111- وقد أوحينا إليك ما أوحينا من قصص الأنبياء ، تثبيتا لفؤادك ، وهداية لقومك ، وأودعناه من العبر والعظات ما يستنير به أصحاب العقول والفطن ويدركون أن القرآن حق وصدق ، فما كان حديثاً مختلقاً ولا أساطير مفتراة ، وإنما هو حق ووحي ، ويؤكد صدق ما سبق من كتب السماء ومن جاء بها من الرسل ، ويبين كل ما يحتاج إلى تفصيله من أمور الدين ، ويهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ويفتح أبواب رحمة اللَّه لمن اهتدى بهديه وكان من المؤمنين الصادقين .
قوله تعالى : { لقد كان في قصصهم } أي : في خبر يوسف وإخوته ، { عبرة } عظة { لأولي الألباب ما كان } يعني : القرآن { حديثاً يفترى } أي : يختلق ، { ولكن تصديق الذي } أي : ولكن كان تصديق الذي { بين يديه } ، من التوراة والإنجيل ، { وتفصيل كل شيء } ، مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والأمر والنهي ، { وهدىً ورحمةً } ، بيانا ونعمة { لقوم يؤمنون } .
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } أي : قصص الأنبياء والرسل مع قومهم ، { عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي : يعتبرون بها ، أهل الخير وأهل الشر ، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة ، ويعتبرون بها أيضا ، ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة ، وأنه الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له .
وقوله : { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } أي : ما كان هذا القرآن الذي قص الله به عليكم من أنباء الغيب ما قص من الأحاديث المفتراة المختلقة ، { وَلَكِنْ } كان { تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب السابقة ، يوافقها ويشهد لها بالصحة ، { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه ، ومن الأدلة والبراهين .
{ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإنهم - بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره - يحصل لهم الهدى ، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل تحصل لهم الرحمة .
في ذكر شيء من العبر والفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال الله في أولها { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } وقال { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ } وقال في آخرها { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد .
فمن ذلك ، أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها ، لما فيها من أنواع التنقلات ، من حال إلى حال ، ومن محنة إلى محنة ، ومن محنة إلى منحة ومنَّة ، ومن ذل إلى عز ، ومن رقٍّ إلى ملك ، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف ، ومن حزن إلى سرور ، ومن رخاء إلى جدب ، ومن جدب إلى رخاء ، ومن ضيق إلى سعة ، ومن إنكار إلى إقرار ، فتبارك من قصها فأحسنها ، ووضحها وبيَّنها .
ومنها : أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا ، وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده ، وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة ، فإن رؤيا يوسف التي رأى أن الشمس والقمر ، وأحد عشر كوكبا له ساجدين ، وجه المناسبة فيها : أن هذه الأنوار هي زينة السماء وجمالها ، وبها منافعها ، فكذلك الأنبياء والعلماء ، زينة للأرض وجمال ، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بهذه الأنوار ، ولأن الأصل أبوه وأمه ، وإخوته هم الفرع ، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نورا وجرما ، لما هو فرع عنه . فلذلك كانت الشمس أمه ، والقمر أباه ، والكواكب إخوته .
ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث ، فلذلك كانت أمه ، والقمر والكوا كب مذكرات ، فكانت لأبيه وإخوته ، . ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له ، والمسجود [ له ] معظم محترم ، فلذلك دل ذلك على أن يوسف يكون معظما محترما عند أبويه وإخوته .
ومن لازم ذلك أن يكون مجتبى مفضلا في العلم والفضائل الموجبة لذلك ، ولذلك قال له أبوه : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } ومن المناسبة في رؤيا الفتيين ، أنه أول رؤيا ، الذي رأى أنه يعصر خمرا ، أن الذي يعصر في العادة ، يكون خادما لغيره ، والعصر يقصد لغيره ، فلذلك أوَّله بما يؤول إليه ، أنه يسقي ربه ، وذلك متضمن لخروجه من السجن .
