المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

219- ويسألونك - يا محمد - عن حكم الخمر والقمار ، فقل : إن فيهما ضرراً كبيراً من إفساد الصحة وذهاب العقل والمال وإثارة البغضاء والعدوان بين الناس ، وفيهما منافع وبعض المنافع الصحية والربح السهل ، ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما . ويسألونك عمَّا ينفقون ، فأجبهم أن ينفقوا في ذات الله السهل اليسير الذي لا يشق عليكم إنفاقه ، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فيما يعود عليكم من مصالح الدنيا والآخرة{[18]} .


[18]:هذه الآية تقرر حقيقة ثابتة هي أن الخمر والميسر منافع عرضية، كما أن فيهما إثما كبيرا، وأن هذا الإثم أكبر مما يتراءى فيهما من منافع، فشارب الخمر ينتفع ببعض النشوة التي تنقلب إلى خمود يؤدي شربها بعد ذلك إلى إصابته بمختلف الأمراض التي تقود شاربها إلى الإدمان عليها ويتعدى ضررها ذلك إلى الإضرار بكثير من أجهزة الجسم المختلفة كالجهاز الهضمي والعصبي والدوري والدموي، وفي تجارتها منافع مادية ولكن هذه المنافع لا تعتبر شيئا بجانب الأضرار الجسمية التي يحدثها ترويجها بين الناس. والميسر كالخمر، فالنشوة التي يشعر بها المقامر هي على حساب أعصابه واربح الذي يربحه قد يضيع في جلسة واحدة أو في مرات تالية بل قد يصيبه إدمانه بالإفلاس، والفوائد المادية التي يربحها أصحاب دور القمار لا تساوي شيئا بجانب الأضرار الجسمية التي تنجم عن نشر هذه الجريمة بين الناس.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } . الآية ، نزلت في عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر أفتنا في الخمر والميسر ؟ فإنهما مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فأنزل الله هذه الآية . وجملة القول في تحريم الخمر على ما قال المفسرون ، أن الله تعالى أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وهي : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً ) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ ، ثم نزلت في مسألة عمر ومعاذ بن جبل .

قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } . فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد تقدم في تحريم الخمر " فتركها قوم لقوله :

قوله تعالى : { إثم كبير } . وشربها قوم لقوله :

قوله تعالى : { ومنافع للناس } . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، هكذا إلى آخر السورة بحذف " لا " فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) فحرم السكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية تركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة ، وتركها قوم في أوقات الصلاة ، وشربوها في غير حين الصلاة ، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر ، واتخذ عتبان بن مالك صنيعاً ، ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص ، وكان قد شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار ، فانشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار وفخر لقومه ، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحه . فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري ، فقال عمر : اللهم بين لنا رأيك في الخمر بياناً شافياً ؟ ، فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة . إلى قوله ( فهل أنتم منتهون ) وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام ، فقال عمر رضي الله عنه . انتهينا يا رب .

قال أنس حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرم عليهم شيئاً أشد من الخمر . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما نزلت الآية في سورة المائدة حرمت الخمر ، فخرجنا بالحباب إلى الطريق فمنا من كسر جبه ، ومنا غسله بالماء والطين ، ولعله غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حيناً ، فلما مطرت استبان فيها لون الخمر ، وفاحت منها ريحها .

وعن أنس رضي الله عنه ، سميت الخمر خمرا لأنهم كانوا يدعونها في الدنان حتى تختمر وتتغير ، وعن ابن المسيب لأنها تركت حتى صفا لونها ، ورسب كدرها .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، أخبرنا ابن علية ، أخبرنا عبد العزيز بن صهيب قال : قال لي أنس بن مالك . ما كان لنا خمر غير فضيخكم ، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : حرمت الخمر . فقالوا : أهرق هذه القلائل يا أنس ، قال : فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل .

واختلف الفقهاء في ماهية الخمر ، فقال قوم : هي عصير العنب أو الرطب الذي اشتد وغلا من غير عمل النار فيه ، واتفقت الأئمة على أن هذا الخمر نجس يحد شاربها ، ويفسق ويكفر مستحلها ، وذهب سفيان الثوري ، وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعدى هذا ، ولا يحرم ما يتخذ من غيرهما كالمتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيذ ، إلا أن يسكر منه فيحرم ، وقالوا إذا طبخ عصير العنب والرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال ولكنه يكره ، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه قالوا : هو حلال مباح شربه إلا أن السكر منه حرام ، ويحتجون بما روي أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه . ورأى أبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث . وقال قوم : إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالاً ، وهو قول إسماعيل بن علية . وذهب أكثر أهل العلم إلى أن كل شراب أسكر كثيره فهو خمر ، وقليله حرام يحد شاربه . واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " .

أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن أبي سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو الربيع العتكي ، أخبرنا حماد بن زيد ، عن أيوب بن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها ولم يتب لم يشربها في الآخرة " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا أحمد بن أبي رجاء ، أنا يحيى عن أبي حيان ، عن الشعبي عن ابن عمر قال : خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنه قد نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر ، والحنطة والشعير والعسل ، والخمر ما خامر العقل .

وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً " .

فثبت أن الخمر لا يختص بما يتخذ من العنب أو الرطب .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال : إني وجدت من فلان ريح خمر أو شراب ، وزعم أنه شرب الطلاء ، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته ، فجلده عمر الحد تاماً .

وما روى عن عمر ، وأبي عبيدة ومعاذ في الطلاء فهو فيما طبخ حتى خرج عن أن يكون مسكراً .

سئل ابن عباس عن الباذق فقال : سبق حكم محمد الباذق ، فما أسكر فهو حرام .

