوم فزعاً واضطراباً ، وأنتم في ذلك الوقت العصيب تذهب بكم الظنون في وعد الله كل مذهب{[177]} .
قوله عز وجل : { إذ جاءوكم من فوقكم } أي : من فوق الوادي من قبل المشرق ، وهم أسد ، وغطفان ، وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة ، { ومن أسفل منكم } يعني : من بطن الوادي ، من قبل المغرب ، وهم قريش وكنانة ، عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق . وكان السبب الذي جر غزوة الخندق فيما قيل : إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم . { وإذ زاغت الأبصار } مالت وشخصت من الرعب ، وقيل : مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها ، { وبلغت القلوب الحناجر } فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع ، والحنجرة : جوف الحلقوم ، وهذا على التمثيل ، عبر به عن شدة الخوف ، قال الفراء : معناه أنهم جنبوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ، ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره . { وتظنون بالله الظنونا } أي : اختلفت الظنون ، فظن المنافقون استئصال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم . قرأ أهل المدينة ، والشام ، وأبو بكر : الظنونا والرسولا والسبيلا بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، لأنها مثبته في المصاحف بالألف ، وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل ، وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رؤوس الآي .
وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على المدينة ، فحصروا المدينة ، واشتد الأمر ، وبلغت القلوب الحناجر ، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة ، والشدائد الشديدة ، فلم يزل الحصار على المدينة ، مدة طويلة ، والأمر كما وصف اللّه : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } أي : الظنون السيئة ، أن اللّه لا ينصر دينه ، ولا يتم كلمته .
ثم فصل - سبحانه - ما حدث للمؤمنين فى هذه الغزوة ، بعد هذا الإِجمال ، فقال : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أى : من أعلى الوادى من جهة المشرق .
والجملة بدل من قوله { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } . والمراد بالذين جاءوا من تلك الجهة : قبائل غطفان وهوزان . . وانضم إليهم بنو قريظة بعد أن نقضوا عهودهم .
{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أى : ومن أسفل الوادى من جهة المغرب ، وهم قريش ومعهم أحابيشهم وحلفاؤهم .
وقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } معطوف على ما قبله ، داخل معه فى حيز التذكير .
أى : واذكروا وقت أن زاغت أبصاركم ، ومالت عن كل شئ حولها ، وصارت لا تنظر إلا إلى أولئك الأعداء . يقال زاغ البصر يزيغ زيغا وزيغانا إذا مال وانحرف . ويقال - أيضا : زاغ البصر ، إذا مل وتعب بسبب استدامة شخوصه من شدة الهول .
وقوله { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } بيان آخر لما أصاب المسلمين من بلاء بسبب إحاطة جيوش الأحزاب بهم .
والحناجر : جمع حنجرة ، وهى جوف الحلقوم ، والمراد أن قلوبكم فزعت فزعا شديدا ، حتى لكأنها قد انتقلت من أماكنها إلى أعلى ، حتى قاربت أن تخرج من أفواهكم .
فالآية تصور ما أصاب المسلمين من فزع وكرب فى غزوة الأحزاب ، وتصيرا بديعا مؤثرا ، يرسم حركات القلوب ، وملامح الوجوه ، وخلجات النفوس .
وقوله - سبحانه - { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } بيان لما دار فى عقولهم من أفكار ، حين رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة .
والظنون جمع الظن . وهو مصدر يطلق على القليل والكثير منه . وجاء بصيغة الجمع لتعدد أنواعه ، واختلافه باختلاف قوة الإِيمان وضعفه .
أى : وتظنون - أيها المؤمنون - بالله - تعالى - الظنون المختلفة ، فمنكم من ازداد يقينا على يقينه ، وازداد ثقة بوعد الله - تعالى - وبنصره ، ومنكم من كان أقل من ذلك فى ثباته ويقينه ، ومنكم من كان يظهر أمامكم الإِيمان والاسلام ، ويخفى الكفر والعصيان ، وهم المنافقون وهؤلاء ظنوا الظنون السيئة ، بأن اعتقدوا بأن الدائرة ستدور عليكم .
قال ابن كثير : قوله { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } قال الحسن : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه - سبحانه - سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون .
" عن أبى سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شئ نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم : قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا " .
{ إذ } هذه لا بد من الأولى في قوله : { إذ جاءتكم } [ الأحزاب : 9 ] ، وقوله تعالى : { من فوقكم } يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، { ومن أسفل منكم } يريد مكة وسائر تهامة ، قاله مجاهد وقيل «من فوق وأسفل » هنا إنما يراد به ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة وطائفة في أسفلها ، وهذه عبارة عن الحصر ، و { زاغت } معناه مالت عن مواضعها ، وذلك فعل الواله الفزع المختبل ، وأدغم الأعمش { إذ زاغت } وبين الذال الجمهور وكل حسن ، { وبلغت القلوب الحناجر } عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها شعاعاً ويجد كأن حشوته وقلبه يصعد لينفصل ، فليس بلوغ القلوب الحناجر حقيقة بالنقلة بل يشير لذلك وتجيش فيستعار لها بلوغ الحناجر ، وروى أبو سعيد الخدري أن المؤمنين قالوا يوم الخندق : يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ، قال : «نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا » ، فقالوها فضرب الله تعالى وجوه الكفار بالريح فهزمهم{[9467]} .
وقوله { وتظنون بالله الظنونا } أي تكادون تضطربون وتقولون ما هذا الخلف للموعد ، وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها وأما المنافقون فجلحوا{[9468]} ونطقوا ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة «الظنونا » بالألف في الوصل والوقف ، وذلك اتباع لخط المصحف ، وعلته تعديل رؤوس الآي وطرد هذه العلة أن يلازم الوقف ، وقد روي عن أبي عمرو أنه كان لا يصل ، فكان لا يوافق خط المصحف وقياس الفواصل ، وقرأ أبو عمرو أيضاً وحمزة في الوصل والوقف «الظنون » بغير ألف وهذا هو الأصل ، وقرأ ابن كثير والكسائي وعاصم وأبو عمرو بالألف في الوقف وبحذفها في الوصل ، وعللوا الوقف بتساوي رؤوس الآي على نحو فعل العرب في القوافي من الزيادة والنقص .
{ إذ جاءوكم } بدل من { إذ جاءتكم جنود } [ الأحزاب : 9 ] بدلَ مفصَّل من مجمل . والمراد ب ( فوق ) و { أسفل } فوق جهة المدينة وأسفلها .
و { وإذا زاغت الأبصار } عطف على البدل وهو من جملة التفصيل ، والتعريف في { الأبصار والقلوب والحناجر للعهد ، أي : أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم ، أو تجعل اللام فيها عوضاً عن المضافات إليها ، أي : زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم .
والزَيغ : الميل عن الاستواء إلى الانحراف . فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه ، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار .
والحناجر : جمع حَنْجَرة بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم : منتهى الحُلقوم وهي رأس الغلصمة . وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق ؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعُود بهيئة قلببٍ تجاوز موضعه وذهب متصاعداً طالباً الخروج ، فالمشبه القلبُ نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين . وليس الكلام على الحقيقة ، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها ، وقريبٌ منه قولهم : تنفّس الصُعَداء ، وبلغت الروح التراقيَ .
وجملة { وتظنون بالله الظنونا } يجوز أن تكون عطفاً على جملة { زاغت الأبصار } ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء .
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر ، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لِمَا رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس ، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين ، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها .
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره ، ويخشى أن يكون النصر مرجَّأ إلى زمن آخر ، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به .
وحذف مفعولا { تظنون } بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف اقتصاراً ، أي : للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله ، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن ، وهو حذف مستعمل كثيراً في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يَرى } [ النجم : 35 ] وقوله : { وظننتم ظن السوء } [ الفتح : 12 ] ، وقول المثل : من يسمع يَخل ، ومنعه سيبويه والأخفش .
وضُمِّن { تظنّون } معنى تُلحقون ، فعدي بالباء فالباء للملابسة . قال سيبويه : قولهم : ظننت به ، معناه : جعلته موضع ظنّي . وليست الباء هنا بمنزلتها في { كفى بالله حسيباً } [ النساء : 6 ] ، أي : ليست زائدة ، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت : ظننت في الدار ، ومثله : شككت فيه ، أي : فالباء عنده بمعنى ( في ) .
والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصِّمَّة :
فقلت لهم : ظُنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد
وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى { فما ظنكم برب العالمين } في سورة الصافات ( 87 ) .