وأوَّل الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، بأن جلدة رأسه ولحمه ، وما في ذلك من المخ ، أنه هو الذي يحمله ، وأنه سيبرز للطيور ، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه ، فرأى من حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه ، وذلك لا يكون إلا بالصلب بعد القتل .
وأوَّل رؤيا الملك للبقرات والسنبلات ، بالسنين المخصبة ، والسنين المجدبة ، ووجه المناسبة أن الملك ، به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها ، وبصلاحه تصلح ، وبفساده تفسد ، وكذلك السنون بها صلاح أحوال الرعية ، واستقامة أمر المعاش أو عدمه .
وأما البقر فإنها تحرث الأرض عليها ، ويستقى عليها الماء ، وإذا أخصبت السنة سمنت ، وإذا أجدبت صارت عجافا ، وكذلك السنابل في الخصب ، تكثر وتخضر ، وفي الجدب تقل وتيبس وهي أفضل غلال الأرض .
ومنها : ما فيها من الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث قصَّ على قومه هذه القصة الطويلة ، وهو لم يقرأ كتب الأولين ولا دارس أحدا .
يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء ، وهو أمِّيٌّ لا يخط ولا يقرأ ، وهي موافقة ، لما في الكتب السابقة ، وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون .
ومنها : أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر ، وكتمان ما تخشى مضرته ، لقول يعقوب ليوسف { يا بني لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } ومنها : أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله : { فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا }
ومنها : أن نعمة الله على العبد ، نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه ، وأنه ربما شملتهم ، وحصل لهم ما حصل له بسببه ، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ } ولما تمت النعمة على يوسف ، حصل لآل يعقوب من العز والتمكين في الأرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب يوسف .
ومنها : أن العدل مطلوب في كل الأمور ، لا في معاملة السلطان رعيته ولا فيما دونه ، حتى في معاملة الوالد لأولاده ، في المحبة والإيثار وغيره ، وأن في الإخلال بذلك يختل عليه الأمر ، وتفسد الأحوال ، ولهذا ، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة وآثره على إخوته ، جرى منهم ما جرى على أنفسهم ، وعلى أبيهم وأخيهم .
ومنها : الحذر من شؤم الذنوب ، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة ، ولا يتم لفاعله إلا بعدة جرائم ، فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه ، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل ، وكذبوا عدة مرات ، وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه ، وفي إتيانهم عشاء يبكون ، ولا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها في تلك المدة ، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف ، وكلما صار البحث ، حصل من الإخبار بالكذب ، والافتراء ، ما حصل ، وهذا شؤم الذنب ، وآثاره التابعة والسابقة واللاحقة .
ومنها : أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية ، لا بنقص البداية ، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر ، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم ، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح ، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم ، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ، وإذا سمح العبد عن حقه ، فالله خير الراحمين .
ولهذا - في أصح الأقوال - أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم ، ومما يدل على ذلك أن في رؤيا يوسف ، أنه رآهم كواكب نيرة ، والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات الأنبياء ، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة .
ومنها : ما منَّ الله به على يوسف عليه الصلاة والسلام من العلم والحلم ، ومكارم الأخلاق ، والدعوة إلى الله وإلى دينه ، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به ، وتمم ذلك بأن لا يثرب عليهم ولا يعيرهم به .
ثم برُّه العظيم بأبويه ، وإحسانه لإخوته ، بل لعموم الخلق .
ومنها : أن بعض الشر أهون من بعض ، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما ، فإن إخوة يوسف ، لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضا ، وقال قائل منهم : { لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } كان قوله أحسن منهم وأخف ، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير .
ومنها : أن الشيء إذا تداولته الأيدي وصار من جملة الأموال ، ولم يعلم أنه كان على غير وجه الشرع ، أنه لا إثم على من باشره ببيع أو شراء ، أو خدمة أو انتفاع ، أو استعمال ، فإن يوسف عليه السلام باعه إخوته بيعا حراما لا يجوز ، ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها ، وبقي عند سيده غلاما رقيقا ، وسماه الله شراء{[450]} ، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم .
ومنها : الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة ، والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها ، فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى ، بسبب توحّدها بيوسف ، وحبها الشديد له ، الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة ، ثم كذبت عليه ، فسجن بسببها مدة طويلة .
ومنها : أن الهمَّ الذي همَّ به يوسف بالمرأة ثم تركه لله ، مما يقربه إلى الله زلفى ، لأن الهمّ داع من دواعي النفس الأمارة بالسوء ، وهو طبيعة لأغلب الخلق ، فلما قابل بينه وبين محبة الله وخشيته ، غلبت محبة الله وخشيته داعي النفس والهوى . فكان ممن { خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، أحدهم : " رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله " وإنما الهم الذي يلام عليه العبد ، الهم الذي يساكنه ، ويصير عزما ، ربما اقترن به الفعل .
ومنها : أن من دخل الإيمان قلبه ، وكان مخلصا لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه ، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله . { وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } على قراءة من قرأها بكسر اللام ، ومن قرأها بالفتح ، فإنه من إخلاص الله إياه ، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه ، فلما أخلص عمله لله أخلصه الله ، وخلصه من السوء والفحشاء .
ومنها : أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية ، أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه ، ليتمكن من التخلص من المعصية ، لأن يوسف عليه السلام -لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا ، يطلب الباب ليتخلص من شرها ، ومنها : أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه ، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار ، فما يصلح للرجل فإنه للرجل ، وما يصلح للمرأة فهو لها ، إذا لم يكن بينة ، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة ، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر ، من هذا الباب ، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة ، وحكم بها في قد القميص ، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها .
ومما يدل على هذه القاعدة ، أنه استدل بوجود الصُّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة ، من غير بينة شهادة ولا إقرار ، فعلى هذا إذا وجد المسروق في يد السارق ، خصوصا إذا كان معروفا بالسرقة ، فإنه يحكم عليه بالسرقة ، وهذا أبلغ من الشهادة ، وكذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر ، أو وجود المرأة التي لا زوج لها ولا سيد ، حاملا فإنه يقام بذلك الحد ، ما لم يقم مانع منه ، ولهذا سمى الله هذا الحاكم شاهدا فقال : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا }
ومنها : ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن ، . فإن جماله الظاهر ، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب ، وللنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن { مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } وأما جماله الباطن ، فهو العفة العظيمة عن المعصية ، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها ، وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته ، ولهذا قالت امرأة العزيز : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } وقالت بعد ذلك : { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } وقالت النسوة : { حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ }
ومنها : أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية ، فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين - إما فعل معصية ، وإما عقوبة دنيوية - أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة ، ولهذا من علامات الإيمان ، أن يكره العبد أن يعود في الكفر ، بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار .
ومنها : أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله ، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية ، ويتبرأ من حوله وقوته ، لقول يوسف عليه السلام : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
ومنها : أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير ، وينهيانه عن الشر ، وأن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس ، وإن كان معصية ضارا لصاحبه .
ومنها : أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء ، فعليه عبودية له في الشدة ، ف " يوسف " عليه السلام لم يزل يدعو إلى الله ، فلما دخل السجن ، استمر على ذلك ، ودعا الفتيين إلى التوحيد ، ونهاهما عن الشرك ، ومن فطنته عليه السلام أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته ، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا له : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما ، فرآهما متشوفين لتعبيرها عنده - رأى ذلك فرصة فانتهزها ، فدعاهما إلى الله تعالى قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده ، وأقرب لحصول مطلوبه ، وبين لهما أولا ، أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها من الكمال والعلم ، إيمانه وتوحيده ، وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهذا دعاء لهما بالحال ، ثم دعاهما بالمقال ، وبين فساد الشرك وبرهن عليه ، وحقيقة التوحيد وبرهن عليه .
