قوله تعالى : { قل أغير الله أتخذ ولياً } . وهذا حين دعي إلى دين آبائه ، فقال تعالى : { قل } يا محمد { أغير الله أتخذ ولياً } ، رباً ، ومعبوداً ، وناصراً ، ومعيناً .
قوله تعالى : { فاطر السموات والأرض } ، أي : خالقهما ومبدعهما ومبتدئهما .
قوله تعالى : { وهو يطعم ولا يطعم } . أي : وهو يرزق ولا يُرزق ، كما قال : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } .
قوله تعالى : { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } ، يعني : من هذه الأمة ، والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله ، وقيل : أسلم أخلص .
{ قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني ، وينصرني ؟ ! .
فلا أتخذ من دونه تعالى وليا ، لأنه فاطر السماوات والأرض ، أي : خالقهما ومدبرهما . { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } أي : وهو الرزاق لجميع الخلق ، من غير حاجة منه تعالى إليهم ، فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق ، الغني الحميد ؟ " { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لله بالتوحيد ، وانقاد له بالطاعة ، لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي .
{ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : ونهيت أيضا ، عن أن أكون من المشركين ، لا في اعتقادهم ، ولا في مجالستهم ، ولا في الاجتماع بهم ، فهذا أفرض الفروض عليَّ ، وأوجب الواجبات .
ثم أمر - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد ، وأن ينفى عن نفسه بشدة ما تردوا فيه من جهالة وضلالة فقال :
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } .
أى : قل لهم - يا محمد - موبخا وزاجرا ، بأى عقل أبحتم لأنفسكم الإشراك بالله ، واتخذتم من دونه معبودا سواه ، مع أنه - سبحانه - باعترافكم هو الخالق لكم وللسموات والأرض ولكل شىء ؟
وقد سلطت الهمزة على المفعول الأول لا على الفعل ، للإيذان بأن المستنكر إنما هو اتخاذ غير الله وليا لا اتخاذ الولى مطلقا ، ونظير هذه الآية قوله - تعالى - { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } ثم دلل - سبحانه - على أنه هو وحده المستحق للعبادة بأمرين .
أولهما : قوله - تعالى - { فَاطِرِ السماوات والأرض } .
أى خالقهما ومنشئهما على غير مثال سبق ، فالفطر - كما قال اللغويون - الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال يحتذى .
وثانيهما : قوله - تعالى - { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } .
أى : أنه - سبحانه - هو الذى لا يحتاج إلى أحد وكل ما سواه محتاج إليه وهو الرازق لغيره ، والمنافع كلها من عنده .
وقرأ أبو عمرو ( وهو يطعم ولا يطعم ) بفتح الياء فى الثانى . أى : وهو يرزق غيره ويطعمه أما هو - سبحانه - فلا يتناول طعاما ولا شرابا .
وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولى سوى الله ، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام ، وأنه - سبحانه - هو الذى خلق لهم هذا الطعام فهم عاجزون عن البقاء بدونه .
ثم أمره - سبحانه - بأن يصرح أمامهم بأنه برىء من شركهم ومن أفعلاهم القبيحة فقال - تعالى - { قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } .
أى : قل أيها الرسول الكريم بعد إيراد هذه الآيات والحج الدالة على وحدانية الله : إنى أمرت من خالقى أن أكون أول من يسلم له وجهه ويخصه بالعبادة ، كما أنى نهيت عن أن أكون من المشركين الذين يجعلون مع الله ألهة أخرى .
وصح عطف الجملة الثانية الإنشائية على الأولى الخبرية لأن الأولى خبرية فى اللفظ ولكنها إنشائية فى المعنى فكانت فى قوة الجملة الطلبية والتقدير : كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ، ويجوز عطفها على جملة { قُلْ إني أُمِرْتُ } وهى إنشائية فى اللفظ والمعنى .
ثم قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم ، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه{[10592]} المستقيم : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } كَمَا قَالَ { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] ، والمعنى : لا أتخذ وليًا إلا الله وحده لا شريك له ، فإنه فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سَبَق .
{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } أي : وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * [ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ]{[10593]} } [ الذاريات : 56 - 58 ] .
وقرأ بعضهم هاهنا : { وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ } الآية{[10594]} أي : لا يأكل .
وفي حديث سُهَيْل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[10595]} قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فانطلقنا معه ، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال : الحمد لله الذي يُطعِم ولا يَطْعَم ، ومَنَّ علينا فهدانا ، وأطعمنا وسَقانا وكلّ بَلاء حَسَن أبلانا ، الحمد لله غير مُودّع{[10596]} ولا مكافَأ ولا مكفور ولا مُسْتَغْنًى عنه ، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام ، وسقانا من الشراب ، وكسانا من العري ، وهدانا من الضلال ، وبَصَّرنا من العَمَى ، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين " {[10597]}
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أي : من هذه الأمة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك ، الداعين إلى عبادة الاَلهة والأوثان : أشياء غير الله تعالى أتخذ وليا وأستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث ؟ كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسياط ، عن السديّ : قُلْ أغَيْرُ اللّهِ أتّخِذُ وَلِيّا قال : أما الوليّ : فالذي يتولونه ويقرون بالربوبية .
فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول أشيئا غير الله فاطر السموات والأرض أتخذ وليا ؟ ففاطر السموات من نعت الله وصفته ولذلك خفض . ويعني بقوله : فاطِرِ السّمَواتِ والأرْضِ مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما . كالذي :
حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها ، يقول : أنا ابتدأتها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خالق السموات والأرض .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خالق السموات والأرض .
يقال من ذلك : فطرها الله يَفْطُرُها ويَفْطِرُها فَطْرا وفُطُورا ، ومنه قوله : هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ يعني : شقوقا وصدوعا ، يقال : سيف فُطَار : إذا كثر فيه التشقق ، وهو عيب فيه ومنه قول عنترة :
وسَيْفِي كالعقيقةِ فهو كِمْعِي ***سِلاحي لا أفلّ ولا فُطارَا
ومن يقال : فَطَر نابُ الجمل : إذا تشقق اللحم فخرج ومنه قوله : تَكادُ السّمَوَاتِ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ : أي يتشقّقن ويتصدعن .
وأما قوله : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ فإنه يعني : وهو يَرْوُق خلقه ولا يُرْزَق . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قال : يَرْزُق ، ولا يُرْزَق .
وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقول ذلك : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي أنه يطعم خلقه ، ولا يأكل هو . ولا معنى لذلك لقلة القراءة به .
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إنّي أُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَنْ أسْلَمَ وَلا تَكُونَنّ مِنَ المُشْرِكينَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للذين يدعونك إلى اتخاذ الاَلهة أولياء من دون الله ويحثّونك على عبادتها : أغير الله فاطر السموات والأرض ، وهو يرزقني وغيري ، ولا يرزقه أحد ، أتخذ وليا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق ؟ وقل لهم أيضا : إني أمرني ربي أن أكون أوّل من أسلم ، يقول : أوّل من خضع له بالعبودية وتذلل لأمره ونهيه وانقاد له من أهل دهري وزماني . وَلا تَكُونَنّ مِنَ المْشُرِكِينَ يقول : وقل : وقيل لي لا تكوننّ من المشركين بالله الذين يجعلون الاَلهة والأنداد شركاء وجعل قوله : أُمِرْتُ بدلاً من «قيل لي » ، لأن قوله : أُمِرْتُ معناه : قيل لي ، فكأنه قيل : قل إني قيل لي : كن أوّل من أسلم ، ولا تكوننّ من المشركين فاجتزىء بذكر الأمر من ذكر القول ، إذ كان الأمر معلوما أنه قول .