تضمنت هذه السورة الكريمة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث همته وتقوية عزيمته ليبقى مستمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد ، وتشبيه ما وقع لأهل مكة من العذاب ، بما وقع لأصحاب الجنة الذين جاءت قصتهم فيها ، وتبشير المؤمنين بما لهم عند ربهم ، وعدم التسوية بينهم وبين الكافرين ، والإنكار على المكذبين فيما يدعونه لأنفسهم بغير حق ، وتخويفهم بوصف حالهم في الآخرة ، وتهديدهم ، والنصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتمال ، وقد ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم .
1- ن : حرف من حروف المعجم التي بدئت بعض السور بها تحدياً للمكذبين وتنبيهاً للمصدقين .
{ ن } اختلفوا فيه فقال ابن عباس : هو الحوت . الذي على ظهره الأرض . وهو قول مجاهد ومقاتل ، والسدي ، والكلبي . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض ، فأنبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وما يسطرون } واختلفوا في اسمه ، فقال الكلبي ومقاتل : بهموت . وقال الواقدي : ليوثا . وقال كعب : لويثا . وعن علي : اسمه بلهوث . وقالت الرواة : لما خلق الله الأرض وفتقها ، بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه ، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب ، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع ، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار ، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه ، فلم تستقر قدماه فأخذ ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس ، غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر وأزبد ، وإذا رد نفسه جزر ، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه { فتكن في صخرة }( لقمان- 16 ) ولم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله نوناً وهو الحوت العظيم ، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال ، والحوت على البحر ، والبحر على متن الريح ، والريح على القدرة . يقال : فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان ، قال لها الجبار : كوني فكانت . قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه ، فقال له : أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال ، لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك ، فهم لويثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه ، فعج الحوت إلى الله منها ، فأذن لها الله فخرجت . قال كعب : فوالذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت . وقال بعضهم : نون آخر حروف الرحمن ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون الدواة . وقيل : هو قسم أقسم الله به . وقيل : فاتحة السورة . وقال عطاء : افتتاح اسمه نور ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله بنصرته للمؤمنين . { والقلم } هو الذي كتب الله به الذكر ، وهو قلم من نور ، طوله ما بين السماء والأرض ، ويقال : أول ما خلق الله القلم ، ونظر إليه فانشق نصفين ، ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك . { وما يسطرون } يكتبون أي ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
يقسم تعالى بالقلم ، وهو اسم جنس شامل للأقلام ، التي تكتب بها [ أنواع ] العلوم ، ويسطر بها المنثور والمنظور .
1- سورة " ن " أو " القلم " تعتبر من أوائل السور القرآنية ، التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكر السيوطي في كتابه " الإتقان " أنها السورة الثانية في النزول ، بعد سورة " العلق " ( {[1]} ) .
ويرى بعض العلماء أنها السورة الرابعة في النزول ، فقد سبقتها سور : العلق ، والمدثر ، والمزمل ، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية .
2- والمحققون على أنها من السور المكية الخالصة ، فقد ذكر الزمخشري وابن كثير . . أنها مكية ، دون أن يذكرا في ذلك خلافا .
وقال الآلوسي : هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة ، فقد نزلت –على ما روي عن ابن عباس- [ اقرأ باسم ربك . . . ] ثم هذه ، ثم المزمل ، ثم المدثر ، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها ، بين أهل التنزيل .
وفي الإتقان : استثننى منها : [ إنا بلوناهم كما بلونا . . . ] إلى قوله –تعالى- : [ لو كانوا يعلمون ]( {[2]} ) .
3- والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة [ ن ] من السور المكية الخالصة ، لأنه لم يقم دليل مقنع على أن فيها آيات مدنية ، بجانب أن أسلوبها وموضوعاتها تشير إلى أنها من السور المكية الخالصة .
كذلك نميل إلى أن بعض آياتها قد نزلت على الني صلى الله عليه وسلم بعد أن جهر بدعوته .
4- وقد فصل هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه : لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة ، سواء مطلعها أو جملتها .
والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها ، يجعلنا نرجح غير هذا ، حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، وتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو بريء منه ، كذلك ذكرت بعض الروايات في السورة آيات مدنية ، ونحن نستبعد هذا كذلك ، ونعتقد أن السورة كلها مكية ، لأن طابع آياتها عميق في مكيته .