ومنها : أنه يبدأ بالأهم فالأهم ، وأنه إذا سئل المفتي ، وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله ، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته ، وحسن إرشاده وتعليمه ، فإن يوسف - لما سأله الفتيان عن الرؤيا - قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له .
ومنها : أن من وقع في مكروه وشدة ، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه ، أو الإخبار بحاله ، وأن هذا لا يكون شكوى للمخلوق ، فإن هذا من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض ، ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ }
ومنها : أنه ينبغي ويتأكد على المعلم استعمال الإخلاص التام في تعليمه وأن لا يجعل تعليمه وسيلة لمعاوضة أحد في مال أو جاه أو نفع ، وأن لا يمتنع من التعليم ، أو لا ينصح فيه ، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم ، فإن يوسف عليه السلام قد قال ، ووصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه ، فلم يذكره ونسي ، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى ، وجاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا ، فلم يعنفه يوسف ، ولا وبخه ، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله جوابا تاما من كل وجه .
ومنها : أنه ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله ، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه ، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته ، وحسن إرشاده ، فإن يوسف عليه السلام لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك ، بل دلهم - مع ذلك - على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات من كثرة الزرع ، وكثرة جبايته .
ومنها : أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه ، وطلب البراءة لها ، بل يحمد على ذلك ، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، ومنها : فضيلة العلم ، علم الأحكام والشرع ، وعلم تعبير الرؤيا ، وعلم التدبير والتربية ؛ وأنه أفضل من الصورة الظاهرة ، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف ، فإن يوسف - بسبب جماله - حصلت له تلك المحنة والسجن ، وبسبب علمه حصل له العز والرفعة والتمكين في الأرض ، فإن كل خير في الدنيا والآخرة من آثار العلم وموجباته .
ومنها : أن علم التعبير من العلوم الشرعية ، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه ، وأن تعبير المرائي داخل في الفتوى ، لقوله للفتيين : { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } وقال الملك : { أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } وقال الفتى ليوسف : { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ } الآيات ، . فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم .
ومنها : أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل ، إذا كان في ذلك مصلحة ، ولم يقصد به العبد الرياء ، وسلم من الكذب ، لقول يوسف : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } وكذلك لا تذم الولاية ، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده ، وأنه لا بأس بطلبها ، إذا كان أعظم كفاءة من غيره ، وإنما الذي يذم ، إذا لم يكن فيه كفاية ، أو كان موجودا غيره مثله ، أو أعلى منه ، أو لم يرد بها إقامة أمر الله ، فبهذه الأمور ، ينهى عن طلبها ، والتعرض لها .
ومنها : أن الله واسع الجود والكرم ، يجود على عبده بخير الدنيا والآخرة ، وأن خير الآخرة له سببان : الإيمان والتقوى ، وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها ، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه ، ويشوقها لثواب الله ، ولا يدعها تحزن إذا رأت أهل الدنيا ولذاتها ، وهي غير قادرة عليها ، بل يسليها بثواب الله الأخروي ، وفضله العظيم لقوله تعالى : { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
ومنها : أن جباية الأرزاق - إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم - لا بأس بها ، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة في السنين المخصبات ، للاستعداد للسنين المجدبة ، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله ، بل يتوكل العبد على الله ، ويعمل بالأسباب التي تنفعه في دينه ودنياه .
ومنها : حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الأرض ، حتى كثرت عندهم الغلات جدا حتى صار أهل الأقطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها ، لعلمهم بوفورها فيها ، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل ، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله .
ومنها : مشروعية الضيافة ، وأنها من سنن المرسلين ، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ }
ومنها : أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم ، فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة ، ثم قال لهم بعد ما أتوه ، وزعموا أن الذئب أكله { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا } وقال لهم في الأخ الآخر : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } ثم لما احتبسه يوسف عنده ، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا } فهم في الأخيرة - وإن لم يكونوا مفرطين - فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن قال ما قال ، من غير إثم عليه ولا حرج .
ومنها : أن استعمال الأسباب الدافعة للعين أوغيرها من المكاره ، أو الرافعة لها بعد نزولها ، غير ممنوع ، بل جائز ، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر ، فإن الأسباب أيضا من القضاء والقدر ، لأمر يعقوب حيث قال لبنيه : { يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ }
ومنها : جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق ، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد ، وإنما الممنوع ، التحيل على إسقاط واجب ، أو فعل محرم .
ومنها : أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره ، بأمر لا يحب أن يطلع عليه ، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب ، كما فعل يوسف حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه ، ثم استخرجها منه ، موهما أنه سارق ، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته ، وقال بعد ذلك : { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } ولم يقل " من سرق متاعنا " وكذلك لم يقل " إنا وجدنا متاعنا عنده " بل أتى بكلام عام يصلح له ولغيره ، وليس في ذلك محذور ، وإنما فيه إيهام أنه سارق ليحصل المقصود الحاضر ، وأنه يبقى عند أخيه{[451]} وقد زال عن الأخ هذا الإيهام بعد ما تبينت الحال .
ومنها : أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه ، وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به ، وتطمئن إليه النفس لقولهم : { وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا }
ومنها : هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلام ، حيث قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف ، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة ، ويحزنه ذلك أشد الحزن ، فحصل التفريق بينه وبينه مدة طويلة ، لا تقصر عن خمس عشرة سنة ، ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } ثم ازداد به الأمر شدة ، حين صار الفراق بينه وبين ابنه الثاني شقيق يوسف ، هذا وهو صابر لأمر الله ، محتسب الأجر من الله ، قد وعد من نفسه الصبر الجميل ، ولا شك أنه وفى بما وعد به ، ولا ينافي ذلك ، قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } فإن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ، وإنما الذي ينافيه ، الشكوى إلى المخلوقين .
ومنها : أن الفرج مع الكرب ؛ وأن مع العسر يسرا ، فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى أنهى ما يكون ، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب ومسهم الضر ، أذن الله حينئذ بالفرج ، فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارا ، فتم بذلك الأجر وحصل السرور ، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء ، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم ، ويزداد - بذلك - إيمانهم ويقينهم وعرفانهم .
ومنها : جواز إخبار الإنسان بما يجد ، وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما ، على غير وجه التسخط ، لأن إخوة يوسف قالوا : { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } ولم ينكر عليهم يوسف .
ومنها : فضيلة التقوى والصبر ، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثار التقوى والصبر ، وأن عاقبة أهلهما ، أحسن العواقب ، لقوله : { قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }
ومنها : أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة بعد شدة وفقر وسوء حال ، أن يعترف بنعمة الله عليه ، وأن لا يزال ذاكرا حاله الأولى ، ليحدث لذلك شكرا كلما ذكرها ، لقول يوسف عليه السلام : { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ }
ومنها : لطف الله العظيم بيوسف ، حيث نقله في تلك الأحوال ، وأوصل إليه الشدائد والمحن ، ليوصله بها إلى أعلى الغايات ورفيع الدرجات .
ومنها : أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائما في تثبيت إيمانه ، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك ، ويسأل الله حسن الخاتمة ، وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }
فهذا ما يسر الله من الفوائد والعبر في هذه القصة المباركة ، ولا بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير ذلك .
فنسأله تعالى علما نافعا وعملا متقبلا ، إنه جواد كريم .
تم تفسير سورة يوسف وأبيه وإخوته عليهم الصلاة والسلام ، والحمد لله رب العالمين .
ثم ختم - سبحانه - هذه السورة الكريمة بقوله : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } أى : لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام وما جرى لهم من أقوامهم ، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة ، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وأحكام ، وآداب وهدايات .
و { مَا كَانَ } هذا المقصوص في كتاب الله - تعالى - { حَدِيثاً يفترى } أى يختلق .
{ ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب السابقة عليه ، كالتوراة والإِنجيل والزبور ، فهو المهيمن على هذه الكتب ، والمؤيد لما فيها من أخبار صحيحة ، والمبين لما وقع فيها من تحريف وتغيير ، والحاكم عليها بالنسخ أو بالتقرير .
{ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } أى : وكان في هذا الكتاب - أيضاً - تفصيل وتوضيح كل شئ من الشرائع المجملة التي تحتاج إلى ذلك .
{ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أى : وكان هداية تامة ، ورحمة شاملة ، لقوم يؤمنون به ، ويعملون بما فيه من أمر ونهى ، وينتفعون بما اشتمل عليه من وجوه العبر والعظات .
وبعد : فهذا تفسير لسورة يوسف - عليه السلام - تلك السورة الزاخرة بالحكم والأحكام ، وبالآداب والأخلاق ، وبالمحاورات والمجادلات ، وبأحوال النفوس البشرية في حبها وبغضها ، وعسرها ويسرها ، وخيرها وشرها . وعطائها ومنعها وسرها وعلانيتها ، ورضاها وغضبها ، وحزنها وسرورها .
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد . في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن . وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس . . ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا - كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب - وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين . فيها عبرة لمن يعقل ، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل ، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب . فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثا مفترى . فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية ، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة :
( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .
وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة ، كما توافق المطلع والختام في القصة . وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها ، وبين ثناياها ، متناسقة مع موضوع القصة ، وطريقة أدائها ، وعباراتها كذلك . فتحقق الهدف الديني كاملا ، وتحقق السمات الفنية كاملة ، مع صدق الرواية ، ومطابقة الواقع في الموضوع .
وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة ، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء . فهي رؤيا تتحقق رويدا رويدا ، ويوما بعد يوم ، ومرحلة بعد مرحلة . فلا تتم العبرة بها - كما لا يتم التنسيق الفني فيها - إلا بأن يتابع السياق خطوات القصة ومراحلها حتى نهايتها . وإفراد حلقة واحدة منها في موضع لا يحقق شيئا من هذا كله كما يحققه إفراد بعض الحلقات في قصص الرسل الآخرين . كحلقة قصة سليمان مع بلقيس . أو حلقة قصة مولد مريم . أو حلقة قصة مولد عيسى . أو حلقة قصة نوح والطوفان . . . الخ فهذه الحلقات تفي بالغرض منها كاملا في مواضعها . أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها ، من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم :
( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن . وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) .
يقول تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف أنجينا{[15404]} المؤمنين وأهلكنا الكافرين { عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ } وهي العقول ، { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } أي : وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله ، أي : يكذب ويُختلق ، { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة من السماء ، وهو يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير ، { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } من تحليل وتحريم ، ومحبوب ومكروه ، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات ، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات ، والإخبار عن الأمور على الجلية ، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية ، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات ، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات ، فلهذا كان : { هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد ، ومن الضلالة إلى السداد ، ويبتغون به الرحمة من رب العباد ، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد . فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة ، يوم يفوز بالربح المُبْيَضَّة وجوههم الناضرة ، ويرجع{[15405]} المسودَّة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة .
آخر تفسير سورة يوسف ، ولله الحمد والمنة وبه المستعان وعليه التكلان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
{ لقد كان في قصصهم } في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته { عبرة لأولي الألباب } لذوي العقول - المبرأة من شوائب الإلف والركون إلى الحس . { ما كان حديثا يُفترى } ما كان القرآن حديثا يفترى . { ولكن تصديق الذي بين يديه } من الكتب الإلهية . { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط . { وهدى } من الضلال . { ورحمة } ينال بها خير الدارين . { لقوم يؤمنون } يصدقونه .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 111 )
الضمير في { قصصهم } عام ليوسف وأبويه وإخوته وسائر الرسل الذين ذكروا على الجملة ، ولما كان ذلك كله في القرآن قال عنه { ما كان حديثاً يفترى }{[6871]} فإذا تأملت قصة يوسف ظهر أن في غرائبها وامتحان الله فيها لقوم في مواضع ، ولطفه لقوم في مواضع ، وإحسانه لقوم في مواضع ، معتبراً لمن له لب وأجاد النظر ، حتى يعلم أن كل أمر من عند الله وإليه .