وانتصب { الظنونا } على المفعول المطلق المبين للعدد ، وهو جمع ظن . وتعريفه باللام تعريف الجنس ، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة :
أبيتك عارياً خلقاً ثيابي *** على خوف تظن بي الظنون
وكتب { الظنونا } في الإمام بألف بعد النون ، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف ، لأن الفواصل مثل الأسْجاع تعتبر موقوفاً عليها لأن المتكلم أرادها كذلك . فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة ، كما زيدت الألف في قوله تعالى { وأطعنا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] وقوله : { فأضلونا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] .
وعن أبي علي في « الحجة » : من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورؤوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، فأما في طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رؤوس الآي بقوافٍ .
فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف . وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف ، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل . وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن . وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكان الله بما تعملون بَصِيرا، إذ جاءتكم جنودُ الأحزاب من فوقِكم، ومن أسفلَ منكم. وقيل: إن الذين أتَوْهم من أسفل منهم، أبو سفيان في قريش ومن معه... عن مجاهد "إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ "قال عيينة بن بدر في أهل نجد، "ومن أسفل منكم"، قال: أبو سفيان. قال: وواجَهَتْهم قُرَيظة...
عن محمد بن إسحاق، قال: ثني يزيد بن رومان، "قوله إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ" فالذين جاءوهم من فوقهم: قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم: قريش وغطفان.
وقوله: "وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ" يقول: وحين عدلت الأبصار عن مقرّها، وشخصت طامحة...
وقوله: "وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ" يقول: نبت القلوب عن أماكنها من الرعب والخوف، فبلغت إلى الحناجر...
وقوله: "وَتَظُنّونَ باللّهِ الظّنُونا" يقول: وتظنون بالله الظنونَ الكاذبة، وذلك كظنّ من ظنّ منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغلب، وأن ما وعده الله من النصر أن لا يكون، ونحو ذلك من ظنونهم الكاذبة التي ظنها من ظنّ ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عسكره.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} فيه وجهان:... الثاني: أنه اختلاف ظنونهم فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون، قاله الحسن.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أحاط بهم سُرَادقُ البلاء، وأَحدقَ بهم عَسْكرُ العدوِّ، واستسلموا للاجتياح، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وتَقَسَّمَتْ الظنونُ، وداخَلَتْهُم كوامِنُ الارتياب، وبدا في سويدائهم جَوَلانُ الشكِّ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} خطاب للذين آمنوا؛ ومنهم الثبت القلوب والأقدام، والضعاف القلوب: الذين هم على حرف، والمنافقون: الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم؛ فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الظنونا} أي أنواع الظن أما بالنسبة إلى الأشخاص فواضح، وذلك بحسب قوة الإيمان وضعفه، وأما بالنسبة إلى الشخص الواحد فحسب تغير الأحوال، فتارة يظن الهلاك للضعف، وتارة النجاة لأن الله قادر على ذلك، و يظن المنافقون ومن قاربهم من ضعفاء القلوب ما حكى الله عنهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها صورة الهول الذي روع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها. وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب. من أعلاها ومن أسفلها. فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب، وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج. ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا. والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إذ جاءوكم} بدل من {إذ جاءتكم جنود} [الأحزاب: 9] بدلَ مفصَّل من مجمل. والمراد ب (فوق) و {أسفل} فوق جهة المدينة وأسفلها.
و {وإذا زاغت الأبصار} عطف على البدل وهو من جملة التفصيل، والتعريف في {الأبصار والقلوب والحناجر للعهد، أي: أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم، أو تجعل اللام فيها عوضاً عن المضافات إليها، أي: زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم.
والزَيغ: الميل عن الاستواء إلى الانحراف. فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار.
والحناجر: جمع حَنْجَرة بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم: منتهى الحُلقوم وهي رأس الغلصمة. وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعُود بهيئة قلبٍ تجاوز موضعه وذهب متصاعداً طالباً الخروج، فالمشبه القلبُ نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين. وليس الكلام على الحقيقة، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها، وقريبٌ منه قولهم: تنفّس الصُعَداء، وبلغت الروح التراقيَ.
وجملة {وتظنون بالله الظنونا} يجوز أن تكون عطفاً على جملة {زاغت الأبصار} ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء.
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لِمَا رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها.
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره، ويخشى أن يكون النصر مرجَّأ إلى زمن آخر، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به.