والذي نرجحه بشأن السورة كلها ، أنها ليست الثانية في ترتيب النزول وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية ، بل بعد الجهر بالدعوة ، وبعد أن أخذت قريش في محاربتها بصورة عنيفة .
والسورة قد أشارت إلى شيء من عروض المشركين : [ ودوا لو تدهن فيدهنون ] وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها . . ( {[3]} ) .
5- والذي يتدبر هذه السورة الكريمة ، يراها قد اشتملت على مقاصد من أبرزها : تحدي المشركين بهذا القرآن الكريم ، والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأفضل أنواع الثناء [ ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ] .
والتسلية الجميلة له صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه [ فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ] .
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن مهادنة المشركين أو ملاينتهم أو موافقتهم على مقترحاتهم الماكرة ، قال –تعالى- : [ ودوا لو تدهن فيدهنون ، ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ، مناع للخير معتد أثيم ] .
ثم نراها تضرب الأمثال لأهل مكة ، لعلهم يتعظون ويعتبرون ، ويتركون الجحود والبطر . . [ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ، إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين . ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون . فأصبحت كالصريم ] .
ثم نرى من مقاصدها كذلك : المقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة .
وتسفيه أفكار المشركين وعقولهم ، بأسلوب مؤثر خلاب : [ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ، ما لكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون ] . .
وتهديدهم بأقصى ألوان التهديد : [ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين . . ] .
ثم تختتم بتكرار التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبأمره بالصبر على أذى أعدائه : [ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ، إذ نادى وهو مكظوم ، لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين . وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون . وما هو إلا ذكر للعالمين ] .
وبعد : فهذه كلمة مجملة عن سورة " القلم " تكشف عن زمان ومكان نزولها . وعن أهم المقاصد والأهداف التي اشتملت عليها .
ونسأل الله –تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا .
افتتحت سورة " القلم " بأحد الحروف المقطعة ، وهي آخر سورة فى ترتيب المصحف ، افتتحت بواحد من هذه الحروف . أما بالنسبة لترتيب النزول ، فقد تكون أول سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم في السور المفتتحة بالحروف المقطعة .
وقد قلنا عند تفسيرنا لسورة البقرة : وردت هذه الحروف المقطعة تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة .
فالسور التى بدئت بحرف واحد ثلاث سور وهى : ص ، ق ، ن .
والسور التى بدئت بحرفين تسع سور وهى : طه ، يس ، طس ، وحم ، في ست سور ، وهي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف .
والسور التى بدئت بثلاثة أحرف ، ثلاث عشرة سورة وهي : " ألم " في ست سور ، وهي : البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة .
و { الر } في خمس سور : وهي : يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر .
و { طسم } في سورتين وهما : الشعراء ، والقصص .
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما : الرعد ، " المر " والأعراف " المص " .
وهناك سورتان - أيضا - بدئنا بخمسة أحرف ، وهما : " مريم " " كهيعص " والشورى : " حم عسق " فيكون مجموع السور التى افتتحت بالحروف المقطعة : تسعا وعشرين سورة .
هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسيين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله - تعالى - بعلمه .
وإلى هذا الرأي ذهب ابن عباس - في بعض الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري وغيرهم من العلماء .
فقد أخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور .
ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها .
وعن علي بن أبي طالب أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة الكتاب حروف التهجي " .
وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه "
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ ، لم ينتف الإِفهام عنها عند كل أحد ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين ، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور .
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأي ، يضيق المجال عن ذكرها .
أما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله - تعالى - بعلمه .
وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتي :
أ - أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة " ص " وسورة " يس " .
ولايخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .
ب - وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة ، للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
ج - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعهضا من أسماء الله - تعالى - ، وبعضها من صفاته ، فمثلا : { الم } أصلها : أنا الله أعلم .
د - وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلوا من مقال ، والتي أوصلها الإمام السيوطي في كتابه " الإتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
ه - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ، للإِشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والبلاغة ، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة .
وفضلا عن ذلك ، فإن تصدير هذه السور بمثل هذه الحروف المقطعة ، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم ، إلى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم . وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكما وحججا قد تكون سببا في هدايتهم واستجابتهم للحق .
هذه خلاصة لآراء العلماء في الحروف المقطعة ، التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وكتاب " الإتقان " للسيوطي ، وتفسير " الآلوسي " .
ولفظ " ن " على الرأي الذي رجحناه ، يكون إشارة إلى إعجاز القرآن . . .