وقوله : { ما كان } صيغة منع ، وقرينه الحال تقتضي أن البرهان يقوم على أن ذلك لا يفترى ، وذلك بأدلة النبوءة وأدلة الإعجاز ، و «الحديث » - هنا - واحد الأحاديث ، وليس للذي هو خلاف القديم ها هنا مدخل .
ونصب { تصديقَ } إما على إضمار معنى كان ، وإما على أن تكون { لكن } بمعنى لكن المشددة .
وقرأ عيسى الثقفي{[6872]} «تصديقُ » بالرفع ، وكذلك كل ما عطف عليه ، وهذا على حذف المبتدأ ، التقدير : هو تصديق{[6873]} . وقال أبو حاتم : النصب على تقدير : ولكن كان ، والرفع على : ولكن هو . وينشد بيت ذي الرمة بالوجهين :
وما كان مالي من تراث ورثته*** ولا دية كانت ولا كسي مأثم
ولكن عطاءُ الله من كل رحلة*** إلى كل محجوب السرادق خضرم{[6874]}
و { الذي بين يديه } هو التوراة والإنجيل ، والضمير في { يديه } عائد على القرآن ، وهم اسم كان . وقوله : { كل شيء } يعني من العقائد والأحكام والحلال والحرام . وباقي الآية بين .
هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملة { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [ سورة يوسف : 102 ] وهي تتنزّل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله : { ذلك من أنباء الغيب } من التعجيب ، وما تضمنه معنى { وما كنتَ لديهم } من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية .
وهي أيضاً تتنزل منزلة التذييل للجمل المستطرد بها لقصد الاعتبار بالقصة ابتداء من قوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } [ يوسف : 103 ] .
فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز .
وتأكيد الجملة ب ( قد ) واللام للتحقيق .
وأولو الألباب : أصحاب العقول . وتقدم في قوله : { واتقون يا أولي الألباب } في أواسط سورة البقرة ( 197 ) .
والعِبرة : اسم مصدر للاعتبار ، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب وتطلق العِبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا . ومعنى كون العبرة في قصصهم أنها مظروفة فيه ظرفية مجازية ، وهي ظرفية المدلول في الدليل فهي قارة في قصصهم سواء اعتَبر بها من وُفّق للاعتبار أم لم يعتبر لها بعضُ الناس .
وجملة { ما كان حديثا يفترى } إلى آخرها تعليل لجملة { لقد كان في قصصهم عبرة } أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة . ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبراً عن أمر وقع ، لأن ترتب الآثار على الواقعات رتّب طبيعي فمِن شأنها أن تترتب أمثالُها على أمثالها كلما حصلت في الواقع ، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر وذلك بخلاف القصص الموضوعة بالخيال والتكاذيب فإنها لا يحصل بها اعتبار لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يُعهد ، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغُول عند العرب وقصة رستم وأسفنديار عند العجم ، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخيالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها إلاّ على سبيل الفرص والاحتمال وذلك لا تحتفظ به النفوس .
وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورة { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف : 3 ] فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضاً بالنضر بن الحارث وأضرابه .
والافتراء تقدم في قوله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود ( 103 ) .
و{ الذي بين يديه } : الكتب الإلهية السابقة . وضمير بين { يديه } عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص .
والتفصيل : التبيين . والمراد ب { كل شيء } الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص .
وإطلاق الكل على الكثرة مضى عند قوله تعالى : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } في سورة الأنعام ( 31 ) .
والهُدى الذي في القصص : العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى ، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة ، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم ، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون ، فتصلح أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال ، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسببٌ لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .