نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (14)

ولما نهض من الحجج ما لم يبق معه لذي بصيرة شك ، كان لسان الحال مقتضياً لأن ينادي بالإنكار عليهم في الالتفات عن جنابه والإعراض عن بابه فأبرز{[28711]} تعالى ذلك في قالب الأمر له صلى الله عليه وسلم بالإنكار على نفسه ، ليكون أدعى لهم وأرفق بهم ، ولأن ما تقدم منبئ عن غاية المخالفة ، منذر بما أنذر من سوء عاقبة المشاققة ، فكأنهم قالوا : فهل من سبيل إلى الموافقة ؟ فقيل : لا إلا باتخاذكم{[28712]} إلهي ولياً{[28713]} ، وذلك لعمري سعادتكم في الدارين ، وبتطمعكم{[28714]} في اتخاذي أندادكم أولياء ، وهذا ما لا يكون أبداً ، وهو معنى قوله تعالى : { قل } أي مصرحاً لهم بإنكار أن تميل{[28715]} إلى أندادهم بوجه .

ولما كان الإنكار منصباً إلى كون الغير متخذاً ، لا إلى اتخاذ الولي ، أولى " غير{[28716]} " الهمزة فقال{[28717]} : { أغير الله } أي الذي لا شيء يدانيه في العظمة { أتخذ } أي{[28718]} أكلف نفسي إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل المجرد عن الهوى كما فعلتم أنتم وآخذ { ولياً } أي أعبده لكونه يلي جميع أموري ، ثم وصفه بما يحقق ولايته ويصرف عن ولاية غيره فقال : { فاطر السماوات والأرض } أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق { وهو } أي والحال أن الله { يطعم } أي يرزق كل من سواه مما فيه روح .

ولما كان المنفي كونه{[28719]} سبحانه مفعولاً من الطعم ، لا كون ذلك من مطعم معين ، بني للمفعول قوله : { ولا يطعم } أي{[28720]} ولا يبلغ أحد بوجه من الوجوه أن يطعمه ، والمعنى أن المنافع من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع ، فامتنع في العقل اتخاذ غيره ولياً ، لأن غيره محتاج في ذاته وفي{[28721]} جميع صفاته إليه ، وهو سبحانه الغني على الإطلاق ، وهذا التفات{[28722]} إلى قوله تعالى :

( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام{[28723]} }[ المائدة : 75 ] وتعريض بكل من عبد من دون الله ولا سيما الأصنام ، فإنهم كانوا يهدون لها الأطعمة فتأكلها{[28724]} الدواب والطيور ، فمعلوم أنها لا{[28725]} تطعم ولا تطعم روى الدارمي في{[28726]} أول مسنده بسند حسن عن الأعمش عن مجاهد قال : " حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم ، قال : فمنعني أن آكل الزبد مخافتها{[28727]} ، فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم " ومولاه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام ، واختلف فيه فقيل : هو قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران{[28728]} ابن مخزوم ، وقيل : قريبه السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخروم . وقيل : ابنه عبد الله بن السائب - والله أعلم ؛ وله عن أبي رجاء - هو{[28729]} العطاردي وهو مخضرم - قال : " كنا في الجاهلية إذا أصبنا{[28730]} حجراً حسناً عبدناه ، وإن لم نصب حجراً جمعنا كثبة{[28731]} من رمل ، ثم جئنا بالناقة الصفي{[28732]} فنفاج{[28733]}{[28734]} عليها فنحلبها{[28735]} على الكثبة حتى نرويها ، ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان " وفيه أيضاً إيماء إلى أنه كما{[28736]} خلقكم كلكم من طين على اختلافكم في المقادير والألوان والأخلاق وهو غني عنكم ، فكذلك خلق المطعومات على اختلاف أشكالها وطعومها ومنافعها وألوانها من طين ، وجعلها منافع لكم وهو غني عنها{[28737]} ، وسيأتي التصريح بذلك في قوله : وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء }[ الأنعام : 99 ] المستوفي{[28738]} في مضماره{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه }[ الأنعام : 118 ] وفي الآية كلها التفات إلى قوله أول السورة{ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون }[ الأنعام : 1 ] وقوله في التي قبلها{ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي{[28739]} وما أنزل عليه{[28740]} ما اتخذوهم أولياء }[ المائدة : 81 ] في أمثالها مما فيه تولي الكفار لغير خالقهم سبحانه وتعالى ، هذا لو لم يرد أمر{[28741]} من قبل الخالق كان{[28742]} النظر السديد{[28743]} كافياً في التنزه عنه ، كما كنت{[28744]} قبل النبوة لا ألتفت إلى أصنامكم ولا أعتبر للعبادة شيئاً من أنصابكم ، فكيف وقد أمرت بذلك ! وهو معنى { قل إني أمرت } أي من جهة من له الأمر ، ولا أمر إلا له وهو من تقدم{[28745]} أن له كل شيء ، وهو الله وحده { أن أكون } أي{[28746]} بقلبي وقالبي { أول من أسلم } في الرتبة مطلقاً ، وفي الزمان بالنسبة إلى الأمة .

