{ قُلْ } للمشركين بعد توبيخهم بما سبق { أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } إنكار لاتخاذ غير الله تعالى ولياً لا لاتخاذ الولي مطلقاً ولذا قدم المفعول الأول وأولى الهمزة ونحوه { أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } ( الزمر ؛ 64 ) والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن دعاه صلى الله عليه وسلم ، فقد قيل : إن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام : يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فارجع فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت . واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل : أأتخذ غير الله ولياً . وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبوداً لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل :
إذا صافى صديقك من تعادى *** فقد عاداك وانقطع الكلام
وقيل : الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة ، ويعلم من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصراً أنه لا يتخذه معبوداً من باب الأولى ، ويحتمل الكلام على ما قيل أن يكون من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصداً إلى إمحاض النصح ليكون أعون على القبول كما في قوله تعالى : { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ ياس : 22 ] .
{ فَاطِرَ السماوات والارض } أي مبدعهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . / وأخرج أبو عبيدة وابن جرير وابن الأنباري عنه رضي الله تعالى عنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول : أنا ابتدأتها ، وهو نعت للجلالة مؤكد للإنكار ، وصح وقوعه نعتاً للمعرفة لأنه بمعنى الماضي سواء كان كلاماً من الله تعالى ابتداءً أو محكياً عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم ، ويدل على إرادة المضي أنه قرأ الزهري { فَطَرَ } ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف ، وقيل : بدل من الاسم الجليل ، ورجحه أبو حيان بأن الفصل فيه أسهل ، وقرىء بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو امدح فاطر ، وجوز أن يكون النصب على البدلية من { وَلِيّاً } لا الوصفية لأنه معرفة ، نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة صفة له .
{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي ، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ }
[ الذاريات : 57 ] وعبر بالخاص عن العام مجازاً لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه ، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة ، والجملة في محل نصب على الحالية ، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرأوا { وَلاَ يُطْعَمُ } بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى ، ومثله قراءة أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين ، وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، والضمير حينئذٍ في الفعلين لغير الله تعالى أي أتخذ من هو مرزوق غير رازق ولياً ، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى ، وقد يقال : الكلام كناية عن كونه مخلوقاً غير خالق كقوله تعالى : { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 والفرقان : 3 ] ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأساً ، وقرأ الأشهب { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } ببنائهما للفاعل ، ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعاماً ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى { يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } [ البقرة : 245 ] والضميران لله تعالى ، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير .
{ قُلْ } بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى ولياً مما يقضي ببطلانه بديهة العقول { إِنّى أُمِرْتُ } من جناب وليي جل شأنه { أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } وجهه لله سبحانه وتعالى مخلصاً له لأن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور بما شرعه إلا ما كان من خصائصه عليه الصلاة والسلام وهو إمام أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولاً بما أمر به ليكون أدعى للامتثال ، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام { سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } [ الأعراف : 143 ] .
وقيل : إن ما ذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أول : من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه صلى الله عليه وسلم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر .
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } أي في أمر من أمور الدين ، وفي الكلام قول مقدر أي وقيل لي : لا تكونن ، فالواو من الحكاية عاطفة للقول المقدر على { أُمِرْتُ } ، وحاصل المعنى إني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ، وقيل : إنه معطوف على مقول { قُلْ } على المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن فالواو من المحكي ، وقيل : إنه عطف على { قُلْ } على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا ، وتعقب بأن سلالة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها ، وجوز أن يعطفه على { إِنّى أُمِرْتُ } داخلاً في حيز { قُلْ } والخطاب لكل من المشركين ، ولا يخفى تكلفه وتعسفه ، وعدم صحة عطف على { أَكُونَ } ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى لأن يقال أمرت أن لا تكونن .
( ومن باب الإشارة ) :{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } أي ناصراً ومعيناً { فَاطِرَ السموات والأرض } أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } فهو الغني المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } نفسه لربه عز شأنه ، والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي : قل إني قيل لي : كن أول من أسلم فكنت ، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه الإشارة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم : «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين » فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلى الله عليه وسلم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام ، فهو صلى الله عليه وسلم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة ، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] أي وقيل لي : لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحداً بشيء من الأشياء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.