الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (14)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل أغير الله}، وذلك أن كفار قريش قالوا: يا محمد، ما يحملك على ما أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله وملة جدك عبد المطلب وإلى سادات قومك يعبدون اللات والعزى ومناة، فتأخذ به، وتدع ما أنت عليه، وما يحملك على ذلك إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا، وأمروه بترك عبادة الله، فأنزل الله: {قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض}، فعظم نفسه ليعرف توحيده بصنعه، {وهو يطعم ولا يطعم}، وهو يرزُق ولا يُرزَق، لقولهم: نجمع لك من أموالنا ما يغنيك، {قل} لهم {إني أمرت أن أكون أول من أسلم}: أول من أخلص من أهل مكة بالتوحيد، ثم أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {ولا تكونن من المشركين}، لقولهم للنبي، عليه السلام: ارجع إلى ملة آبائك...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك، الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان: أشيئا غير الله تعالى أتخذ وليا وأستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث؟ عن السديّ قال: أما الوليّ: فالذي يتولونه ويقرون له بالربوبية.

"فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ" يقول: أشيئا غير الله فاطر السموات والأرض أتخذ وليا؟ ففاطر السموات من نعت الله وصفته ولذلك خفض. ويعني بقوله: "فاطِرِ السّمَواتِ والأرْضِ": مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما. عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها.

عن السديّ: "فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ" قال: خالق السموات والأرض.

"وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ": وهو يَرْزق خلقه ولا يُرْزَق.

"قُلْ إنّي أُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَنْ أسْلَمَ وَلا تَكُونَنّ مِنَ المُشْرِكينَ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله ويحثّونك على عبادتها: أغير الله فاطر السموات والأرض، وهو يرزقني وغيري، ولا يرزقه أحد، أتخذ وليا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضا: إني أمرني ربي أن أكون أوّل من أسلم، يقول: أوّل من خضع له بالعبودية وتذلل لأمره ونهيه وانقاد له من أهل دهري وزماني.

"وَلا تَكُونَنّ مِنَ المْشُرِكِينَ" وقل: وقيل لي لا تكوننّ من المشركين بالله الذين يجعلون الآلهة والأنداد شركاء، وجعل قوله: "أُمِرْتُ" بدلاً من «قيل لي»، لأن قوله: "أُمِرْتُ" معناه: قيل لي، فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أوّل من أسلم، "ولا تكوننّ من المشركين" فاجتزئ بذكر الأمر من ذكر القول، إذ كان الأمر معلوما أنه قول.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{قل أغير الله أتخذ وليا} وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه "ربا". كأن هذا صلة قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض} قالوا: لله. فإذا أقررتم أن ذلك كله لله فكيف تتخذون له شركاء فتعبدون غير الله؟ وهو {فاطر السماوات والأرض} ومنشئهما ومنشئ ما فيهما. كيف صرفتم العبادة إلى غير الله؟... وقوله تعالى: {قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} قال الحسن: أول من أسلم من قومه. وأصله: {إني أمرت أن أكون أول من أسلم} أي أمرت أن أسلم، وأخضع أنا أولا، ثم آمركم بذلك...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وقيل: إنه ذكر الإطعام، لأن حاجة العباد اليه أشد، ولأن نفيه عن الله أدل على نفي شبهه بالمخلوقين، لأن الإطعام لا يجوز إلا على الأجسام... "وأمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين "أي أمرت بالأمرين معا: أن أكون أول من أسلم من هذه الأمة، وألا أكون من المشركين. والمعنى: أمرت بذلك ونهيت عن الشرك.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أَبَعْدَ ما أكرمني بجميل ولايته أتولى غيره؟ وبعد ما وَقَعَ عليَّ ضياءُ عنايته أنظرُ في الدارين إلى أحد؟ إنَّ هذا محالٌ في الظنِّ والتقدير. {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}. له نعتُ الكَرَمِ فلذلك يُطْعِمُ، وله حقُّ القِدَمِ فلذلك لا يُطْعَمْ.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

"ولا تكونن من المشركين" وهو وإن كان معصوما عن الشرك، لكن الأمر بالثبات على الإيمان، وترك الإشراك يجوز أن يكون متوجها عليه، وقيل: الخطاب معه، والمراد به: الأمة.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وتلخيص هذا أنه عليه السلام أمر فقيل له: كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين فلما أمر في الآية أن يقول ما أمر به جاء بعض ذلك على المعنى وبعضه باللفظ بعينه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه فرق بين أن يقال {أغير الله أتخذ وليا} وبين أن يقال: أتخذ غير الله وليا لأن الإنكار إنما حصل على اتخاذ غير الله وليا، لا على اتخاذ الولي، وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم فالأهم الذي هم بشأنه أعنى فكأن قوله {قل أغير الله أتخذ وليا} أولى من العبارة الثانية...واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا. واحتج عليه بأنه فاطر السماوات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم. ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا. أما بيان أنه فاطر السماوات والأرض، فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره، فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه. فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات. وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لأن الإطعام عبارة عن إيصال المنافع، وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع. ولما كان هو المبدئ تعالى وتقدس لكل ما سواه، كان لا محالة هو المبدئ لحصول جميع المنافع. ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السماوات والأرض، وصحة أنه يطعم ولا يطعم، وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده. والحق سبحانه هو الغني لذاته الجواد لذاته، وترك الغني الجواد، والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل. وإذا عرفت هذا فنقول: قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة: هو القريب. وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه. فقوله {قل أغير الله أتخذ وليا} يمنع من القرب من غير الله تعالى. فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى. ثم قال تعالى: {قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الإسلام لقوله {وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} ولقول موسى {سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}. ثم قال: {ولا تكونن من المشركين} ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الإنكار منصباً إلى كون الغير متخذاً، لا إلى اتخاذ الولي، أولى "غير "الهمزة فقال: {أغير الله} أي الذي لا شيء يدانيه في العظمة {أتخذ} أي أكلف نفسي إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل المجرد عن الهوى كما فعلتم أنتم وآخذ {ولياً} أي أعبده لكونه يلي جميع أموري، ثم وصفه بما يحقق ولايته ويصرف عن ولاية غيره فقال: {فاطر السماوات والأرض} أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق {وهو} أي والحال أن الله {يطعم} أي يرزق كل من سواه مما فيه روح. ولما كان المنفي كونه سبحانه مفعولاً من الطعم، لا كون ذلك من مطعم معين، بني للمفعول قوله: {ولا يطعم} أي ولا يبلغ أحد بوجه من الوجوه أن يطعمه، والمعنى أن المنافع من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع، فامتنع في العقل اتخاذ غيره ولياً، لأن غيره محتاج في ذاته وفي جميع صفاته إليه، وهو سبحانه الغني على الإطلاق... {قل إني أمرت} أي من جهة من له الأمر، ولا أمر إلا له وهو من تقدم أن له كل شيء، وهو الله وحده {أن أكون} أي بقلبي وقالبي {أول من أسلم} في الرتبة مطلقاً، وفي الزمان بالنسبة إلى الأمة. ولما كان الأمر بالإسلام نهياً عن الشرك، لم يكتف به، بل صرح به جمعاً بين الأمر والنهي من هذا الرب الكريم الذي يدعو إحسانه وكرمه إلى ولايته، وينهى تمام ملكه وجبروته عن شيء من عداوته، في قوله عطفاً على {قل} على وجه التأكيد: {ولا تكونن} أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات أصلاً {من المشركين} أي في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صلى الله عليه وسلم في سؤالهم أن يطرد بعض أتباعه ليوالوه، ونحو ذلك مما كانوا يرجون مقاربته منهم به، إعلاماً بأن فعل شيء مما يريدون مصحح للنسبة إليهم والكون في عدادهم "من تشبه بقوم فهو منهم".

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعد هذا القول الذي أمر الله به رسوله للتذكير بأنه الرب المالك لكل شيء المتصرف بالفعل التدبير في كل شيء حتى دقائق الأشياء والأمور وخفاياها، وأن تصرفه هذا عن علم محيط لا يعزب عنه مثال ذرة ولا دبيب نملة، أمره بقول آخر بين فيه ما يستلزمه ما قبله من وجوب ولايته تعالى وحده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم، ولا يتم به المراد بمحض سعيهم فقال: {قل أغير الله أتخذ وليا}. الولي: الناصر ومتولي الأمر المتصرف فيه، والاستفهام هنا لإنكار اتخاذ غير الله وليا لا لإنكار اتخاذ الولي مطلقا ولهذا لم يقل: أأتخذ وليا غير الله، ولا: أأتخذ غير الله وكيلا. ومثله {أفغير الله تأمرون أعبد أيها الجاهلون} وإنما يتحقق اتخاذ غير الله وليا في صورة واحدة وهو أن يطلب من غيره النصر أو غير النصر من ضروب التصرف في النفع والضر فعلا ومنعا فيما هو فوق كسب ذلك الغير وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه، ولذلك فسر الولي بالمعبود في هذا المقام، وأما تناصر المخلوقين وتولي بعضهم لبعض فيما هو من كسبهم العادي فلا يدخل في عموم اتخاذ غير الله وليا أو اتخاذهم أولياء من دون الله. فقد أثنى الله تعالى على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض. وبين أيضا أن الكفار بعضهم أولياء بعض. وقد تقدم بيان هذا من قبل.

وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحائهم أولياء من دون الله تعالى بمعنى أنهم بندائهم ودعائهم والتوجه إليهم والاستغاثة بهم يشفعون لهم عند الله تعالى في قضاء حاجتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة في رزق وغير ذلك، فكان هذا عبادة منهم لهم وجعلهم شركاء لله باعتقاد كون حصول المطلوب من غير أسبابه العادية التي مضت بها السنن الإلهية العامة قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله تعالى، فمقتضى هذا الاعتقاد أن إرادة الله تعالى ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا بالتبع لإرادة الولي الشافع أو المتخذ وليا شفيعا، والحق أن إرادة الله تعالى أزلية لا يمكن أن تؤثر فيها المحدثات، كما تقدم تقريره مرارا بشواهد الآيات القرآنية: ثم وصف الله تعالى بما ينافي اتخاذ غيره وليا فقال:

{فاطر السماوات والأرض} مبدعهما أي مبدئهما على غير مثال سابق، وروي عن ابن عباس أنه قال ما عرفت ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها. أي ابتدعتها. وأصل الفطر الشق، ومنه {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] بمعنى {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] وقيل للكمأة فطر لأنها تفطر الأرض فتخرج منها، وإيجاد البئر إنما يبتدأ بشق الأرض بالحفر. وقد كانت المادة التي خلق الله منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السموات والأرض، وذلك ضرب من الفطر والشق {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما} [الأنبياء: 30] – الرؤية هنا علمية -.

وصف الله تعالى بفاطر السموات والأرض – وهو لا نزاع فيه – يؤيد إنكار اتخاذ غيره وليا يستنصر ويستعان به أو يتخذ واسطة للتأثير في الإرادة الإلهية، فإن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته من غير تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع يجب أن يتوجه إليه وحده بالدعاء. وإياه يستعان في كل ما وراء الأسباب، وأكد هذا بقوله {وهو يطعم ولا يطعم} أي يرزق الناس الطعام ولا يحتاج إلى من يرزقه ويطعمه لأنه منزه عن الحاجة إلى الطعام وغيره غني بنفسه عن كل ما سواه. وقرأ أبو عمرو « ولا يطعم» بفتح الياء، أي لا يأكل. وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولي غير الله، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام لا حياة لهم ولا بقاء إلى الأجل المحدود بدونه، وإن الله تعالى هو الذي خلق لهم الطعام فهم عاجزون عن البقاء بدونه وعاجزون عن خلقه وإيجاده فكيف يتخذون أولياء مع الغني الحميد، الرزاق الفعال لما يريد، كما قال في الاحتجاج على النصارى في عبادة المسيح وأمه عليهما السلام {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75] وأما الأولياء المتخذة من غير البشر كالأصنام، فهي أضعف وأعجز من البشر، لاتفاق عقلاء الأمم كلها على تفضيل الحيوان على الجماد، وتفضيل الإنسان على جميع أنواع الحيوان.

{قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} أي قل أيها الرسول بعد إيراد هذه الآيات والحجج على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليا: إني أمرت من لدن ربي الموصوف بما ذكر من الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لدينه من هذه الأمة التي بعثت فيها، فلست أدعو إلى شيء لا آخذ به، بل أنا أول مؤمن وعامل بهذا الدين {ولا تكونن من المشركين (14)}

أي وقيل لي بعد هذا الأمر بالسبق إلى إسلام الوجه له: لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يزعمون أنهم يقربونهم إليه زلفى. فأنا أتبرأ من دينكم ومنكم. وحاصل المعنى أنني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. كذا قيل، والأولى أن يقال: إن حاصله الجمع بين الإسلام والبراءة من الشرك وأهله.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والآن، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق، وأن الله وحده هو المالك... يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله، والعبودية لغير الله، والولاء لغير الله. ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام. وتذكر من صفات الله سبحانه: أنه فاطر السماوات والأرض، وأنه الرازق المطعم، وأنه الضار النافع، وأنه القادر القاهر. كما يذكر العذاب المخوف المرهوب.. فتجلل الموقف كله ظلال الجلال والرهبة، في إيقاع مدو عميق: (قل: أغير الله أتخذ وليا، فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين. قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير).. إن هذه القضية.. قضية اتخاذ الله وحده وليا. بكل معاني كلمة "الولي". أي اتخاذه وحده ربا ومولى معبودا يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده؛ ويدين له بالعبادة له شعائرها وحده. واتخاذه وحده ناصرا يستنصر به ويعتمد عليه، ويتوجه إليه في الملمات.. إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها. فإما إخلاص الولاء لله -بهذه المعاني كلها- فهو الإسلام. وإما إشراك غيره معه في أي منها، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام...

(قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين)..

والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله وليا. فاتخاذ غير الله وليا -بأي معنى- هو الشرك. ولن يكون الشرك إسلاما.. قضية واحدة محددة، لا تقبل لينا ولا تميعا.. إما أفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها؛ وولاء القلب والعمل، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك.. إما هذا كله فهو الإسلام.. وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك. الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم}

استئناف آخر ناشئ عن جملة: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} [الأنعام: 12] وأعيد الأمر بالقول اهتماماً بهذا المقول، لأنّه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله، فإنّه لمّا تقرّر بالقول، السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأنّ مصير كلّ ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة، لأنّ ذلك نتيجة لازمة لكونه مالكاً لجميع ما احتوته السماوات والأرض، فكان هذا التقرير جارياً على طريقة التعريض إذ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالتبرّي من أن يعبد غير الله. والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتّخذوهم أولياء، كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر (لا أجحد الحقّ) لدلالة المقام على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه ذلك، كيف وقد علموا أنّه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته، وهذه السورة ما نزلت إلاّ بعد البعثة بسنين كثيرة، كما استخلصناه ممّا تقدّم في صدر السورة. وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسّرين أنّ هذا القول أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم، أي هو مثل ما في قوله تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيّها الجاهلون} [الزمر: 64]، وهو لعمري ممّا يشعر به أسلوب الكلام وإن قال ابن عطية: إنّ ظاهر الآية لا يتضمّنه كيف ولا بدّ للاستئناف من نكتة.

والاستفهام للإنكار. وقدّم المفعول الأول ل {أتّخذ} على الفعل وفاعله ليكون موالياً للاستفهام لأنّه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتّخاذ الوليّ. وشأن همزة الاستفهام بجميع استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا، فالتقديم للاهتمام به، وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بدّ من بيان وجه العناية، وليس مفيداً للتخصيص في مثل هذا لظهور أنّ داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعيّن أن يكون لغرض غير ذلك. فمن جعل التقديم هنا مفيداً للاختصاص، أي انحصار إنكار اتّخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شرّاح « الكشاف» فقد تكلّف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه، وكلام « الكشاف» بريء منه بل الحقّ أنّ التقديم هنا ليس إلاّ للاهتمام بشأن المقدّم ليليَ أداة الاستفهام فيعلم أن محلّ الإنكار هو اتّخاذ غير الله وليّاً، وأما مّا زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم. ولعلّ الذي حداهم إلى ذلك أنّ المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل {أفغير الله تأمروني أعبد} [الزمر: 64] {أغير الله تدعون} [الأنعام: 40] هو كلمة {غير} المضافة إلى اسم الجلالة، وهي عامّة في كلّ ما عدا الله، فكان الله ملحوظاً من لفظ المفعول فكان إنكار اتّخاذ الله وليّاً لأنّ إنكار اتّخاذ غيره وليّاً مستلزماً عدم إنكار اتّخاذ الله وليّاً، لأنّ إنكار اتّخاذ غير الله لا يبقى معه إلاّ اتّخاذ الله وليّاً؛ فكان هذا التركيب مستلزماً معنى القصر وآئلاً إليه وليس هو بدالّ على القصر مطابقة، ولا مفيداً لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين، ألا ترى أنّه لو كان المفعول خلاف كلمة (غير) لما صحّ اعتبار القصر، كما لو قلت: أزيداً أتتّخذ صديقاً، لم يكن مفيداً إلاّ إنكار اتّخاذ زيد صديقاً من غير التفات إلى اتّخاذ غيره، وإنّما ذلك لأنّك تراه ليس أهلاً للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك: أتتّخذ زيداً صديقاً، إلاّ أنّك أردت توجّه الإنكار للمتّخذ لا للاتّخاذ اهتماماً به.

والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك.

ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جواباً لكلام هو المقصود منه كما في قوله: {أفغير الله تَأمُرُونيَ أعْبُدُ أيّها الجاهلون} [الزمر: 64] وقوله: {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} إلى قوله {قال أغير الله أبغيكم إلهاً} [الأعراف: 12]. وأشار صاحب « الكشاف» في قوله: {أغير الله أبغي ربّاً} الآتي في آخر السورة إلى أنّ تقديم {غير الله} على {أبغي} لكونه جواباً عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم. قال الطيبي: لأنّ كل تقديم إمّا للاهتمام أو لجواب إنكار.

والوليّ: الناصر المدبّر، ففيه معنى العلم والقدرة... وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتّخذ وليّاً، فهو ناظر إلى قوله: في أول السورة {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1]. وليس يغني عنه قوله قبله {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} [الأنعام: 12] لأنّ ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسبَاب بقائهم إلى أجل.

وقوله: {وهو يُطعم} جملة في موضع الحال، أي يُعطي الناس ما يأكلونه ممّا أخرج لهم من الأرض: من حبوب وثمار وكلأ وصيد. وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلّم عندهم، لأنّهم يعترفون بأنّ الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنّما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة. وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63،] 64.

وأمّا قوله: {ولا يُطْعَمْ} بضم الياء وفتح العين فتكميل دالّ على الغنى المطلق كقوله تعالى: {وما أريد أن يطعِمونِ} [الذاريات: 57]. ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام. ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدّمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء، إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أنّ الأصنام تنعم بذلك.

{قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين}.

استئناف مكرّر لأسلوب الاستئناف الذي قبله. ومثار الاستئنافين واحد ولكن الغرض منهما مختلف، لأنّ ما قبله يحوم حول الاستدلال بدلالة العقل على إبطال الشرك، وهذا استدلال بدلالة الوحي الذي فيه الأمر باتّباع دين الإسلام وما بني عليه اسم الإسلام من صرف الوجه إلى الله، كما قال في الآية الأخرى {فقل أسلمت وجهي لله} [آل عمران: 20]، فهذا إبطال لطعنهم في الدين الذي جاء به المسمّى بالإسلام، وشعاره كلمة التوحيد المبطلة للإشراك.

وبني فعل {أمرت} للمفعول، لأنّ فاعل هذا الأمر معلوم بما تكرّر من إسناد الوحي إلى الله.

ومعنى {أوّل من أسلم} أنّه أول من يتّصف بالإسلام الذي بعثه الله به، فهو الإسلام الخاصّ الذي جاء به القرآن، وهو زائد على ما آمن به الرسل من قبل، بما فيه من وضوح البيان والسماحة، فلا ينافي أنّ بعض الرسل وصفوا بأنّهم مسلمون، كما في قوله تعالى: حكاية عن إبراهيم ويعقوب {يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون} وقد تقدّم بيان ذلك عند ذكر تلك الآية في سورة [البقرة: 132].

ويجوز أن يكون المراد أول من أسلم ممّن دعوا إلى الإسلام. ويجوز أن يكون الأول كناية عن الأقوى والأمكن في الإسلام، لأنّ الأول في كلّ عمل هو الأحرص عليه والأعلق به، فالأوليّة تستلزم الحرص والقوة في العمل، كما حكى الله تعالى عن موسى قوله: {وأنا أول المؤمنين} [الأعراف: 143]. فإنّ كونه أوّلهم معلوم وإنّما أراد: أنّي الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيماناً. وفي الحديث: « نحن الآخرون الأولون يوم القيامة» وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى: {ولا تكونوا أول كافر به} في سورة [البقرة: 41].

والمقصود من هذا على جميع الوجوه تأييس المشركين من عوده إلى دينهم لأنّهم ربّما كانوا إذا رأوا منه رحمة بهم وليناً في القول طمعوا في رجوعه إلى دينهم وقالوا إنّه دين آبائه.

وقوله: {ولا تكوننّ من المشركين} عطف على قوله: {قل}، أي قل لهم ذلك لييْأسوا. والكلام نهي من الله لرسوله مقصود منه تأكيد الأمر بالإسلام، لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فذكر النهي عن الضدّ بعد ذلك تأكيد له، وهذا التأكيد لتقطع جرثومة الشرك من هذا الدين.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين أشركوا بالله غيره في العبادة وادعوا أن الأوثان تقربهم إلى الله تعالى زلفى أنا لا أتخذ غير الله وليا ولا نصيرا، وقدم في الاستفهام كلمة (أغير الله) لأن ذلك موضع الشناعة عليهم في الاستنكار إذ أنه موضع الغرابة أن يكون غير الله متخذا وليا فكان ذات الاتخاذ غريبا في ذاته، والإشراك في ذاته ترك لعبادة الله وعدم اتخاذه وحده وليا ونصيرا، لأن الولاية الحق هي لله وحده، فاتخاذ أي ولى معه ترك لولاية الله تعالى والولي يطلق بمعنى النصير وبمعنى المعبود وبمعنى الصديق الحميم، وهو هنا بمعنى النصير المعبود فلا يستنصر إلا الله ولا يعبد سواه...

(فاطر السموات والأرض) أي منشئهما على غير مثال سابق، ابتداء حيث لم تكونا من قبل... وهنا نثير ثلاثة أمور نقرب بها معنى النص الكريم. أولها: كيف تعطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، اذ إن الأولى أمرت والثانية، ولا تكونن من المشركين؟ وقد أجاب عن ذلك العلماء بإجابات مختلفة والذي نراه أن الجملة الأولى ظاهرها إخبارية ولكن لتضمنها معنى الأمر كانت في معنى الجملة الطلبية الإنشائية فإن نسق الكلام هكذا (كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين). الثاني: لماذا كان النهي عن الشرك بعد الأمر بأن يكون أول مذعن لمطالب الإيمان بالوحدانية والجواب عن ذلك أن النهي هو عن أن يكون من المشركين بأن يتبرأ منهم ومن إشراكهم ويخرج من صفوفهم ولو كانوا قومه وعشيرته القربى وإذا خرج من صفوف أهل الكفر كان في حزب الله، وحزب الله تعالى هم المفلحون. الثالث: لماذا كان الالتفات من الإخبار الظاهر، في قوله تعالى: (أمرت أن أكون أول من أسلم) إلى الخطاب في قوله تعالى: (ولا تكونن من المشركين)؟ والجواب عن ذلك أن الخطاب فيه توكيد معنى النهي عن الشرك وكلتا الجملتين للخطاب كما خرجنا في الأمر الأول والله تعالى هو وحده الذي يملك الأمر والنهي.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والهمزة هنا في (أغير) يسمونها همزة الإنكار كقوله قائل: أتسب أباك؟ إنها ليست استفهاما بقدر ما هي توبيخ ولوم. وكذلك: {أغير الله أتخذ وليا}. أي أن الحق يأمر رسوله أن يستنكر اتخاذ ولي غير الله. إن اتخاذ الله كولي هو أمر ضروري؛ لأن الإنسان تطرأ عليه أحداث تؤكد له أنه ضعيف وله أغيار، وساعة ضعف الإنسان لا بد أن يأوي إلى من هو أشد منه قوة ولا يتغير. إن الوالي – وهو الله – قوته لا يمكن أن تصير ضعفا، وغناه لا يمكن أن ينقلب فقرا، وعلمه لا يمكن أن يؤول إلى جهل. إنه مغير ولا يتغير. لذلك فمن نعمة الله على خلقه أنه جعل من نفسه وليا لهم، فهو صاحب الأغيار. والحق سبحانه وتعالى يعلم خلقه أن يكونوا أهل الحكمة؛ يضعون الأمور في نصابها ويتوكلون عليه، فهو الحي الذي لا يموت. ونلحظ أن الحق هنا يأمر رسوله بالبلاغ عنه. وتتجلى هنا دقة الأداء القرآني فيأتي البلاغ كما نزل من الحق حرفيا...إذن فاتخاذ الولي هو أمر فطري، والإيمان بالله يعطينا ذكاء اختيار الولي. فالإنسان المؤمن عليه أن يختار الولي الذي يجده عندما يحتاج إليه؛ لذلك فعليه أن يختار ولاية الله، ولا يختار ولاية الأغيار...ونجد الحق يستعمل كلمة: (فاطر) مرة في شيء مصلح، وأخرى في شيء مفسد. والمثال للشيء المصلح هو ما يقوله الحق هنا: {فاطر السماوات والأرض} أي أنه خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق وباقتدار محكم. ويقول الحق سبحانه في موضع آخر: {إذا السماء انفطرت (1)} (سورة الانفطار). أي أن الحق يبينه هنا إلى يوم الهول الأعظم الذي تنشق فيه السماء وتساقط فيه الكواكب فلا يؤدي أي شيء منها مهمته؛ لأن الله – سبحانه – سلبها ما كانت به صالحة...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} وهل يصلح غيره للولاية، وهل يمكن أن يتولى الولاية من لا يملك من أمره شيئاً، وهو المخلوق الذي يحتاج في وجوده إلى الخالق، وفي استمرار حياته إلى من يغذيه ويطعمه وينميه ويرعاه، وكيف يمكن أن يتولّى رعاية المحتاج الضعيف محتاج ضعيف مثله؟ إن الولاية تمثل الإشراف والرعاية والاحتواء في كل ما يحتاجه الإنسان من شؤون القوة والحركة والحياة، ما يفرض القدرة التي تتحرك في أكثر من اتجاه، وتلتقي بأكثر من مجال، وتواجه كل المواقف بما يناسبها أمام كل التحديات المباشرة وغير المباشرة.. وهل هناك غير الله {فَاطِرِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} الذي أبدعها بكل ما فيها من مخلوقاتٍ حيّةٍ وجامدة، فهو الغني عن كل شيء فيها، إذ لا شيء في الوجود إلا خلقه؟! {وَهُوَ يُطْعِمُ} فمنه كل غذاء الإنسان والحياة والنبات والجماد، {وَلاَ يُطْعَمُ} لأنه ليس جسماً يحتاج إلى التغذية والتنمية، بل هو الذي خلق الغذاء والنموّ في داخل حركة الجسم

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الهدف من نزول هذه الآيات هو إِثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام، فالمشركون وإِن اعتقدوا أنّ الله هو خالق العالم، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأً لأنفسهم، ولربّما اتخذوا صنماً لكل حاجة معينة، فلهم إله للمطر، وإِله للظلام، وإله للحرب والسلم، وإله للرزق، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم. ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطئ، يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن (قل أغير الله اتّخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم)...

فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الاستناد إِلى قدرة أُخرى، وهو الذي يرزق مخلوقاته، فما الذي يدعو الإِنسان إِلى أن يتخذ من دونه ولياً وربّاً؟ وإنّ كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها، فكيف يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين؟... والنقطة الأُخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنّها تقتصر على توكيد اتصاف الله بإطعام مخلوقاته ورزقهم، ولعل ذلك إِشارة إِلى أنّ أقوى حاجات الإِنسان في حياته المادية هي حاجته إِلى «لقمة العيش» كما يقال، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوّة، وقد يصل خضوعهم لأُولئك حدّ العبودية، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام، فأصحاب المال والقوّة هم أنفسهم محتاجون إِلى الطعام، وأنّ الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إِلى طعام. وفي آيات أُخرى نرى القرآن يؤكّد مالكية الله ورازقيته بإنزال الأمطار وإِنبات النباتات، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كلياً فكرة اعتمادهم على مخلوقات مثلهم. ثمّ للردّ على أُولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إِلى الانضمام إِليهم، يؤكّد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء انطلاقا من مبدأ نهي الوحي الإِلهي عن ذلك، إِضافة إِلى نهي العقل: (قل إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم ولا تكونن من المشركين). لا شك أنّ أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النّبي الخاتم في استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى: (إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم) يعني أوّل مسلم من أُمّة الرسالة الخاتمة. كما أنّ هذا إِشارة إِلى أمر تربوي مهم أيضاً، وهو أنّ كل قائد ينبغي أن يكون في تطبيق تعاليم دينه قدوة وطليعة، عليه أن يكون أوّل المؤمنين برسالته، وأوّل العاملين بها، وأكثر الناس اجتهاداً فيها، وأسرعهم إِلى التضحية في سبيلها...