وقيل : هو من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . .
وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى ، لا يعتمد عليها لضعفها ، ومن ذلك قولهم : إن " نون " اسم لحوت عظيم . . أو اسم للدواة . . . وقيل : " نون " لوح من نور . .
والواو في قوله : { والقلم } للقسم ، والمراد بالقلم : جنسه ، فهو يشمل كل قلم يكتب به و " ما " في قوله { وَمَا يَسْطُرُونَ } موصولة أو مصدرية .
و { يَسْطُرُونَ } مضارع سطر - من باب نصر - ، يقال : سطر الكتاب سطرا ، إذا كتبه ، والسطر : الصف من الشجر وغيره ، وأصله من السطر بمعنى القطع ، لأن صفوف الكتابة تبدو وكأنها قطع متراصة .
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول " سورة البقرة " ، وأن قوله : { ن } كقوله : { ص } { ق } ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته .
وقيل : المراد بقوله : { ن } حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط ، وهو حامل{[29123]} للأرضين السبع ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان - هو الثوري - حدثنا سليمان - هو الأعمش - عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم قال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القَدَر . فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة . ثم خلق " النون " ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء ، وبسطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض{[29124]} .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سِنان ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، به . وهكذا رواه شعبة ، ومحمد بن فُضَيل ، وَوَكِيع ، عن الأعمش ، به . وزاد شعبة في روايته : ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } وقد رواه شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان - أو مجاهد - عن ابن عباس ، فذكر نحوه . ورواه مَعْمَر ، عن الأعمش : أن ابن عباس قال . . . فذكره ، ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس قال : إن أول شيء خلق ربي ، عز وجل ، القلم ، ثم قال له : اكتب . فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة . ثم خلق " النون " فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه{[29125]} .
وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال : حدثنا أبو حبيب{[29126]} زيد بن المهتدي المروذي{[29127]} حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا مُؤَمَّل بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما خلق الله القلم والحوت ، قال للقلم : اكتب ، قال : ما أكتب ، قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة " . ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } فالنون : الحوت . والقلم : القلم{[29128]} .
حديث آخر في ذلك : رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق " النون " وهي : الدواة . ثم قال له : اكتب . قال وما أكتب ؟ قال : اكتب ما يكون - أو : ما هو كائن - من عمل أو رزق أو أثر أو أجل . فكتب ذلك إلى يوم القيامة ، فذلك قوله : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ، ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ، ولأنقصنك ممن أبغضت " {[29129]} .
وقال ابن أبي نَجِيح : إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال : كان يقال : النون : الحوت [ العظيم ]{[29130]} الذي تحت الأرض السابعة .
وذكر البغوي وجماعة من المفسرين : إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض ، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن ، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن{[29131]} فالله أعلم . ومن العجيب{[29132]} أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس : أن عبد الله بن سلام بَلَغه مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأتاه فسأله عن أشياء ، قال : إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي ، قال : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه ؟ والولد ينزع إلى أمه ؟ قال : " أخبرني بهن جبريل آنفًا " . قال ابن سلام : فذاك عدو اليهود من الملائكة . قال : " أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم{[29133]} من المشرق إلى المغرب . وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادةُ كبد حوت . وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت " .
ورواه البخاري من طرق عن حُمَيد ، ورواه مسلم أيضا{[29134]} وله من حديث ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحو هذا . وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان : أن حبرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل ، فكان منها أن قال : فما تحفتهم ؟ - يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة - قال : " زيادة كبد الحوت " . قال : فما غذاؤهم على أثرها ؟ قال : " ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها " . قال : فما شرابهم عليه ؟ قال : " من عين فيها تسمى سلسبيلا " {[29135]} .
وقيل : المراد بقوله : { ن } لوح من نور .
قال ابن جرير : حدثنا الحسين بن شبيب المكتب ، حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قُرّة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } لوح من نور ، وقلم من نور ، يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة " {[29136]} وهذا مرسل غريب .
وقال ابن جُرَيج{[29137]} أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام .
وقيل : المراد بقوله : { ن } دواة ، والقلم : القلم . قال ابن جرير :
حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن وقتادة في قوله : { ن } قالا هي الدواة .
وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدًا فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خلق الله النون ، وهي الدواة " {[29138]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، حدثنا ثابت الثمالي ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون - وهي الدواة - وخلق القلم ، فقال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول ، به بر أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام . ثم ألزم كل شيء من ذلك ، شأنه : دخوله في الدنيا ، ومقامه فيها كم ؟ وخروجه منها كيف ؟ ثم جعل على العباد حفظة ، وللكتاب خزانًا ، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئًا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا . قال : فقال ابن عباس : ألستم قومًا عَرَبا تسمعون الحفظة يقولون : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل{[29139]} .
وقوله : { والقلم } الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العاق : 3 - 5 ] . فهو قسم منه تعالى ، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : يعني : وما يكتبون .
وقال أبو الضُّحى ، عن ابن عباس : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : وما يعملون .
وقال السدي : { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد .
وقال آخرون : بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر ، حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة . وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا عبد الواحد بن سُليم السلمي ، عن عطاء - هو ابن أبي رباح - حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال : دعاني أبي حين حضره الموت فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب . قال : يا رب وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر [ ما كان ]{[29140]} وما هو كائن إلى الأبد " .
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به{[29141]} وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، به{[29142]} وقال : حسن صحيح غريب . ورواه أبو داود في كتاب " السنة " من سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن يحيى بن حسان ، عن ابن رباح ، عن إبراهيم بن أبي عبلة{[29143]} عن أبي حفصة - واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي - عن عبادة ، فذكره{[29144]} .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا رباح بن زيد ، عن عمر بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بَزة{[29145]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء " . غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجوه{[29146]}
وقال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : { وَالْقَلَمِ } يعني : الذي كتب به الذكر . .
بسم الله الرحمن الرحيم ( ن ) من أسماء الحروف وقيل اسم الحوت ، والمراد به الجنس أو البهموت ، وهو الذي عليه الأرض . أو الدواة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النفس يكتب به ، ويؤيد الأول سكونه وكتبه بصورة الحرف . ( والقلم ) وهو الذي خط اللوح ، أو الذي يخط به ، أقسم به تعالى لكثرة فوائده . وأخفى ابن عامر والكسائي ويعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتصل ، فإن النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتصلت بها ، وقد روي ذلك عن نافع وعاصم وقرئت بالفتح والكسر كص . ( وما يسطرون ) وما يكتبون والضمير ل القلم بالمعنى الأول على التعظيم ، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس ، وإسناد الفعل إلى الأدلة وإجراؤه مجرى أولي العلم لإقامته مقامهم أو لأصحابه أو للحفظة ، و ما مصدرية أو موصولة .
وهي مكية ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل{[1]} .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 )
{ ن } حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين ، فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور ، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس : نون ، اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى . وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك : النون اسم للدواة ، فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو تكون لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر : [ الوافر ]
إذا ما الشوق برح بي إليهم . . . ألقت النون بالدمع السجوم{[11227]}
فمن قال إنه اسم الحوت جعل { القلم } الذي خلقه الله تعالى وأمره فكتب الكائنات وجعل الضمير في { يسطرون } للملائكة ، ومن قال بأن «نون » اسم للدواة ، جعل { القلم } هذا المتعارف بأيدي الناس . نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في { يسطرون } للناس ، فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخ اللسان ، ومطية الفطنة ، ونعمة من الله عامة . وروى معاوية بن قرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ن } لوح من نور{[11228]} ، وقال ابن عباس وغيره : هو حرف من حروف الرحمن ، وقالوا إنه تقطع في القرآن : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، يوسف : 1 ، إبراهيم : 1 ، الحجر : 1 ] و { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] ، و { ن } ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف «نونَ » بالنصب ، والمعنى : اذكر نونَ ، وهذا يقوى مع أن يكون اسماً للسورة ، فهو مؤنث سمي به مؤنث ، ففيه تأنيث وتعريف ، ولذلك لم ينصرف ، وانصرف نوح ، لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة ، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن : «نونِ » بكسر النون ، وهذا كما تقول في القسم بالله ، وكما تقول : «جبر »{[11229]} وقيل كسرت لاجتماع الساكنين ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم : «نونْ » بسكون النون ، وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه ، وقرأ قوم ، منهم الكسائي : { ن والقلم } بالإدغام دون غنة ، وقرأ آخرون بالإدغام وبغنة ، وقرأ الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالإخفاء بين الإدغام والإظهار . و { يسطرون } معناه : يكتبون سطوراً ، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به ، وإن أراد بني آدم ، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها .