الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (14)

قوله تعالى : { أَغَيْرَ اللَّهِ } : مفعول أول ل " أتَّخِذُ " و " وليَّاً " مفعولٌ ثاني ، وإنما قَدَّم المفعول الأول على فعله لمعنى : وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غيرُ اللَّهِ ولياً لا اتخاذ الوليّ ، ونحوُه قولك لمن يهين زيداً وهو مستحقٌّ للإِكرام : " أزيداً أهنت " ، أَنْكَرْتَ أن يكون مثله مُهاناً . وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] ومثله : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً } [ الأنعام : 114 ] { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ]

{ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] { ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } [ الأنعام : 13 ] وهو كثير . ويجوز أن يكون " أتخذ " متعدياً لواحد فيكون " غيرَ " منصوباً على الحال من " وليَّاً " لأنه في الأصل صفة له ، ولا يجوز أن يكون استثناءً البتة ، كذا منعه أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ وجهَه . والذي يظهر أنَّ المانع تقدُّمه على المستثنى منه في لامعنى وهو " وليَّاً " ، وأما المعنى فلا يأبى الاستثناء ، لأن الاستفهام لا يُراد به حقيقته ، بل يُراد به الإِنكار ، فكأنه قيل : لا أتَّخذ ولياً غير الله ، ولو قيل كذا لكان صحيحاً ، فظهر أن المانع عنده إنما هو التقديم على المستثنى منه ، لكن ذلك جائز ، وإن كان قليلاً ومنه :

وما ليَ آل أحمدَ شيعةٌ *** وما لي إلا مَشْعبَ الحقِّ مَشْعَبُ

وقرأ الجمهور " فاطرِ " بالجر ، وفيها تخريجان ، أحدهما - وبه قال الزمخشري والحوفي وابن عطية - صفة للجلالة المجرورة ب " غير " ، ولا يَضُرُّ الفصل بين الصفة والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها ؛ لأنها ليست بأجنبية ، إذ هي عاملة في عامل الموصوف . والثاني - وإليه نحا أبو البقاء - أنه بدلٌ من اسمِ الله ، وكأنه فرَّ من الفصل بين الصفة وموصوفها ، فإن قيل : هذا لازمٌ له في البدل ، فإنه فَصَل بين التابع ومتبوعِه أيضاً . فيقال : إن الفصل بين البدلِ والمبدلِ أسهلُ ؛ لأنَّ البدل على نية تكرار العامل فهو أقرب إلى الفصل ، وقد ترجَّح تخريجُه بوجهٍ آخرَ : وهو أنَّ " فاطر " اسم فاعل ، والمعنى ليس على المضيِّ حتى تكون إضافتُه غيرَ محضة فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنكرة لأنه في نية الانفصال من الإِضافة ، ولا يقال : الله فاطر السماوات والأرض فيما مضى ، فلا يُراد حال ولا استقبال ؛ لأن كلام الله تعالى قديم متقدِّمٌ على خلق السماوات ، فيكون المراد به الاستقبال قطعاً ، ويدلُّ على جواز كونه في نية التنوين ما سأذكره عن أبي البقاء قريباً .

وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وتخريجه سهل ، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف . وخَرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ فيحتاج إلى تقدير خبر ، الدلالةُ عليه خفيةٌ بخلاف تقدير المبتدأ فإنه ضمير الأول أي : هو فاطر : وقرئ شاذاً بنصبه ، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين ، أحدهما : أنه بدل من " وليَّاً " قال : " والمعنى على هذا أجعلُ فاطر السماوات والأرض غيرَ الله " كذا قدَّر وفيه نظر ؛ فإنه جعل المفعول الأول وهو " غير الله " مفعولاً ثانياً ، وجعل البدل المفعول الثاني مفعولاً أول ، فالتقدير عكسُ التركيب الأصلي .

والثاني : أنه صفةٌ ل " وليَّاً " قال : " ويجوز أن يكون صفة ل " وليَّاً " والتنوينُ مرادٌ " قلت : يعني بقوله : " التنوين مراد " أن اسم الفاعل عامل تقديراً / فهو في نية الانفصال ، ولذلك وقع وصفاً للنكرة كقوله : { هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] .

وهذا الوجه لا يكاد يَصِحُّ إذ يصير المعنى : أأتخذ غيرَ الله وليَّاً فاطر السماوات إلى آخره ، فيصفُ ذلك الولي بأنه فاطر السماوات . وقرأ الزهري : " فَطَر " على أنه فعل ماضٍ وهي جملة في محل نصب على الحال من الجلالة كما كان " فاطر " صفتها في قراءة الجمهور . ويجوز على رأي أبي البقاء أن تكون صفة ل " ولياً . ولا يجوز أن تكون صفةً للجلالة ، لأن الجملة نكرة .

والفَطْر : الشَّقُّ مطلقاً ، وقيَّده الراغب بالشق وقيَّده الواحدي بشَقِّ الشي عند ابتدائه . والفَطْر : الإِبداع والاتخاذ على غير مثال ، ومنه " فاطر السماوات " أي أوجدها على غير مثالٍ يُحتذى . وعن ابن عباس : " ما كنت أدري ما معنى فَطَر وفاطِر ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : " أنا فَطَرْتُها " أي : أنشأتها وابتدأتها . ويقال : فَطَرْتُ كذا فَطْر هو فُطوراً ، وانفطر انفطاراً وفَطَرْتُ الشاة : حَلَبْتُها بأصبعين ، وفَطَرْت العجين : خبزته مِنْ وقته ، وقوله تعالى : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] إشارةً منه إلى ما فَطَر أي أبدع وركَّز في الناس من معرفته ، ففطرةُ الله ما رُكِّز من القوة المُدْرِكة لمعرفته ، وهو المشار إليه بقوله تعالى :

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] ، وعليه : " كلُّ مولودٍ يَوْلَدُ على الفطرة . . . " الحديث ، وهذا أحسنُ ما سمعت في تفسير " فطرة الله " في الكتاب والسنة .

قوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول ، والضمير لله تعالى ، والمعنى : وهو يَرْزق ولا يُرْزَق ، وهو موافقٌ لقوله تعالى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] . وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه : " ولا يَطْعَمُ " بفتح الياء والعين بمعنى ولا يأكل ، والضمير لله تعالى .

وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني : ولا يُطْعِم ، بضم الياء وكسر العين كالأول ، فالضميران - أعني هو والمستكنُّ في " يطعم " - عائدان على الله تعالى ، والضمير في ولا يُطْعِم للوليّ . وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون .

" وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم " ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، على عكس القراءة المشهورة ، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترَيْنِ في الفعلين للولي فقط ، أي : وذلك الوليُّ يُطْعمه غيره ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزه .

وقرأ الأشهب : { وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم } ببنائهما للفاعل . وذكر الزمخشري فيها تخريجين ثانيهما لنفسه ، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة - : " وفُسِّر بأن معناه وهو يُطْعِم ولا يَسْتَطْعِم " . وحكى الأزهري : أطعمت بمعنى استطعمت ، ونحوه : أَفَدْت ، ويجوز أن يكون المعنى : وهو يُطْعِم تارة ولا يُطْعم أخرى على حسب المصالح كقولك : هو يعطي ويمنع ويَقْدِر ويبسط ويغني ويفقر " قلت : [ هكذا ذكر الشيخ هذه القراءة ، وقراءةُ الأشهب هي ] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء ، لا تخالُفَ بينهما ، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلِّهم ، وإلاَّ يوهمْ هذا أنهما قراءتان متغايرتان وليس كذلك .

وقرئ شاذاً : { يَطْعَم } بفتح الياء والعين ، ولا يُطْعِم بضم الياء وكسر العين أي : وهو يأكل ولا يُطْعِم غيره ، ذكر هذه القراءةَ أبو البقاء وقال : " والضمير راجع على الولي الذي هو غير الله . فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل : وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين ، وسمَّاه أسامة بن منقذ تجنيس التحريف ، وهو تسمية فظيعة ، فتسميتُه بتجنيس التشكيل أَوْلى .

قوله : { مَنْ أَسْلَمَ } " مَنْ " يجوز أن تكون نكرةً موصوفة واقعةً موقعَ اسمِ جمع ، أي : أول فريق أسلم ، وأن تكون موصولة أي : أول الفريق الذي أسلم . وأفرد الضمير في " اسلم " إمَّا باعتبار لفظ " فريق " المقدَّر ، وإمَّا باعتبار لفظ " مَنْ " وقد تقدَّم الكلام على " أول " وكيف يُضاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في البقرة .

قوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ } فيه تأويلان ، أحدهما على إضمار القول أي : وقيل لي : لا تكونَنَّ ، قال أبو البقاء : " ولو كان معطوفاً على ما قبله لفظاً لقال : و " أنْ لا أكون " وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري فإنه قال : " ولا تكونَنَّ : وقيل لي لا تكونَنَّ ومعناه : وأُمرت بالإِسلام ونُهيت عن الشرك " والثاني : أنه معطوف على معمول " قل " حملاً على المعنى ، والمعنى : قل إني قيل لي : كن أولَ مَنْ أسلم ولا تكونن من المشركين [ فهما ] جميعاً محملان على القول ، لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه ، فحمل الثاني على المعنى . وقيل ] : هو عطف على " قل " أُمِرَ بأن يقول كذا ونهى عن كذا .