ولما كان الأمر بالإسلام نهياً{[28747]} عن الشرك ، لم يكتف به ، بل صرح به جمعاً بين الأمر والنهي من هذا الرب الكريم الذي يدعو إحسانه وكرمه إلى ولايته ، وينهى تمام ملكه وجبروته عن شيء من عداوته ، في قوله عطفاً على { قل } على{[28748]} وجه التأكيد : { ولا تكونن } أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات أصلاً{[28749]} { من المشركين * } أي في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم ، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صلى الله عليه وسلم في سؤالهم أن يطرد بعض أتباعه ليوالوه ، ونحو ذلك مما كانوا يرجون مقاربته{[28750]} منهم به ، إعلاماً بأن فعل شيء مما يريدون مصحح للنسبة{[28751]} إليهم والكون في عدادهم " من تشبه بقوم فهو منهم " .


[28711]:زيد ما بين الحاجزين من ظ.
[28712]:في ظ: إلى أوليا- كذا.
[28713]:في ظ: إلى أوليا- كذا
[28714]:في ظ: بتطعمكم.
[28715]:في الأصل و ظ: يميل.
[28716]:من ظ: وفي الأصل: عن.
[28717]:زيد من ظ، غير أن فيه "قال".
[28718]:زيد من ظ.
[28719]:سقط من ظ.
[28720]:زيد من ظ.
[28721]:زيد من ظ.
[28722]:من ظ، وفي الأصل: الالتفات.
[28723]:سورة 5 آية 75.
[28724]:وفي الأصل: فيأكلها.
[28725]:سقط من ظ.
[28726]:من ظ، وفي الأصل: عن.
[28727]:في ظ: مخافة.
[28728]:وفي الإصابة: وقيل في نسبه: عبد الله بن عمر- بدل عمران.
[28729]:في ظ: عن.
[28730]:في ظ: إذ.
[28731]:في ظ: كثيبة.
[28732]:من الدرامي، وفي الأصل: الصيفي، وفي ظ: العيفا- كذا، وفي الدارمي: قال أبو محمد: الصفي: الكثيرة الألبان.
[28733]:أي نفرج بين رجليها- راجع أول الدارمي.
[28734]:من الدارمي، وفي الأصل: عليه فيحلبها، وفي ظ: عليه فيجعلها.
[28735]:من الدارمي، وفي الأصل: عليه فيحلبها، وفي ظ: عليه فيجعلها.
[28736]:سقط من ظ.
[28737]:سقط من ظ.
[28738]:في الأصل: المسرف، وفي ظ: المستوف.
[28739]:سقط ما بين الرقمين من ظ، وراجع آية 81.
[28740]:سقط ما بين الرقمين من ظ، وراجع آية 81.
[28741]:من ظ، وفي الأصل: أمرا.
[28742]:في ظ: البطر الشديد.
[28743]:في ظ: البطر الشديد.
[28744]:من ظ، وفي الأصل: كتب.
[28745]:من ظ، وفي الأصل: عدم.
[28746]:سقط من ظ.
[28747]:في ظ: نفيا.
[28748]:سقط من ظ.
[28749]:سقط من ظ.
[28750]:في ظ: مقارنته.
[28751]:من ظ، وفي الأصل: للتثنية.