قوله تعالى : { إذ تصعدون } . يعني ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن ، وقتادة ، تصعدون بفتح التاء والعين ، والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين . والإصعاد السير في مستوى الأرض ، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح ، قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، وقال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب ، وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد ، وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد .
قوله تعالى : { ولا تلوون على أحد } . أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد لا يلتفت بعضكم إلى بعض .
قوله تعالى : { والرسول يدعوكم في أخراكم } . أي : في آخركم ومن ورائكم " إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة " .
قوله تعالى : { فأثابكم } . فجازاكم ، جعل الإثابة بمعنى العقاب ، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب ، كقوله تعالى ( فبشرهم بعذاب أليم ) . جعل البشارة في العذاب ، ومعناه جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون .
قوله تعالى : { غماً بغم } . وقيل : الباء بمعنى على ، أي غماً على غم ، وقيل : غماً متصلاً بغم ، فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني ما نالوا من القتل والهزيمة . وقيل : الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح . والغم الثاني ما سمعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فأنساهم الغم الأول وقيل : الغم الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين ، والغم الثاني : حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال " أنا رسول الله " صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشعب ، فلما نظر المسلمون إليهم أهمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم . وقيل : إنهم غموا الرسول بمخالفة أمره ، فجازاهم الله بذلك الغم غم القتل والهزيمة .
قوله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } . من الفتح والغنيمة .
قوله تعالى : { ولا ما أصابكم } . أي ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة .
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور }
يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال ، ويعاتبهم على ذلك ، فقال : { إذ تصعدون } أي : تجدون في الهرب { ولا تلوون على أحد } أي : لا يلوي أحد منكم على أحد ، ولا ينظر إليه ، بل ليس لكم هم إلا الفرار والنجاء عن القتال .
والحال أنه ليس عليكم خطر كبير ، إذ لستم آخر الناس مما يلي الأعداء ، ويباشر الهيجاء ، بل { الرسول يدعوكم في أخراكم } أي : مما يلي القوم يقول : " إليَّ عباد الله " فلم تلتفتوا إليه ، ولا عرجتم عليه ، فالفرار نفسه موجب للوم ، ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس ، أعظم لوما بتخلفكم عنها ، { فأثابكم } أي : جازاكم على فعلكم { غما بغم } أي : غما يتبع غما ، غم بفوات النصر وفوات الغنيمة ، وغم بانهزامكم ، وغم أنساكم كل غم ، وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل .
ولكن الله -بلطفه وحسن نظره لعباده- جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم ، فقال : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من النصر والظفر ، { ولا ما أصابكم } من الهزيمة والقتل والجراح ، إذا تحققتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات ، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة ، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم ، وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم ، وظواهركم وبواطنكم ، ولهذا قال : { والله خبير بما تعملون }
ويحتمل أن معنى قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } يعني : أنه قدَّر ذلك الغم والمصيبة عليكم ، لكي تتوطن نفوسكم ، وتمرنوا على الصبر على المصيبات ، ويخف عليكم تحمل المشقات
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بما كان من بعضهم بعد أن اضطربت أحوالهم وجاءهم أعداؤهم من أمامهم ومن خلفهم بسبب ترك معظم الرماة لأماكنهم ، فقال - تعالى - { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
وقوله : { تُصْعِدُونَ } من الإصعاد وهو الذهاب فى صعيد الأرض والإبعاد فيه .
يقال : أصعد فى الأرض إذا أبعد فى الذهاب وأمعن فيه ، فهو الصعد .
قال القرطبى : الإصعاد : السير فى مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب .
والصعود : الارتفاع على الجبال والدرج .
وقوله { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بمحذوف تقديره اذكروا .
أى اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم مصعدين تهرولون بسرعة فى بطن الوادى بعد أن اختلت صفوفكم - واضطرب جمعكم . وصرتم لا يعرج بعضكم على بعض ولا يتلفت أحدكم إلى غيره من شدة الهرب ، والحال أن رسولكم صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أى يناديكم فى أخراكم أو فى جماعتكم الأخرى أو من خلفكم يقال .
جاء فلان فى آخر الناس وأخراهم إذا جاء خلفهم ، كما يقال : جاء فى أولهم وأولاهم .
والمراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو المنهزمين إلى الثبات وإلى ترك الفرار من الأعداء وإلى معاودة الهجوم عليهم وهو ثابت لم يتزعزع ومعه نفر من أصحابه .
قال ابن جرير لما اشتد المشكرون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلىَّ عباد الله " ! فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبى صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع معجز لحال المسلمين عندما اضطربت صفوفهم فى غزوة أحد ، فهى تصور حالهم وهم مصعدون فى الوادى بدون تمهل أو تثبت ، وتصور حالهم وقد أخذ منهم الدهش مأخذه بحيث أصبح بعضهم لا يلتفت إلى غيره أو يسمع له نداء ، أو يجيب له طلبا وتصور حال النبى صلى الله عليه وسلم وقد ثبت كالطود الأشم بدون اضطراب أو وجل ومعه صفوة من أصحابه وقد أخذ ينادى الفارين بقوله : " إلى عباد الله ، إلى عباد الله أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة " .
وقوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } .
بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الاضطراب وهو معطوف على قوله { صَرَفَكُمْ } أو على قوله { تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ } ولا يضر كونهما مضارعين فى اللفظ لأن إذ المضافة إليهما صيرتهما ماضيين فى المعنى .
وأصل الإثابة إعطاء الثواب ، وهو شىء يكون جزاء على عطاء أو فعل ولفظ الثواب لا يستعمل فى الأعم الأغلب إلا في الخير ، والمراد به هنا العقوبة التى نزلت بهم . وسميت العقوبة التى نزلت بهم ثوابا على سبيل الاستعارة التهكمية كما فى قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ويجوز أن يكون اللفظ مستعملا فى حقيقته ، لأن لفظ الثواب فى أصل اللغة معناه ما يعود على الفاعل من جزاء فعله ، سواء أكان خيراً أو شراً .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } الغم فى اللغة التغطية . يقال : غممت الشىء أى غطيته . ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين .
قال مجاهد وقتادة وغيرهما ، والغم الأول القتل والجراح والغم الثانى الإرجاف بمقتل النبى صلى الله عليه وسلم وقيل الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثانى : استعلاء المشركين عليهم . وعند ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم
والباء فى { بِغَمٍّ } على هذا بمعنى على . وقيل هى على بابها والمعنى أنهم غموا النبى صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم " .
ويجوز أن يكون الكلام لمجرد التكثير أى جازاكم بغموم وأحزان كثيرة متصل بعضها ببعض بأن منع عنكم نصره وحرمكم الغنيمة وأصابتكم الجراح الكثيرة وأشيع بينكم أن نبيكم قد قتل . . وكل ذلك بسبب أنكم خالفتم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم وتغلب حب الدنيا وشهواتها على قلوب بعضكم فلم تخلصوا لله الجهاد فأصابكم ما أصابكم .
وقوله { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } تعليل لقوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أى : ولقد عفا الله - تعالى - عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر ، ولا على ما أصابكم من جراح وآلام ، فإن عفو الله - تعالى - يذهب كل حزن ويمسح كل ألم .
وير صاحب الكشاف أن معنى " لكى لا تحزنوا " لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار .
ثم قال : ويجوز أن يكون الضمير فى { فَأَثَابَكُمْ } للرسول . أى : فآساكم فى الاغتمام - أى فصار أسوتكم - لأنه كما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرها فقد غمه ما نزل بكم . فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : والله - تعالى - عليم بأعمالكم ونياتكم علما كاملا ، وخير بما انطوت عليه نفوسكم فهو - سبحانه - لا تخفى عليه خافية مهما صغرت ، فاتقوه وراقبوه واتبعوا ما كلفكم به لتنالوا الفوز والسادة .
وقوله : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي : صرفكم عنهم { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي : في الجبل هاربين من أعدائكم .
وقرأ الحسن وقتادة : { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي : في الجبل { وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي : وأنتم لا تلوون على أحد من الدَّهَش والخوف والرعب { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي : وهو قد خلفتموه وراء ظُهوركم يدعوكم إلى تَرْك الفرار من الأعداء ، وإلى الرجعة والعودة والكرة .
قال السُّدِّي : لما شَدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إليَّ عِبَادَ اللهِ ، إليَّ عباد الله " . فذكر{[5871]} الله صعودهم على{[5872]} الجبل ، ثم ذكر دُعَاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } .
وكذا قال ابنُ عباس ، وقتادة والربيع ، وابن زيد .
وقد قال عبد الله بن الزّبَعْري يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته - وهو مشرك بعد لم يسلم - التي يقول في أولها :
يا غُرابَ البَيْنِ أسْمَعْتَ فَقُل *** إنما تَنْطقُ شيئًا قَدْ فُعلْ
إنّ للخير وللشر مَدى *** وكلا ذلك وجْه وقَبلْ
لَيْتَ أشياخي ببدر شهدوا *** جَزَعَ الخزرج من وقع الأسَلْ
حين حَكَّت{[5873]} بقُباء بَرْكها{[5874]} *** واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خَفّوا{[5875]} عنْدَ ذَاكُم رُقَّصا *** رقص الحَفَّان يعلو{[5876]} في الجَبَل
فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعَدَلنا مَيْل{[5877]} بدر فاعتدَل{[5878]}
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلا من أصحابه ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا زُهَير ، حدثنا أبو إسحاق أن البراء بن عازب قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جُبير قال : ووضعهم موضعًا وقال : " إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ وَإنْ رَأيْتُمُونَا ظَهَرنَا عَلَى الْعَدُوّ وأوَطأناهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرسِلَ إلَيْكُمْ قال : فهزموهم . قال : فأنا والله رأيت النساء يَشْتددن{[5879]} على الجبل ، وقد بدت أسْؤُقُهنّ وخَلاخلُهُن رافعات ثيابهُن ، فقال أصحاب عبد الله : الغَنِيمة ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون{[5880]} ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم{[5881]} ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : إنا والله لَنَأتيَن الناس فَلنُصِبيَنَّ من الغنيمة . فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه أصابوا من المشركين يوم بَدْر أربعين ومائة : سبعين أسيرًا وسبعين قتيلا . قال أبو سفيان : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ - ثلاثا - قال : فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قُحَافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا ، قد كُفيتُمُوه . فما ملك عُمَر نفسَه أن قال : كذبتَ والله يا عدو الله ، إن الذين عَدَدْتَ لأحياء كلهم ، وقد بَقي لك ما يسوؤك . فقال{[5882]} يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، إنكم ستجدون في القوم مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني{[5883]} ثم أخذ يرتجز ، يقول : اعلُ هُبَلْ . اعل هُبَلْ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تُجِيبُوه{[5884]} ؟ " قالوا : يا رسول الله ، ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : الله أعلى وأجل " . قال : لنا العُزَّى ولا عزَّى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تُجِيبُوهُ ؟ " . قالوا : يا رسول الله ، وما نقول ؟ قال : " قُولُوا : اللهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ " {[5885]} .
