في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (14)

12

والآن ، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق ، وأن الله وحده هو المالك . . . يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله ، والعبودية لغير الله ، والولاء لغير الله . ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله ، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام . وتذكر من صفات الله سبحانه : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه الرازق المطعم ، وأنه الضار النافع ، وأنه القادر القاهر . كما يذكر العذاب المخوف المرهوب . . فتجلل الموقف كله ظلال الجلال والرهبة ، في إيقاع مدو عميق :

( قل : أغير الله أتخذ وليا ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .

إن هذه القضية . . قضية اتخاذ الله وحده وليا . بكل معاني كلمة " الولي " . أي اتخاذه وحده ربا ومولى معبودا يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده ؛ ويدين له بالعبادة له شعائرها وحده . واتخاذه وحده ناصرا يستنصر به ويعتمد عليه ، ويتوجه إليه في الملمات . . إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها . فإما إخلاص الولاء لله - بهذه المعاني كلها - فهو الإسلام . وإما إشراك غيره معه في أي منها ، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام !

وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع :

( قل : أغير الله أتخذ وليا ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين ) . .

إنه منطق الفطرة القوي العميق . . لمن يكون الولاء ولمن يتمحض ؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما ؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاما ؟

( قل : أغير الله أتخذ وليًا ) . . وهذه صفاته سبحانه . . أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله وليا ؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه ، فالله هو فاطر السماوات والأرض ، فله السلطان في السماوات والأرض . وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه ، فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض . ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق ؟

ثم . . ( قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ) . . والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله وليا . فاتخاذ غير الله وليا - بأي معنى - هو الشرك . ولن يكون الشرك إسلاما . .

قضية واحدة محددة ، لا تقبل لينا ولا تميعا . . إما أفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة ؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها ؛ وولاء القلب والعمل ، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك . . إما هذا كله فهو الإسلام . . وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك . الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام .

لقد أمر رسول الله [ ص ] أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة ؛ ليجعل لآلهتهم مكانا في دينه ، مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين . وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم ، . . وأولها تقاليد التحريم والتحليل . . في مقابل أن يكفوا عن معارضته ، وأن يجعلوه رئيسا فيهم ؛ ويجمعوا له من مالهم ، ويزوجوه أجمل بناتهم !

لقد كانوا يرفعون يدا للإيذاء والحرب والتنكيل ، ويمدون يدا بالإغراء والمصالحة واللين . .

وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر رسول الله [ ص ] أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف ، وبهذا الحسم الصريح ، وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالا للتمييع .