قوله تعالى : { والميسر } . يعني القمار ، قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والميسر : مفعل من قولهم يسر لي الشيء إذا وجب بيسر يسراً وميسراً ، ثم قيل للقمار ميسر ، وللمقامر ياسر ويسر ، وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزوراً فينحرونها ، ويجزؤونها عشرة أجزاء ، ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام السبعة ، منها أنصباء وهي : الفذ وله نصيب واحد ، والتوأم وله نصيبان ، والرقيب وله ثلاثة أسهم ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسبل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، وثلاثة منها : لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد ، ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدي رجل عدل عندهم يسمى المحيل والنفيض ، ثم يحيلها ويخرج قدحاً منها باسم رجل منهم ، فأيهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج ، فإن خرج له واحد من الثلاثة التي لا أنصباء لها كان يأخذ شيئاً ، ويغرم ثمن الجزور كله . وقال بعضهم : كان لا يأخذ شيئاً ولا يغرم ، ويكون ذلك القدح لغواً ، ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك ويسمونه البرم ، وهو أصل القمار الذي كانت تفعله العرب . والمراد من الآية أنواع القمار كلها ، قال طاووس وعطاء ومجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر . حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب ، وروي عن علي رضي الله عنه في النرد والشطرنج أنهما من الميسر .

قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } . وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش ، قرأ حمزة والكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة وقرأ الباقون بالباء فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة . ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) .

قوله تعالى : { ومنافع للناس } . فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح ، واستمراء الطعام ، وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها ، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب ، وارتفاق الفقراء به . والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء .

قوله تعالى : { وإثمهما أكبر من نفعهما } . قال الضحاك وغيره : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، وقيل : إثمهما أكبر من نفعهما قبل التحريم وهو ما يحصل من العداوة والبغضاء .

قوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق ؟ فقال :

قوله تعالى : { قل العفو } . قرأ أبو عمرو والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق " العفو " بالرفع ، معناه : الذي ينفقون هو العفو . وقرأ الآخرون بالنصب ، على معنى ، قل : أنفقوا العفو . واختلفوا في معنى العفو ، فقال قتادة وعطاء والسدي : هو ما فضل عن الحاجة ، وكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة ، ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية ، ثم نسخ بآية الزكاة . وقال مجاهد : معناه : التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلاً على الناس .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد ابن مخمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أنا إبراهيم ابن عبد الله بن عمر الكوفي ، أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " .

وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال الله تعالى ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) وقال طاووس : ما يسر ، والعفو : اليسر من كل شيء ومنه قوله تعالى ( خذ العفو ) أي الميسور من أخلاق الناس . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله عندي دينار ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أنفقه على نفسك قال : عندي آخر قال : أنفقه على ولدك قال : عندي آخر ؟ قال : أنفقه على أهلك قال : عندي آخر قال : أنفقه على خادمك ، قال : عندي آخر قال : أنت أعلم .

قوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات } . قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة ، لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال : كذلك أيها القبيل ، وقيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه خطاب يشتمل على خطاب الأمة كقوله تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) .

219

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي : يسألك - يا أيها الرسول - المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر ، وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام ، فكأنه وقع فيهما إشكال ، فلهذا سألوا عن حكمهما ، فأمر الله تعالى نبيه ، أن يبين لهم منافعهما ومضارهما ، ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما ، وتحتيم تركهما .

فأخبر أن إثمهما ومضارهما ، وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال ، والصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، والعداوة ، والبغضاء - أكبر مما يظنونه من نفعهما ، من كسب المال بالتجارة بالخمر ، وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس ، عند تعاطيهما ، وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما ، لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته ، ويجتنب ما ترجحت مضرته ، ولكن لما كانوا قد ألفوهما ، وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة ، قدم هذه الآية ، مقدمة للتحريم ، الذي ذكره في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } إلى قوله : { مُنْتَهُونَ } وهذا من لطفه ورحمته وحكمته ، ولهذا لما نزلت ، قال عمر رضي الله عنه : انتهينا انتهينا .

فأما الخمر : فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه ، من أي نوع كان ، وأما الميسر : فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين ، من النرد ، والشطرنج ، وكل مغالبة قولية أو فعلية ، بعوض{[137]}  سوى مسابقة الخيل ، والإبل ، والسهام ، فإنها مباحة ، لكونها معينة على الجهاد ، فلهذا رخص فيها الشارع .

{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }

وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم ، فيسر الله لهم الأمر ، وأمرهم أن ينفقوا العفو ، وهو المتيسر من أموالهم ، الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم ، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه ، من غني وفقير ومتوسط ، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ، ولو شق تمرة .

ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم ، ولا يكلفهم ما يشق عليهم . ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا ، أو تكليفا لنا [ بما يشق ]{[138]}  بل أمرنا بما فيه سعادتنا ، وما يسهل علينا ، وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد .


[137]:- زيادتان في ب بخط مغاير.
[138]:- في أ: لمع.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية ، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور ، ويصلح النفوس .

فقال تعالى :

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . . }

قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } . . السائلون هم المؤمنون وسؤالهم إنما هو عن الحكم الشرعي من حيث الحل والتحريم . لا عن الحقيقة والذات فإنهم يعرفون حقيقة الخمر والميسر وذاتهما .

قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها - وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره . ومنه { خمروا آنيتكم ، فالخمر تخمر العقل ، أي : تغطيه وتستره . . فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك ، وقيل إنما سميت الخمر خمرا ؛ لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أي : اختلطت بهم . فالمعاني الثلاثة متقاربة . فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل . ثم خمرته ، والأصل الستر .

ويرى كثير من العلماء أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الخمر . ثم نزلت الآية التي في سورة النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ثم نزلت الآية التي في سورة المائدة { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر } فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " .

فنزلت الآية التي في النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة - نادى أن : لا يقربن الصلاة سكران . فدعى عمر فقرئت عليه ، فقال : " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعى عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال عمر : " انتهينا " .

وبهذا الرأي قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

ويرى بعض العلماء أن أول آية نزلت في الخمر هي قوله - تعالى - في سورة النحل : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } وعلى هذا الرأي سار صاحب الكشاف وتبعه بعض العلماء فقد قال : نزلت في الخمر أربع آيات ، نزل بمكة قوله - تعالى - { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم . ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } فشربها قوم وتركها آخرون .

ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يأيها الكافرون أعبدما تعبدون فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا شعر فيه هجاء للأنصار فضرب أحد الأنصار سعداً بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت " إنما الخمر والميسر . . . إلخ الآية " . . فقال عمر : انتهينا يا رب " .

وأصحاب الرأي الأول يقولون : إن آية سروة النحل وهي قوله - تعالى - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ليس لها علاقة بموضوع الخمر ، ويفسرون السكر بأنه ما أحله الله مما لا يسكر وأنه هو الرزق الحسن وأن العطف بينهما من باب عطف التفسير .

ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يشتهونه ويحبونه من الخمر والميسر ، يمثل أسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأوامر الله ونواهيه ، فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات . بل وحطموا الأواني التي كانت توضع فيها الخمر امتثالا وطاعة لله - تعالى - .

وهكذا نرى قوة الإِيمان التي غرسها الإِسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه السامية ، وتربيته الحكيمة . . تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع .

هذا وجمهور العلماء على أن كلمة " خمر " تشمل كل شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم من الشعير أم من التمر أم من غير ذلك ، ولكها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر سكر شاربه أو لم يسكر .

ومن أدلتهم ما وراه الإِمام مسلم عن ابن عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة " .

ومن أدلتهم أيضاً أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر ، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره ، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره .

وقال الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى : إن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط ، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو السعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذاً . وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب . أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حرام .

وقد رجح العلماء رأى الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم .

قال ابن العربي : وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال : " حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرها البسر والتمر " . أخرجه البخاري ، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب ، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم - أي أواني الخمر - وبادروا إلى الامتثال لا عتقادهم أن ذلك كله خمر " أي وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .

وقال الآلوسي : وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام ، وقليله ككثيره ، ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة . وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " وروى أبو داود " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر " وصح " ما أسكر كثيرة فقليله حرام " والأحاديث متضافرة على ذلك . ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا " الخمر " ورغبتهم فيها ، فوق اجتماعهم على شرب " الخمر " ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والإِكسير - ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون .

بعد هذه الكلمة التمهيدية عن الآية ، وعن مدلول كلمة خمر ننتقل إلى معنى كلمة " الميسر " فنقول : الميسر : القمار - بكسر القاف - وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر ، كالموعد من وعد . وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجئ للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزر . ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .

قال القرطبي نقلا عن الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً ، لأنه أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور . . ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون ، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .

وصفة الميسر الذي كانت تستعمله العرب أنهم كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام أو الأقلام ، فكانوا إذا أرادوا أن يقامروا أحضروا بعيرا وقسموه ثمانية وعشرين قسما وتترك ثلاثة من تلك الأقداح غفلا لا علامة عليها وكانت تسمى : السفيح ، والمنيح ، والوغد . ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئاً من الجزور . أما السبعة الأخرى فهي الرابحة وهي الفذو له سهم واحد ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمس والمسبل وله ستة ، والمعلي وله سبعة فيكون المجموع ثمانية وعشرين سهما .

تلك صورة تقريبية لقمار العرب كما أوردها بعض المفسرين ولا شك أنه يدخل في حكمها من حيث الحرمة ما كان مشابها لها في المخاطرة والرهان وأخذ الأموال بدون مقابل مشروع ، أو ضياعها فيما حرمه الله .

ومعنى الآية الكريمة : يسألك أصحابك يا محمد عن حكم شرب الخمر ولعب الميسر ، قل لهم على سبيل الإِرشاد والإِعلام : في تعاطيهما { إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي : ذنب عظيم ، وضرر شديد وذلك لما فيهما من القبائح المنافية لمحاسن الشرع من الكذب ، والأذى ، وشيوع العداوة والبغضاء بين الناس ، واستلاب أموالهم بغير حق .

وقوله : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي وفيهما منافع دنيوية للناس إذ الخمر تعدر على المتاجرين فيها أرباحا مالية ، والميسر يؤدي إلى إصابة بعض الناس للمال بدون تعب .

وأطلق - سبحانه - الإِثم وقيد المنافع بأنها للناس ، للتبيه على أن الإِثم في الخمر والميسر ذاتي ، فهما في ذاتهما رجس كبير ، وخطر وبيل ، وأن ما فيهما من منافع ضئيل ولا يتجاوز بعض الناس ، فهي منافع خاصة وليست عامة ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك .

{ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أي أن المفاسد والأضرار التي تترتب على تعاطيهما ، أعظم من المنافع التي تنشأ عن تعاطيهما ، إذ تعاطيهما يؤدي إلى منفعة بعض الناس ، أما مضارهما فكثيرة ، من ذلك أن تعاطي الخمر يضعف الضمير ، ويفسد الأخلاق ، ويميت الحياء ، ويفقد الرشد ويتلف المال ، ويغري بالتنازع بين الناس ، ويتسبب - كما قال الأطباء الثقاة - في كثير من الأمراض كأمراض الكبد والرئتين والقلب . . إلخ .

وإن شئت المزيد من معرفة مضار الخمر فراجع ما كتبه العلماء والمتخصصون في ذلك .

أما تعاطي الميسر فمن مضاره - كما يقول الأستاذ الإِمام محمد عبده - إفساد التربية بتعويد النفس الكسل ، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية ، وإضعفا القوة العقلية ، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية ، وإهمال المقامرين للزراعة والتجارة والصناعة التي هي أركان العمران ، وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغني إلى الفقر في ساعة واحدة ، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في العز والغني وانحصرت ثروتها في جرل أضاعها عليها في ليلة واحدة ؛ فأصبحت عنية وأمست فقيرة " .

إّن فالمنافع الدنيوية التي تعود إلى بعض الناس من تعاطي الخمر والميسر لا تساو شيئاً بجانب تلك المضار الجسمية التي تعود على أفراد الأمة في دينهم وعقولهم وأجسامهم وأموالهم وترابطهم ، وصدق الله إذ يقول : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ثم يأتي بعد ذلك السؤال الثاني الذي ورد في هاتين الآيتين وهو قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } .

ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نهوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطي الخمر والميسر ، سألوا عن وجوه الإِنفاق الحلال ، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم .

قال الآلوسي : أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس أن نفراً من الصحابة حين أمرو بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا وما الذي ننفقه منها فأنزل الله - تعالى- { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى لا يجد ما يتصدق ولا ما يأكل " .

وأصل العفو في اللغة الزيادة . قال- تعالى - : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ } أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد . ويطلق على ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية . يقال : خذ ما عفا لك . أي ما تيسر . كما يطلق على الترك قال - تعالى - { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } أي تركه وتجاوز عنه .

والمراد هنا : ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة ، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله ، ولا يتضرر صاحبه بتركه .

والمعنى : ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر ، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم ، وسهل عليكم إخراجه ، ولا يشق عليكم بذله .

وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد حكيم إلى التعاون والتراحم بين أفراد المجتمع ، وتوجيه إلى المنهاج الوسط الذي يأبى التبذير وينفر من التقتير ، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الإِرشاد والتوجيه ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول " .

وأخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إبدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذى قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " .

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى .

وللأستاذ الإِمام كلام جيد في هذا المقام ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : إن الأمة المؤلفة من مليون فرد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها العامة كإعداد القوة وتربية الناشئة . . تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون فرد لا يبذلون شيئا في مثل ذلك ؛ لأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة ، إذ هو يعتبر نفسه جزءاً منها وهي كل له ، بينما الأمة الثانية لا تعد بواحد لأن كل فرد من أفرادها يخذل الآخر . . وفي الحقيقة أن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة ، لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض ، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم " .

219

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

215

ثم يمضي السياق ، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار . . وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها . يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم ، وتسغرق مشاعرهم وأوقاتهم :

( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس . وإثمهما أكبر من نفعهما )

وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر . ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما . إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها ، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها . وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر ، ولا تناسبه بعثرة العمر ، وبعثرة الوعي ، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين ، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم ، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر ؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار ؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية . أمس واليوم وغدا ! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة . .

وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم . فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا . فالخير يتلبس بالشر ، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض . ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر . فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع ، فتلك علة تحريم ومنع . وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع .

هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم . وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته . ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر .

عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني ، أي بمسألة اعتقادية ، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى .

ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد ، أو بوضع اجتماعي معقد ، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج ، ويهيء الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة .

فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك : أمضى أمره منذ اللحظة الأولى . في ضربة حازمة جازمة . لا تردد فيها ولا تلفت ، ولا مجاملة فيها ولا مساومة ، ولا لقاء في منتصف الطريق . لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور ، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام .

فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف . والعادة تحتاج إلى علاج . . فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين ، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى . . ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . والصلاة في خمسة أوقات ، معظمها متقارب ، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة ! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب ، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي ؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله . فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها . . حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) . .

وأما في الرق مثلا ، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي ، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق ، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبلتعديل ظواهرها وآثارها . والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية . . ولم يأمر الإسلام بالرق قط ، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى . ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي . ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا ، يأخذ به المحاربون جميعا . . فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل .

وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله - مع الزمن - إلا الإلغاء ، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها . وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق ، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة .

بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء . . ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان . وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد ، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض . ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين ، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السييء في عالم الرق هناك . وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام . . ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل ، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشيء . . لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى ، بل قال : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) . . ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم . وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها . فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين ، وتتبادل الأسرى من الفريقين ، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين .

وبتجفيف موارد الرق الأخرى - وكانت كثيرة جدا ومتنوعة - يقل العدد . . وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية . فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده . ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك ، فيصبح أجر عمله له ، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته - أي إنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا - ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة . والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته . . وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة . كبعض حالات القتل الخطأ ، وفدية اليمين ، وكفارة الظهار . . وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن ، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها ، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه .

فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك ؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي ، شيئافشيئا . وهذه حقيقة . . ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه . . ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه ، قليلا أو كثيرا . . ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا . . لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلامية ، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك . فالإسلام لم يتغير . ولم تضف إلى مبادئه مباديء جديدة . إنما الذي تغير هم الناس . وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم . ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه .

وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية ، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ . إنما يستأنفها من حيث يستمد استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة . .

وهذه الحقيقة مهمة جدا . سواء من وجهة التحقيق النظري ، أو النمو الحركي ، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي . ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة ، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية ، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي . ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة . وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي . ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطيء في فهم هذا التاريخ ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين !

ثم نمضي مع السياق في تقرير المباديء الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية :

( ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .

لقد سألوا مرة : ماذا ينفقون ؟ فكان الجواب عن النوع والجهة . فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة . . والعفو : الفضل والزيادة . فكل ما زاد على النفقة الشخصية - في غير ترف ولا مخيلة - فهو محل للإنفاق . الأقرب فالأقرب . ثم الآخرون على ما أسلفنا . . والزكاة وحدها لا تجزيء . فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى : فالزكاة لا تبريء الذمة إلا بإسقاط الفريضة . ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائما . إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله ، وتنفقها في مصارفها المعلومة ، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله . والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله ، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح ؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام : " في المال حق سوى الزكاة " . . حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله - وهذا هو الأكمل والأجمل - فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله ، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة . كي لا يضيع في الترف المفسد . أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل .

( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .

فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة . فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني . وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها . ولا ينشىء تصورا صحيحا للأوضاع والقيم والموازين . فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر . وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبدا إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح . . ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة . فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه ، وزكاة

لمشاعره . كما يرد عليه صلاحا للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاما وسلاما . ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظا لكل فرد . وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء ، وما فيها من قيم وموازين ، مرجحا لكفة الإنفاق ، تطمئن إليه النفس ، وتسكن له وتستريح . ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

{ يسألونك عن الخمر والميسر } روي ، أنه نزل بمكة قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } فأخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأم أحدهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون } فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت { إنما الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب . والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره ، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل ، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه ، وهي حرام مطلقا وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر .

{ والميسر } أيضا مصدر كالموعد ، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : { قل فيهما } أي في تعاطيهما . { إثم كبير } من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور ، وارتكاب المحظور . وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء . { ومنافع للناس } من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة . { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما . ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة . { ويسألونك ماذا ينفقون } قيل سائله أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف ، ثم سأل عن كيفية الإنفاق . { قل العفو } العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة ، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد . قال :

خذي العفو مني تستديمي مودتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وروي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر عليه مرارا فقال : هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى " . وقرأ أبو عمرو برفع { العفو } . { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد ، أو ما ذكر من الأحكام ، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين ، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع ، { لعلكم تتفكرون } في الدلائل والأحكام .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 )

وقوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية( {[2046]} ) ، السائلون هم المؤمنون ، و { الخمر } مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «خمروا الإناء »( {[2047]} ) ، ومنه خمار المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، ومنه قول الشاعر :

ألا يا زيد والضحاك سيرا . . . فقد جاوزتما خمر الطريق( {[2048]} )

أي سيرا مدلين( {[2049]} ) فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره ، ومنه قول العجاج :

في لامِعِ العقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمر . . . ( {[2050]} ) يصف جيشاً جاء برايات غير مستخف ، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم( {[2051]} ) ، أي هو بمكان خاف ، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك ، والخمر ماء العنب الذي غلي( {[2052]} ) ولم يطبخ أو طبخ طبخاً لم يكف غليانه ، وما خامر العقل من غير ذلك فهو في ( {[2053]} )حكمه . قال أبو حنيفة : قد تكون الخمر من الحبوب ، قال ابن سيده : وأظنه تسفحاً منه ، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الخمر من هاتين الشجرتين : العنب والنخلة » ، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح ، ولم تكن عندهم خمر عنب ، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها ، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير ، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره . والحد في ذلك واجب . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب ، فما لا يسكر منه حلال ، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف يرده النظر( {[2054]} ) ، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه ، وروي أن النبي عليه السلام قال : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام »( {[2055]} ) ، قال ابن المنذر في الإشراف : «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج » ، وروي أن هذه الآية أول( {[2056]} ) تطرق إلى تحريم الخمر ، ثم بعده { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }( {[2057]} ) [ النساء : 43 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه }( {[2058]} ) [ المائدة : 90 ] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حرمت الخمر » ، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين ، خرجه مسلم وأبو داود ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضرب فيها ضرباً مشاعاً ، وحزره أبو بكر أربعين سوطاً ، وعمل بذلك هو ثم عمر ، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين ، وبه قال مالك ، وقال الشافعي بالأربعين ، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة العلماء ولا يبدو إبط الضارب ، وقال مالك : «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح » ، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع ، وقالت طائفة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [ المائدة : 90 ] ، يريد ما في قوله { ومنافع للناس } من الإباحة والإشارة إلى الترخيص( {[2059]} ) .

و { الميسر } مأخوذ من يسر إذا جزر ، والياسر الجازر( {[2060]} ) ، ومنه قول الشاعر :

فلَمْ يَزَلْ بِكَ واشيهمْ وَمَكْرُهُمْ . . . حتَّى أَشَاطُوا بِغْيبٍ لَحْمَ مَنْ يَسَرُوا( {[2061]} )

ومنه قول الآخر :

أقُولُ لَهُمْ بِالشَّعْبِ إذْ يَيْسِرونني . . . أَلَمْ تَيْأسُوا إنّي ابْنُ فَارِسِ زهدمِ ؟( {[2062]} )

والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسراً لأنه موضع اليسر ، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة . وقال الطبري : «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتسنى » ، ونسب القول إلى مجاهد ، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله ، بل أراد مجاهد الجزر( {[2063]} ) ، واليسر : الذي يدخل في الضرب بالقداح ، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر ، كحارس وحرس وأحراس ، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ ، وثلاثة لا حظوظ لها ، ولا فروض فيها ، وهي( {[2064]} ) الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى ، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد ، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة( {[2065]} ) وهو الضارب بها ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء ، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام ، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور ، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسماً ، وليس كذلك( {[2066]} ) ، ثم يضرب على العشرة الأقسام ، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدماً أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء ، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه .

ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي ، ومنه قول الأعشى : [ السريع ]

المطعمو الضيف إذا ما شتا . . . والجاعلو القوت على الياسر( {[2067]} )

ومنه قول الآخر : [ الطويل ]

بأيديهمُ مَقْرومَةٌ وَمَغَالقٌ . . . يَعُودُ بأرزاقِ العُفَاةِ مَنِيحُها( {[2068]} )

والمنيح في هذا البيت المستمنح ، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه ، فلذلك المنيح الممدوح( {[2069]} ) ، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال ، فذلك إنما يوصف بالكر ، وإياه أراد جرير بقوله : [ الكامل ]

وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً . . . كَرَّ الْمَنيحِ وَجُلْنَ ثمَّ مَجَالاَ( {[2070]} )

ومن الميسر قول لبيد :

[ الطويل ]

وإذا يَسِرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ بَيْنَهُمْ . . . فَوَاحِش يُنْعى ذكرُها بِالْمَصَايِفِ( {[2071]} )

فهذا كله هو نفع الميسر( {[2072]} ) ، إلى أنه أكل المال بالباطل ، ففيه إثم كبير ، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم : كل قمار ميسر( {[2073]} ) من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز .

وقوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } الآية ، قال ابن عباس والربيع : الإثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبله ، وقالت طائفة : الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية( {[2074]} ) والتعدي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت :

وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا ملوكاً . . . وَأسْداً ما يُنَهْنِهُنَا اللقَاءُ( {[2075]} )

إلى غير ذلك من أفراحها ، وقال مجاهد : «المنفعةَ بها كسب أثمانها » ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم ، وقرأ حمزة والكسائي «كثير » بالثاء المثلثة ، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ، وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، فهذه آثام كثيرة ، وأيضاً فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام ، و «كثير » بالثاء المثلثة يعطي ذلك ، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير » بالباء بواحدة ، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق ، وأيضاً فاتفاقهم على { أكبر } حجة لكبير بالباء بواحدة ، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة ، إلا ما مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر » بالثاء مثلثة في الحرفين ، وقوله تعالى : «فيهما إثم » يحتمل مقصدين ، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي ، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما ، وقال سعيد بن جبير : لما نزلت { قل فيهما إثم كبير( {[2076]} ) ومنافع للناس } كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع ، فلما نزلت :{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس ، فلما نزلت { إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }( {[2077]} ) [ المائدة : 90 ] قال عمر بن الخطاب : ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر .

ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى : { فهل أنتمْ منتهون } [ المائدة : 91 ] قال : «انتهينا ، انتهينا » ، قال الفارسي : وقال بعض أهل النظر : حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [ الأعراف : 33 ] ، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً ، فهي حرام .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ليس هذ النظر بجيد لأن الإثم( {[2078]} ) الذي فيها هو الحرام ، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر( {[2079]} ) ، وقال قتادة : ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها .

وقوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال قيس بن سعد : «هذه الزكاة المفروضة » . وقال جمهور العلماء : بل هي نفقات التطوع . وقال بعضهم : نسخت بالزكاة . وقال آخرون : هي محكمة( {[2080]} ) وفي المال حق سوى الزكاة . و { العفو } : هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله . ونحو هذا هي عبارة المفسرين : وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر ، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : «من كان له فضل فلينفقه على نفسه ، ثم على من يعول ، فإن فضل شيء فليتصدق به »( {[2081]} ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «خير الصدقة ما أبقت غنى » ، وفي حديث آخر : «ما كان عن ظهر غنى »( {[2082]} ) .

وقرأ جمهور الناس «العفو » بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وحده «العفُو » بالرفع ، واختلف عن ابن كثير( {[2083]} ) ، وهذا ( {[2084]} )متركب على { ماذا } ، فمن جعل «ما » ابتداء و «ذا » خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في { ينفقونه } عائداً قرأ «العفوُ » بالرفع ، لتصح مناسبة الجمل ، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم ، أو الذي تنفقون العفو( {[2085]} ) ، ومن جعل { ماذا } اسماً واحداً مفعولاً ب { ينفقون } ، قرأ «قل العفوَ » بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع «العفوُ » مع نصب «ما » جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها .

وقوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق ، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته ، وقال مكي : «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات ، فقوله { في الدنيا } متعلق( {[2086]} ) على هذا التأويل ب { الآيات } ، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق { في الدنيا } ب { تتفكرون } .


[2046]:- حرم الله الخمر بالتدريج لأن جريان العمل بالتدريج جار على المصلحة والتأنيس، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في نحو عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا، ولم ينزل جملة واحدة لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة، ويحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: مالك لا تنفذ الأمور ؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، فقال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة. وسبب نزول الآية سؤال عمر ومعاذ – قالا: يا رسول الله. أفتنا في الخمر والميسر، فإنه مذهبة للعقل، مسلبة للمال.
[2047]:- أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: (خمِّروا الآنية، وأوكوا الأسقية) الخ ولفظ مسلم: (غطوا الإناس وأوكوا السقاءَ) الخ.
[2048]:- البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن، إلا أنه لم ينسبه إلى معين. و(الضحاك) منصوب بالعطف على محل (زيد)، أو مرفوع بالعطف على لفظ (زيد)، وقد قال ابن مالك: وإن يكُنْ مَصْحُـوبَ الْ ما نُسِّقَــا ففِيه وجهـان وَرَفْعٌ يُنْتَقَــى
[2049]:- المُدل: الواثق بنفسه وبسلاحه وعُدَّته.
[2050]:- تمامه: .................................. يُوَجِّه الأرضَ ويَسْتَاقُ الشَّجَـرْ والعقبان: جمع عقاب وهي الرايات. والخمر بالفتح: الشجر، ويوجِّه الأرض: أي يجعلها جهة واحدة، ويستاق الشجر: أي يقتلعه حتى تكون الأرض وجها واحدا لكثرته.
[2051]:- أي في جمعهم، أي اختلط بهم واختفى بينهم – وغمار- كما في اللسان – بضم الغين وبفتحها.
[2052]:- يقال: غَلَت القِدر، ولا يقال: غَلِيت القِدر، وقد قيل في ذلك: ولا أقول لقِدْر القَـوْم قد غَلِيَــتْ ولا أقول لباب الدّار مَغْلُــوقُ وفي الزمخشري ما نصه: والخمر ما غلي واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه، ثم غلي واشتد ذهب خَبَثُه ونصيبُ الشيطان، وحلَّ شُرب ما دون المُسْكر إلخ. تأمل. وحاصل مذهب الإمام مالك رحمه الله هو قول أبي الوليد الباجي عند قول الموطأ: (قال مالك: السّنة عندنا أن كل من شرب شرابا مُسْكرا فسكر أو لم يسكر فقد وجب عليه الحد، سكر أو لم يسكر، هذا مذهب أهل المدينة مالك وغيره وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: ما خرج من النخل والكرم فقليله وكثيره حرام ما لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، وما عدا ما يخرج من النخل والكرم فهو حلال من غير طبخ إلا أن المسكر منه حرام. وهذه مسألة قد كان أصحاب أبي حنيفة يجحدونها ولا يرون المناظرة فيها، ويقولون: إن السائل عنها إنما يذهب إلى التشنيع والتوبيخ، وذلك أنه لطول الأمد ووصول الأدلة إليهم وتكررها عليهم تبين لهم ما فيها، إلا أنهم –مع ذلك- يدونونها في كتبهم بألفاظ ليس فيها ذلك التصريح، ويتأولونها على أوجه تحقق أمرها عندهم، ولنا في هذه المسألة طريقان أحدهما: إثبات اسم الخمر لكل مسكر، والثاني: إثبات التحريم لكل مسكر، فأما الأول فإن مذهب مالك والشافعي أن اسم الخمر يقع على كل شراب مسكر من عنب كان أو من غيره، وقال أبو حنيفة: إنما الخمر اسم المسكر من عصير العنب ما لم يطبخ الطبخ المذكور، والدليل على ما نقوله ما روي عن ابن عمر أنه قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء – العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل». فوجه الدليل من هذا الخبر أن عمر بن الخطاب قال: إن الخمر يكون من هذه الخمسة أشياء، وعمر من أهل اللسان، فلو انفرد بهذا القول لاحتج بقوله، فكيف وقد خطب بذلك بحضرة قريش والعرب والعجم وسائر المسلمين فلم ينكر ذلك عليه ؟ فثبت أنه إجماع، ووجه آخر وهو أنه قال: «والخمر ما خامر العقل»، فكل ما خامر العقل فإنه يسمى الخمر، والدليل على أن كل مسكر حرام قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟] فلنا من الآية أدلة بيّنها وأنهاها إلى خمسة – وقال متصلا بذلك ما نصه: «ودليلنا من السنة ما رواه أبو داود عن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). ودليلنا من جهة القياس أن هذا شراب فيه شدة مطربة فوجب أن يكون قليله حراما أصله عصير العنب والله أعلم» اهـ. فتأمل مذهب مالك رحمه الله، ومذهب أبي حنيفة، وتدبر قول ابن عطية: «ولم يطبخ»، فإن مالكا رحمه الله لا ينظر إلا إلى السكر، ومعنى قوله: «طبخ حتى ذهب منه الثلثان» أنه طبخ حتى ذهبت مائيته التي يسرع بها تغيّره، ويحدث بها فساده، ثم إن قول عمر رضي الله عنه: «والخمر ما خامر العقل، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية إذا فرضنا أن الخمر لغة هو ما يُتَّخذ من العنب، وحاصل الأمر أن الخمر محرمة بجميع أنواعها وأجناسها، اتخذت من العنب أو من غيره، لا فرق بين القليل والكثير منها، لأن العلة هي الخمرية، وليست المادة التي يحصل بها السكر كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) رواه الإمام مسلم وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). أي من دون أن تمسه النار، فعصير العنب حين يغلي ويقذف بالزبد من دون ذلك اتفق الفقهاء على أنه خمر. تنبيه: اشتهر بين أهل الأدب قول ابن الرومي: أحلَ العِـراقِيُّ النبيذَ وشُرْبَـهُ وقال: حَرامَانِ المُدَامَةُ والسُّكْـرُ وقال الحِجَازِيّ الشّرابانِ واحدٌ فحلَّتْ لنا منْ بيْنِ قَوْلَيهما الخمرُ أراد أن الخمر نبيذ، والنبيذ حلال، فالصغرى من المالكية، والكبرى من الحنفية، إلا أن الكبرى شرطها أن تكون كلية، والحنفية يخصون ذلك بالقدر الذي لم يسكر.
[2053]:- قال أبو عبد الله (ق): لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة فحرم كله قياسا على الميسر فكذلك الخمر هو من ماء العنب، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه.
[2054]:- أي القياس على خمر العنب، وكما يرده النظر يردّه الخبر الذي ذكره ابن عطية على الأثر وهو: (ما أسْكر كثيره فقليله حرام).
[2055]:- هذا رواه أصحاب السنن، وقوله: (كلّ مسكر خمر وكل خمر حرام) رواه الإمام مسلم، والدارقطني، ورواه الشيخان، وأصحاب السنن بلفظ: (كل مسكر خمر وكلّ مسكر حرام).
[2056]:- أي أول ما نزل في أمر الخمر وتحريمها.
[2057]:- من الآية (43) من سورة (النساء) وقد جعل الله في هذه الآية الكريمة الغاية التي يزول بها حكم السكران: أن يعلم ما يقول، فمتى لم يعلم ما يقول فهو في حال سكر، وإذا علم ما يقول فقد خرج عن حكم السكر. وهذا هو حد السكران عند جمهور اهل العلم، قيل للإمام أحمد رحمه الله: بماذا يعلم أنه سكران ؟ فقال: «إذا لم يعرف ثوبه من ثوب غيره، ونعله من نعل غيره»، ويذكر عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: «إذا اختلط كلامه المنظوم، وأفشى سره المكتوم». وقد حرم الله سبحانه السكر لشيئين ذكرهما في كتابه بقوله: [إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون] ؟ فأخبر سبحانه أن الخمر يوجب المفسدة الناشئة من النفس بوساطة زوال العقل، ويمنع المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل.
[2058]:- الآيتان من سورة (المائدة) – الأولى رقم (91) والثانية رقم (90).
[2059]:- يعني أن مرادهم بالآية المنسوخة قوله تعالى: [ومنافع للناس] لما في ذلك من مظنة الإباحة والترخيص.
[2060]:- يقال الميسر للسهام المعروفة، وذلك قمار العرب، كما يقال للجزور التي ينحرونها ويجَزِّؤونها على حساب الميسر، فاسم الميسر يطلق على السهام وعلى الجزور.
[2061]:- هو الأخطل والبيت من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان.
[2062]:- الشاعر هو: سحيم بن وثيل اليربوعي، أو: جابر بن سحيم، وقوله ييسرونني أي: يَجْزُرُونَنِي ويقتسمونني إذ كان قد وقع عليه سباءٌ فضرب عليه بالسهام، وقوله: (ألم تيأسوا)، أي: ألم تعلموا أني ابن فارس زَهْدَم أي ابن راكب الفرس المسمّى بزَِهْدَم. والشعب بكسر الشين المشدودة مكان، واليأس بمعنى العلم. وزهدم اسم فرس مشهور، أي: ألم تعلموا أني ابن ذلك البطل الشجاع والفارس الذي يركب تلك الفرس – والاستفهام للتوبيخ أو للتقرير.
[2063]:- لقوله كما في تفسير الإمام (ط) رحمه الله: وإنما سمي المَيْسر لقولهم: أيسروا وأجزروا. ا هـ.
[2064]:- أي سهام المَيْسر السبعة، وأكثرها حظا المُعَلى، وأقلها حظّا الفذّ.
[2065]:- بضم الحاء وسكون الراء: أمين المقامرين، وهو الذي يخرج السهام من الربابة بعد أن يحركها مرتين أو ثلاثا. ويسمى أيضا المجيل والضارب والضريب.
[2066]:- ذكر الأصمعي أنهم كانوا يسمون الجزور على قدر حظوظ السهام وهي ثمانية وعشرون حظا. والحق أنها كانت تقسم على عدد السهام وهي عشرة، سبعة ذات حظوظ وثلاثة لا حظوظ لها، وهذا هو ما أشار إليه ابن عطية رحمه الله، وقد أصاب في اعتراضه على الأصمعي والله أعلم.
[2067]:- وفي رواية: (المطْعِمُ اللحم).
[2068]:- البيت لعمرو بن قمئة، والمقرومة الناقة التي لها قرم أي وسم بأنفها، وفي رواية بدل العفاة "العيال"، والمغالق وصف للسهام التي يكون لها الفوز.
[2069]:- المنيح قسمان: أحدهما قدح لا نصيب له، وثانيهما قدح يستعار تيمّنا بفوزه، فهو مستنيح أي مطلوب منه أن يمنح، وهذا هو المشار إليه في البيت.
[2070]:- البيت من قصيدة للأخطل يهجو بها جريراً، انظر ديوان الأخطل، ومطلعها: كَذَبَتْكَ عَيْيُكَ أو رأيْتَ بِوَاسِطٍ
[2071]:- أي إذا ضربوا الميسر لم يضربوها لأنفسهم بل لغيرهم، وقوله: ينعي ذكرها إلخ أي يرفع ذكرها في مجالس الصيف، وقد نسبه صاحب المفضليات إلى المرقش الأكبر من جملة قصيدة تحتوي على 16 بيتاً.
[2072]:- يعني أنه يعود على فقراء الحي بالنفع ولا سيما في شدة البرد وضيق الوقت، وكان العرب يفتخرون بالميسر لهذا الغرض ويذمون من لا يدخل فيه ويسمونه البرم.
[2073]:- قال الإمام مالك رحمه الله: الميسر ميسران – ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار ما يتخاطر الناس عليه فكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء.
[2074]:- سبق أن نبهنا إلى أن هذه الكلمة غير فصيحة، ولا تجري على قواعد اللغة، ولكنها كانت شائعة الاستعمال في بلاد المغرب.
[2075]:- النهنهة: الكفّ والزجر – يقال: نهنه فلانا عن الشيء كفَّه عنه زجره.
[2076]:- معنى إثم كبير: مضرة كبيرة، وعبَّر عن ذلك بالإثم الكبير لأنها تلزمه، ولقد أخبر سبحانه أن في الخمر مضرة ومنفعة، وكان القياس إذا أُريد انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم الكثير ويباح القليل من الخمر، ولكن لما غلب جانب المضرة على جانب المنفعة علمنا أن الخمر يحرم قليلها وكثيرها، وهذا ما أجمع عليه علماء الإٍسلام، وقد تقرر في أصول الشريعة أن المفسدة إذا أرْبت على المصلحة فالحكم للمفسدة ومِنْ ثمَّ رتب الشارع الحدَّ على الشرب، لا على زوال العقل. ومن مفاسدها: ذهاب العقل والدين وهما كل شيء، والسباب، والافتراء والإفحاش والتعدي الذي يكون من شاربها، ولا تسل عن الشرور التي تنشأ عنها: كقتل النفوس. والذي أدمن عليها ربما يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله، وقد جاء أن من أدمن الخمر كعابد وثن.
[2077]:- قوله تعالى: [لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكَارى] الخ من الآية (43) من سورة (النساء). وقوله تعالى: [إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه] الخ من الآية (90) من سورة المائدة.
[2078]:- من الآية (33) من سورة (الأعراف).
[2079]:- ولا ينفاي ذلك قول الشاعر: شَربْتُ الإثْم حتى ضلَّ عَقْلِـي كذاكَ الإثمُ يذهب بالعُقُــول لأن الله سبحانه لم يسمها في الآية إثما، وإنما قال: (فيهما إثم كبير) فما قاله ابن عطية رحمه الله صحيح وواضح.
[2080]:- الظاهر أنها محكمة، وأنها في نفقة التطوع كما قرره شيخ التفسير الإمام (ط) رحمه الله.
[2081]:- روى أبو داود حديث (إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى ذي قرابته أو ذوي رحمه، وإن كان فضل فها هنا وها هنا). وروى الإمام مسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: أعتق رجل عبداً له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله فقال: (ألك مال غيره ؟ فقال لا. فقال: من يشتريه مني ؟ فاشتراه بعضهم بثمانمائة درهم. فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك)، وهو كناية عن تكثير الصدقة وتنويع جهاتها.
[2082]:- رواه البخاري ومسلم في رواية: (خير الصدقة عن ظهر غنى) ورواية: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) رواها الإمام أحمد، وعلقه البخاري في الوصايا. ورواية: (خير الصدقة ما أبقت غنى) رواها الطبراني عن ابن عباس في المعجم الكبير كما في الجامع الصغير وهي تفسير لقوله: (خير الصدقة عن ظهر غنى) كما قاله الإمام الخطابي، ورواية: (أفضل الصدقة ما ترك غنى) رواها البخاري وأحمد رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2083]:- يعني أنه رُوي عنه الرفع ورُوي عنه النصب.
[2084]:- أي اختلاف القراءتين بالرفع والنصب.
[2085]:- هذا أحسن مما قبله من وجهين أحدهما: أن المحدث عنه (ماذا ينفقون) فاللائق أن يكون العفو خبراً عن الذي ينفقونه، وثانيهما، أن تقدير الخبر مصدراً غير لائق، لأن السؤال ليس واقعا عنه. واعلم أنه يجوز من دون ضعف رفع (العفو) مع نصب (ماذا)، ونصبه مع رفع (ماذا)، وإنما الذي يفوت هو حسن تناسب الجملتين في كونهما اسميتين أو فعليتين.
[2086]:- أي مرتبط بها، وليس المراد التعلق المصطلح عليه عند النحاة كما هو ظاهر.