وقد رواه البخاري من حديث زُهَير بن معاوية مختصرا ، ورواه من حديث إسرائيل ، عن أبي
إسحاق بأبسط من هذا ، كما تقدم . والله أعلم .
وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة{[5886]} بن غَزِيَّة ، عن أبي الزُّبَير ، عن جابر قال : انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار ، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد{[5887]} الجبل ، فلقيهم المشركون ، فقال : " ألا أحَدٌ لِهَؤُلاءِ ؟ " فقال طلحة : أنا يا رسول الله ، فقال : " كمَا أنْتَ يَا طَلْحَةُ " . فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ، فقاتل عنه ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه ، ثم قُتل الأنصاري فلحقوه فقال : " ألا رجُلٌ لِهؤُلاءِ ؟ " فقال طلحة مثل قوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله ، فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ، فقاتل عنه وأصحابه يصعدن ، ثم قتل فلحقوه ، فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول{[5888]} طلحة : فأنا {[5889]} يا رسول الله ، فيحبسه ، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذَنُ له ، فيقاتل{[5890]} مثل من كان قبله ، حتى لم يبق معه إلا طلحة فَغشَوْهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لِهَؤلاءِ ؟ " فقال طلحة : أنا . فقاتل مثْل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله ، فقال : حس ، فقال رسول الله : " لوْ قُلْتَ : بِاسْمِ اللهِ ، وذَكرت اسْمَ الله ، لَرَفَعَتْكَ الملائِكَة والنَّاسُ يَنْظُرونَ إلَيْكَ ، حَتَّى تلجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ " ، ثم صعد{[5891]} رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون{[5892]} .
وقد روى البخاري ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، عن إسماعيل ، عن قَيْس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم - يعني يوم أحد{[5893]} .
وفي الصحيحين من حديث مُعْتَمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي عُثمان النَّهْدِي قال : لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام ، التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرُ طلحةَ بن عبيد الله وسعد ، عن حَديثهما{[5894]} وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما رَهِقُوه قال : " مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ - أو : وهو رفيقي في الجنة ؟ " فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، ثم رهقوه أيضا ، فقال : " من يردهم عنا وله الجنة ؟ " فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل . فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه : ما أنْصَفْنَا أصْحَابنا " .
رواه مسلم عن هُدبة بن خالد ، عن حماد بن مسلمة{[5895]} به نحوه{[5896]} .
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا ابن مروان بن معاوية ، عن هاشم بن هاشم الزهري ، قال سمعت سعيد بن المسيَّب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص [ رضي الله عنه ]{[5897]} يقول : نَثُل لي رسول{[5898]} الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد قال : " ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي " .
وأخرجه البخاري ، عن عبد الله بن محمد ، عن مروان بن معاوية{[5899]} .
وقال محمد بن إسحاق{[5900]} حدثني صالح بن كيسان ، عن بعض آل سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ؛ أنه رمى يوم أحد دونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال سعد : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النَّبْلَ ويقول : " ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي " حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل ، فأرمي به .
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه ، عن جده ، عن سعد بن أبي وقاص{[5901]} قال : رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين ، عليهما ثياب بيض ، يقاتلان عنه أشد القتال ، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده ، يعني : جبريل وميكائيل عليهما السلام{[5902]} .
وقال أبو الأسود ، عن عروة بن الزبير قال : كان أبَيُّ بن خَلَف ، أخو بني جُمَح ، قد حلف وهو بمكة لَيَقْتُلَن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَلْفَتُه قال : " بَلْ أنَا أقْتُلُهُ ، إنْ شَاءَ الله " . فلما كان يوم أحد أقبل أبَي في الحديد مُقَنَّعا ، وهو يقول : لا نَجَوْتُ إن نجا محمد . فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتْله ، فاستقبله مُصْعَب بن عُمَير ، أخو بني عبد الدار ، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، فقتل مصعب بن عمير ، وأبصر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَة أبي بن خلف من فَرْجةَ بين سابغة الدرع والبيضة ، وطعنه فيها بحربته ، فوقع إلى الأرض عن فرسه ، لم يخرج من طعنته دم ، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور ، فقالوا له : ما أجزعك إنما هو خدش ؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أقْتُلُ أُبيا " . ثم قال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المَجَاز لماتوا أجمعون . فمات إلى النار ، فسحقا لأصحاب السعير .
وقد رواه موسى بن عُقْبة في مغازيه ، عن الزُّهْري ، عن سعيد بن المسيّب بنحوه .
وذكر محمد بن إسحاق قال : لما أسْنِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، أدركه أبي بن خَلَفَ وهو يقول : لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم : يا رسول الله ، يَعْطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دَعُوُه " فلما دنا تناول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[5903]} الحربة من الحارث بن الصِّمَّة ، فقال بعض القوم ما ذكر{[5904]} لي : فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة ، تطايرنا عنه تطاير الشّعْر عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدَأ منها عن فرسه مرارًا .
وذكر الواقدي ، عن يونس بن بُكَير ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه نحو ذلك{[5905]} .
قال الواقدي : كان ابن عمر يقول : مات أبَيّ بن خلف ببطن رَابِغٍ ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تتأجّح {[5906]}فهبتها ، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش ، وإذا رجل يقول : لا تسقه ، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا أبيّ بن خلف .
وثبت في الصحيحين ، من رواية عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللهِ - وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ " {[5907]} .
ورواه البخاري أيضًا{[5908]} من حديث ابن جُرَيج ، عن عَمْرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بيده في سبيل الله ، اشتد غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : أصيبت رَبَاعِية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وَجْنَته ، وكُلِمَت شَفَتُه{[5909]} وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص .
فحدثني صالح بن كَيْسان ، عمن حدثه ، عن سعد بن أبي وقاص قال : ما حَرَصْتُ على قتل أحد قَط ما حرصت على قتل عُتْبة بن أبي وقاص وإن كان ما علمته لسيئ الخلُق ، مُبْغَضًا في قومه ، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم " {[5910]} .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معْمَر ، عن الزهري ، عن عثمان الجزَري ، عن مقْسَم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عُتْبةَ بن أبي وقاص يوم أحُد حين كَسر رَبَاعيتَه ودَمى وجهه فقال : " اللَّهُمَّ لا تحل{[5911]} عَلَيْهِ الْحَوْل حَتَّى يموتَ كَافِرًا " . فما حال عليه الحولُ حتى مات كافرًا إلى النار{[5912]} .
ذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة ، عن أبي الحُويرث ، عن نافع بن جبير قال : سمعتُ رجُلا من المهاجرين يقول : شهدت أحُدًا فنظرت إلى النَّبْل يأتي من كل ناحية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم{[5913]} وسطها ، كُلُّ ذلك يُصْرَف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ : دُلّوني على محمد ، لا نَجَوتُ إن نجا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه{[5914]} أحد ، ثم جاوره{[5915]} فعاتبه في ذلك صَفْوان ، فقال : والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا ممنوع . خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك .
قال الواقدي : الثَّبْتُ عندنا أن الذي رمى في وَجْنَتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قَميئة{[5916]} والذي دَمى شفته{[5917]} وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص{[5918]} .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا ابن المبارك ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله ، أخبرني عيسى بن طلحة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان أبو بكر ، رضي الله عنه ، إذا ذكر يوم أحد قال{[5919]} ذاك{[5920]} يوم كُله لطلحة ، ثم أنشأ يحدث قال : كنت أول من فَاء يوم أحد ، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه - وأراه قال : حَميَّة فقال{[5921]} فقلت : كن طَلْحَةَ ، حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحب إلي ، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه ، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه{[5922]} فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح ، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقد كسرت رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه ، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حِلَق المِغْفَر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَليكُما صَاحِبَكُما " . يريد طلحة ، وقد نزف ، فلم نلتفت إلى قوله ، قال : وذهبت لأن أنزع{[5923]} ذلك{[5924]} من وجهه ، فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني . فتركته ، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي{[5925]} صلى الله عليه وسلم ، فَأزَمَّ عليها{[5926]} بِفِيهِ فاستخرج إحدى الحلقتين ، ووقعت ثَنيَّته مع الحلقة ، ذهبت لأصنع ما صنع ، فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني ، قال : ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة ، فكان أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، أحسن{[5927]} الناس هَتْما ، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار ، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورَمْيَة وضربة ، وإذا قد قُطعَتْ إصبعه ، فأصلحنا من شأنه .
ورواه الهيثم بن كُلَيب ، والطبراني ، من حديث إسحاق بن يحيى به . وعند الهيثم : فقال أبو عبيدة : أنشدك{[5928]} يا أبا بكر إلا تركتني ؟ فأخذ أبو عبيدة السّهم بفيه ، فجعل يُنَضْنِضه كراهيةَ{[5929]} أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اسْتل السهم بفيه فبدرت{[5930]} ثنية أبي عبيدة .
وذكر تمامه ، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه{[5931]} وقد ضَعّف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا ، فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان ، وأحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، وأبو زُرعة ، وأبو حاتم ، ومحمد بن سعد ، والنسائي وغيرهم .
وقال ابن وَهْب : أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن عُمَر بن السائب حدثه : أنه بلغه أن مالكا أبا [ أبي ]{[5932]} سعيد الخُدْري لمَّا جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مَصّ الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض ، فقيل له : مُجَّه . فقال : لا والله لا أمجه أبدا . ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة ، فلينظُرْ إلى هذا " فاستشهد{[5933]} .
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم{[5934]} عن أبيه ، عن سَهْل بن سَعْد أنه سئل عن جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جُرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسِرت رَبَاعِيتُه ، وهُشِمَت البَيْضة على رأسه ، فكانت{[5935]} فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم ، وكان عَلِي يسكب عليها{[5936]} بالمِجَنّ{[5937]} فلما رأت فاطمة [ رضي الله عنها ]{[5938]} أن الماء لا يزيدُ الدم إلا كثرة ، أخذت قطعةَ حَصِير فأحرقته ، حتى إذا صار{[5939]} رمادا ألصقته بالجُرْح ، فاستمسك الدم{[5940]} .
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي : فجازاكم غَما على غَم كما تقول العرب : نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان .
قال ابن جرير : وكذا قوله : { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ طه : 71 ] [ أي : على جذوع النخل ]{[5941]} .
قال ابن عباس : الغم الأول : بسبب الهزيمة ، وحين قيل : قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني : حين علاهم المشركون فوق الجبل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا " .
وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول : بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل : قُتِلَ محمد صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة .
رواهما ابن مَرْدُويَه ، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك . وذكر ابن أبي حاتم عن قتادة نَحْوَ ذلك أيضا .
وقال السُّدِّي : الغم الأول : بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والثاني : بإشراف العدو عليهم .
وقال محمد بن إسحاق { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي : كَرْبا بعد كرب ، قَتْل مَنْ قُتل من إخوانكم ، وعُلُو عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : " قُتل نبيكم " {[5942]} فكان{[5943]} ذلك متتابعا{[5944]} عليكم غما بغم .
وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول : سماعهم قتل محمد ، والثاني : ما أصابهم من القتل والجراح . وعن قتادة والربيع بن أنس عكسُه .
وعن السُّدِّي : الأول : ما فاتهم من الظَّفَر والغنيمة ، والثاني : إشراف العدو عليهم ، وقد تقدم هذا عن السدي .
قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قولُ من قال : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } فأثابكم بغَمكُم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمةَ المشركين والظَّفر بهم والنصرَ عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ - بعد الذي أراكم{[5945]} في كل ذلك ما تحبون - بمعصيتكم ربكم ، وخلافكم أمر النبي{[5946]} صلى الله عليه وسلم ، غَم ظنكم أن نبيكم قد قتل ، وميل العدو عليكم بعد فُلولكم منهم .
وقوله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي : على ما فاتكم من الغنيمة بعدوكم { وَلا مَا أَصَابَكُمْ } من القتل والجراح ، قاله ابن عباس ، وعبد الرحمن بن عوف ، والحسن ، وقتادة ، والسدي { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىَ أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيَ أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمّاً بِغَمّ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولقد عفا عنكم أيها المؤمنون إذ لم يستأصلكم ، إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم ، وهربكم¹ { إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة قراء الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري : { إذْ تُصْعِدُونَ } بضمّ التاء وكسر العين ، وبه القراءة عندنا لإجماع الحجة من القراء على القراءة به ، واستنكارهم ما خالفه . ورُوي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : «إذْ تَصْعَدُونَ » بفتح التاء والعين .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن .
فأما الذين قرءوا : { تُصْعِدُونَ } بضم التاء وكسر العين ، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أن القوم حين انهزموا عن عدوّهم أخذوا في الوادي هاربين . وذكروا أن ذلك في قراءة أبيّ : «إذْ تُصْعِدون في الوادي » .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون .
قالوا : الهرب في مستوى الأرض ، وبطون الأودية والشعاب ، إصعاد لا صعود ، قالوا وإنما يكون الصعود على الجبال والسلاليم والدّرَج ، لأن معنى الصعود : الارتقاء والارتفاع على الشيء علوّا . قالوا : فأما الأخذ في مستوى الأرض الهبوط ، فإنما هو إصعاد ، كما يقال : أصعدنا من مكة ، إذا ابتدأت في السفر منها والخروج ، وأصعدنا من الكوفة إلى خراسان ، بمعنى خرجنا منها سفرا إليها ، وابتدأنا منها الخروج إليها . قالوا : وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوّهم في بطن الوادي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا تَلْوُونَ على أحَدٍ } ذاكم يوم أُحد أصعدوا في الوادي فرارا ، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في أخراهم ، قال : «إليّ عِبادَ اللّهِ ، إليّ عبادَ اللّهِ » .
وأما الحسن فإني أراه ذهب في قراءته : «إذْ تَصْعَدُونَ » بفتح التاء والعين إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صَعِدوا الجبل . وقد قال ذلك عدد من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما شدّ المشركون على المسلمين بأُحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة ، فقاموا عليها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : «إليّ عِبَادَ اللّهِ ، إليّ عِبادَ اللّهِ ! » فذكر الله صعودهم على الجبل ، ثم ذكر دعاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إياهم ، فقال : { إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ على أحَدٍ والرّسُولُ يَدْعُوكُم فِي أُخْرَاكُمْ } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يصعدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : { إذْ تُصْعدُونَ وَلا تَلْوُونَ على أحَد } قال : صعدوا في أُحد فرارا .
قال أبو جعفر : وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : { إذْ تُصْعِدُونَ } بضم التاء وكسر العين ، بمعنى السبق والهرب في مستوى الأرض ، أو في المهابط ، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة . ففي إجماعها على ذلك الدليل الواضح على أن أولى التأويلين بالاَية تأويل من قال : أصعدوا في الوادي ، ومضوا فيه ، دون قول من قال : صعدوا على الجبل .
وأما قوله : { وَلا تَلْوْونَ على أحَدٍ } فإنه يعني : ولا تعطفون على أحد منكم ، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا من عدوّكم مصعدين في الوادي . ويعني بقوله : { وَالرّسُولُ يَدعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه في أخراكم ، يعني أنه يناديكم من خلفكم : «إليّ عِبادَ اللّهِ ، إليّ عِبادَ اللّه ! » . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } : إليّ عباد الله ارْجِعُوا ، إليّ عِبَاد اللّهِ ارْجِعُوا ! .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } : رأوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم : إليّ عباد الله !
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أنّبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعوهم لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال : { إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوونَ على أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فيِ أُخْرَاكُمْ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } هذا يوم أُحد حين انكشف الناس عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } يعني : فجازاكم بفراركم عن نبيكم ، وفشلكم عن عدوّكم ، ومعصيتكم ربكم غما بغمّ ، يقول : غمّا على غمّ . وسمى العقوبة التي عاقبهم بها من تسليط عدوّهم عليهم حتى نال منهم ما نال ثوابا ، إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم ، فدلّ بذلك جلّ ثناؤه أن كل عوض كالمعوّض من شيء من العمل ، خيرا كان أو شرّا ، أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إليه ، فإنه مستحقّ اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة ، ونظير ذلك قول الشاعر :
أخافُ زِيادا أنْ يَكُونَ عَطاؤُهُ *** أدَاهِمَ سُودا أوْ مُحَدْرَجةً سُمْرا
فجعل العطاء العقوبة ، وذلك كقول القائل لاَخر سلف إليه منه مكروه : لأجازينك على فعلك ، ولأثيبنك ثوابك .
وأما قوله : { غَمّا بِغَمّ } فإنه قيل : غما بغمّ ، معناه : غما على غم ، كما قيل : { وَلأصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ } بمعنى : ولأصلبنكم على جذوع النخل . وإنما جاز ذلك ، لأن معنى قول القائل : أثابك الله غما على غمّ : جزاك الله غما بعد غمّ تقدّمه ، فكان كذلك معنى : فأثابكم غما بغمّ ، لأن معناه : فجزاكم الله غما بعقب غمّ تقدّمه ، وهو نظير قول القائل : نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان ، وضربته بالسيف ، وعلى السيف .
واختلف أهل التأويل في الغمّ الذي أثيب القوم على الغمّ ، وما كان غمهم الأوّل والثاني ، فقال بعضهم : أما الغمّ الأوّل ، فكان ما تحدّث به القوم أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قُتِل . وأما الغمّ الاَخر ، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فأثابَكُمْ غَمّا بغَمّ } كانوا تحدثوا يومئذٍ أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أصيب ، وكان الغمّ الاَخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم¹ قال : وذكر لنا أنه قتل يومئذٍ سبعون رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وستون رجلاً من الأنصار ، وأربعة من المهاجرين . وقوله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ } يقول : ما فاتكم من غنيمة القوم ، ولا ما أصابكم في أنفسكم من القتل والجراحات .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } قال : فرّة بعد فرّة ، الأولى : حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قُتِل¹ والثانية : حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين ، حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً ، ثم انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يصعدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
وقال آخرون : بل غمهم الأول كان قتل من قُتل منهم ، وجرح من جُرح منهم¹ والغمّ الثاني : كان من سماعهم صوت القائل : قُتل محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { غَمّا بِغَمّ } قال : الغمّ الأول : الجراح والقتل¹ والغمّ الثاني : حين سمعوا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل . فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمْ } قال : الغمّ الأوّل : الجراح والقتل¹ والغمّ الاَخر : حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل . فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول الله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } .
وقال آخرون : بل الغمّ الأوّل ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة¹ والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشعب . وذلك أن أبا سفيان فيما زعم بعض أهل السير لما أصاب من المسلمين ما أصاب ، وهرب المسلمون ، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أُحد الذي كانوا ولوا إليه عند الهزيمة ، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه ، وضع رجل سهما في قوسه ، فأراد أن يرميه ، فقال : «أنا رَسُولُ اللّهِ » ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا . فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم¹ فلما نظروا إليه ، نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمّهم أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا ، اللّهُمّ إنْ تُقْتَلْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدُ » ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم ، فقال أبو سفيان يومئذٍ : اعل هبل ! حنظلة بحنظلة ، ويوم بيوم بدر . وقتلوا يومئذٍ حنظلة بن الراهب وكان جنبا فغسلته الملائكة ، وكان حنظلة بن أبي سفيان قُتل يوم بدر¹ قال أبو سفيان : لنا العزّى ، ولا عزّى لكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : «قُلِ اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلى لَكُمْ » . فقال أبو سفيان : فيكم محمد ؟ قالوا : نعم ، قال : أما إنها قد كانت فيكم مثلة ، ما أمرت بها ، ولا نهيت عنها ، ولا سرّتني ، ولا ساءتني . فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم ، فقال : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } الغمّ الأوّل : ما فاتهم من الغنيمة والفتح¹ والغمّ الثاني : إشراف العدوّ عليهم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من القتل حين تذكرون ، فشغلهم أبو سفيان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا فيما ذكروا من حديث أُحد ، قالوا : كان المسلمون في ذلك اليوم لما أصابهم فيه من شدّة البلاء أثلاثا : ثلث قتيل ، وثلث جريح ، وثلث منهزم ، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع ، وحتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُثّ بالحجارة حتى وقع لشقه ، وأصيبت رباعيته ، وشُجّ في وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص . وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل ، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي ، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فكان أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بني سلمة ، قال : عرفت عينيه تزهران تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأشار إليّ رسول الله أن أنصت . فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض نحو الشعب معه عليّ بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوّام ، والحارث بن الصامت في رهط من المسلمين . قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه ، إذ علت عالية من قريش الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللّهُمّ إنّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أن يَعْلُونا » فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين ، حتى أهبطوهم عن الجبل . ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدّن ، فظاهر بين درعين ، فلما ذهب لينهض ، فلم يستطع ، جلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض حتى استوى عليها ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف ، أشرف على الجبل ، ثم صرخ بأعلى صوته أنعمت فعالِ ، إن الحرب سجال ، يوم بيوم بدر ، أعل هبل ! أي أظْهِرْ دينك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : «قُمْ فأجِبْهُ فَقُلْ : اللّهُ أعْلَى وأجَلّ ، لا سَوَاءٌ ، قَتْلانا في الجَنّةِ ، وقَتْلاَكُمْ فِي النّارِ » فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : هلمّ إليّ يا عمر ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ائْتِهِ فانْظُرْ ما شأْنُهُ ! » فجاءه فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر ، أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر : اللهمّ لا ، وإنه ليسمع كلامك الاَن . فقال : أنا أصدق عندي من ابن قميئة ، وأشار لقول ابن قميئة لهم : إني قتلت محمدا . ثم نادى أبو سفيان ، فقال : إنه قد كان في قتلاكم مثله ، والله ما رضيت ، ولا سخطت ، ولا نهيت ، ولا أمرت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } : أي كربا بعد كرب قتلُ من قُتل من إخوانكم ، وعلوّ عدوّكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : قتل نبيكم ، فكان ذلك مما تتابع عليكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من ظهوركم على عدوّكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ، ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم¹ حتى فرّجت بذلك الكرب عنكم ، والله خبير بما تعلمون . وكان الذي فرّج عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم أن الله عزّ وجلّ ردّ عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم ، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّا بين أظهرهم ، هان عليهم ما فاتهم من القوم ، فهان الظهور عليهم والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم ، حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } قال ابن جريج : قال مجاهد : أصاب الناس حزن وغمّ على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا ، فلما تولجوا في الشعب يتصافون وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب ، فظنّ المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا ، فأصابهم حزن في ذلك أيضا أنساهم حزنهم في أصحابهم ، فذلك قوله : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ } قال ابن جريج : قوله : { على ما فاتَكُمْ } يقول : على ما فاتكم من غنائم القوم { ولا مَا أصَابَكُمُ } في أنفسكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن عبيد بن عمير ، قال : جاء أبو سفيان بن حرب ، ومن معه ، حتى وقف بالشعب ، ثم نادى : أفي القوم ابن أبي كبشة ؟ فسكتوا ، فقال أبو سفيان : قتل وربّ الكعبة ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فسكتوا ، فقال : قتل وربّ الكعبة ! ثم قال : أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ فسكتوا ، فقال : قتل وربّ الكعبة ! ثم قال أبو سفيان : اعل هبل ، يوم بيوم بدر ، وحنظلة بحنظلة ، وأنتم واجدون في القوم مُثلاً لم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا ، ولم نكرهه حين رأيناه ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : «قُمْ فَنادِ فَقُلْ : اللّهُ أعْلَى وأجَلّ ، نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا¹ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار » .
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } فرجعوا فقالوا : والله لنأتينهم ، ثم لنفتلنهم ، قد خرجوا منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَهْلاً فإنّمَا أصَابَكُمْ الّذي أصَابَكُمْ مِنْ أجْلِ أنّكُمْ عَصَيْتُمُونِي » . فبينما هم كذلك ، إذ أتاهم القوم ، قد أنسوا ، وقد اخترطوا سيوفهم ، فكان غمّ الهزيمة وغمهم حين أتوهم¹ { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ } من القتل { وَلا ما أصَابَكُمْ } من الجراحة { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا } . . . الاَية ، وهو يوم أُحد .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : معنى قوله : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين ، والظفر بهم ، والنصر عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم ربكم ، وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ، غمّ ظنكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وميل العدوّ عليكم بعد فلولكم منهم .
والذي يدلّ على أن ذلك أولى بتأويل الاَية مما خالفه ، قوله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } والفائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إليه من غيرهم ، إما من ظهور عليهم بغلبهم ، وإما من غنيمة يحتازونها ، وأن قوله : { وَلا ما أصَابَكُمْ } هو ما أصابهم إما في أبدانهم ، وإما في إخوانهم . فإن كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الغمّ الثاني هو معنى غير هذين ، لأن الله عزّ وجلّ أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه ثابهم غما بغمّ ، لئلا يحزنهم ما نالهم من الغمّ الناشىء عما فاتهم من غيرهم ، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم ، وهو الغمّ الأول على ما قد بيناه قبل .
وأما قوله : لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } فإن تأويله على ما قد بينت من أنه لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوّكم بالظفر عليهم والظهور وحيازة غنائمهم ، ولا ما أصابكم في أنفسكم من جرح من جُرح وقَتل من قُتل من إخوانكم .
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبل على السبيل التي اختلفوا فيه ، كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } قال : على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون ، { وَلا ما أصَابَكُمْ } من الهزيمة .
وأما قوله : { وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْلَمُونَ } فإنه يعني جلّ ثناؤه : والله بالذي تعلمون أيها المؤمنون من إصعادكم في الوادي هربا من عدوكم ، وانهزامكم منهم ، وتنرككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم ، وحزنكم على ما فاتكم من عدوّكم ، وما أصابكم في أنفسهم ذو خبرة وعلم ، وهو محص ذلك كله عليكم حتى يجازيكم به المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، أو يعفو عنه .
{ إذ تصعدون } متعلق بصرفكم ، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا . والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة . { ولا تلوون على أحد } لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره . { والرسول يدعوكم } كان يقول إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة . { في أخراكم } في ساقتكم أو في جماعتكم الأخرى { فأثابكم غما بغم } عطف على صرفكم ، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غما متصلا بغم ، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له . { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق . وقيل { لا } مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم . وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم ، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة { والله خبير بما تعملون } عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها .
{ إذ تصعدون } متعلّق بقوله : { ثم صرفكم عنهم } [ آل عمران : 152 ] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون .
والإصْعاد : الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيداً ، قال جعفر بن عُلْبة :
* هَوَاي مَع الرَكْب اليَمَانِينَ مُصْعِد *
والإصعاد أيضاً السَّير في الوادي ، قال قتادة والربيع : أصعدوا يوم أحُد في الوادي . والمعنى : تفرّون مصعدين ، كأنَّه قيل : تذهبون في الأرض أي فراراً ، فـ ( إذ ) ظرف للزمان الَّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره .
{ ولا تلوون على أحد } أي في هذه الحالة . واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه ، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف ، والمراد على أحد منكم ، يعني : فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به ، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه .
وجملة { والرسول يدعوكم في أُخراكم } حال ، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم . ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة ، وهذا هو دعاء الرسول النَّاس بقوله : « إليّ عباد الله من يَكُر فله الجنَّة » .
وقوله : { فأثابكم غما } إن كان ضمير { فأثابكم } ضميرَ اسم الجلالةَ ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } [ آل عمران : 154 ] فهو عطف على { صَرَفكم } [ آل عمران : 152 ] أي ترتّب على الصرف إثابتكم . وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل . والغمّ ليس بخير ، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَينَاكُم فَعَجَّلْنَا قِراكم *** قبيلَ الصبح مِرداة طحونا
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم ، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله : { فبشّرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وفي هذا الوجه بعد : لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ ، ومقام لا تنديم . وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب ، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق :
أخاف زياداً أن يكون عطاؤُه *** أدَاهِم سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا
قلتُ : اطبُخوا لي جُبَّةً قميصاً .
ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة ، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده .
والباء في قوله : { بغمّ } للمصاحبة أي غمّاً مع غمّ ، وهو جملة الغموم الَّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النَّصر بعد ظهور بَوارقه ، ومن الانهزام ، ومن قتل من قُتل ، وجرح من جرح ، ويجوز كون الباء للعوض ، أي : جازاكم الله غمّاً في نفوسكم عوضاً عن الغمّ الَّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله : { فأثابكم } عائداً إلى الرسول في قوله : { والرسول يدعوكم } ، وفيه بعد ، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ .
والباء في قوله : { بغمّ } باء العوض . والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول ، والغمّ الثَّاني غمّ المسلمين ، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم ، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاءاً على غمّكم لأجله .
وقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } تعليل أوّل ل ( أثابكم ) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، وما أصابكم من القتل والجراح ، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة ، وقيل : ( لا ) زائدة والمعنى : لتحزنوا ، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله : { أثابكم } تهكّماً أو المعنى فأثابكم الرسول غمّاً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم : أي سكت عن تثريبكم ، ولم يظهر لكم إلاّ الاغتمام لأجلكم ، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزناً على ما فاتكم ، فأعرض عن ذكره جَبراً لخواطركم . وقيل : المعنى أصابكم بالغمّ الَّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب ، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب .
وفي الجمع بين { ما فاتكم } و { ما أصابكم } طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر ، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار .