2- يا أيها المؤمنون لا تستبيحوا حرمة شعائر الله ، كمناسك الحج وقت الإحرام قبل التحلل منه وسائر أحكام الشريعة ، ولا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بإثارة الحرب فيها ، ولا تعترضوا لما يُهْدَى من الأنعام إلى بيت الله الحرام باغتصابه أو منع بلوغه محله ، ولا تنزعوا القلائد ، وهي العلامات التي توضع في الأعناق ، إشعاراً بقصد البيت الحرام ، وأنها ستكون ذبيحة في الحج ، ولا تعترضوا لِقُصَّادِ بيت الله الحرام يبتغون فضل الله ورضاه ، وإذا تحللتم من الإحرام ، وخرجتم من أرض الحرم ، فلكم أن تصطادوا ، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم صدوكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم . وليتعاون{[48]} بعضكم مع بعض - أيها المؤمنون - على فعل الخير وجميع الطاعات ، ولا تتعاونوا على المعاصي ومجاوزة حدود الله ، واخشوا عقاب الله وبطشه ، إن الله شديد العقاب لمن خالفه .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } ، نزلت في الحطم ، واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة ، وخلف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : إلا ما تدعو الناس ؟ فقال : ( إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ) فقال : حسن ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان " ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرجل ، بمسلم " فمر بسرح المدينة ، فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه ، فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ، ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي . فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم ، قد خرج حاجاً ، فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } قال ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنهاهم الله عن ذلك ، وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة . وإشعارها إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار هاهنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الإبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، أنا أفلح ، عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها ، وأشعرها ، وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له ، وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار . وأما الغنم فلا تشعر بالجرح ، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يشعر الهدي . وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا تحلوا شعائر الله ) هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله ، حرمات الله ، واجتناب سخطه ، واتباع طاعته .
قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } . أي : القتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه عاما ويحرمونه عاماً .
قوله تعالى : { ولا الهدي } هو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير ، أو بقرة ، أو شاة .
قوله تعالى : { ولا القلائد } . أي الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم ، وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها ، وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها ، وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها ، فنهوا عن نزع شجرها .
قوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } . أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني الكعبة ، فلا تتعرضوا لهم .
قوله تعالى : { يبتغون } يطلبون .
قوله تعالى : { فضلاً من ربهم } . يعني الرزق بالتجارة .
قوله تعالى : { ورضواناً } أي : على زعمهم ، لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجل لهم العقوبة فيها . وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ، لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى هاهنا منسوخة بقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وبقوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] ، فلا يجوز أن يحج المشرك ، ولا يأمن كافر بالهدي والقلائد .
قوله تعالى : { وإذا حللتم } أي من إحرامكم .
قوله تعالى : { فاصطادوا } . أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد .
كقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] .
قوله تعالى : { ولا يجرمنكم } . قال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم .
قوله تعالى : { شنآن قوم } . أي بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئ ، قرأ ابن عامر وأبو بكر : شنآن قوم ، بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين ، مثل الضربان ، والسيلان ، والنسلان ، ونحوها .
قوله تعالى : { أن صدوكم عن المسجد الحرام } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم . وقال محمد بن جرير : لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، وكان الصد قد تقدم .
قوله تعالى : { أن تعتدوا } . عليهم بالقتل وأخذا لأموال .
قوله تعالى : { وتعاونوا } . أي : ليعن بعضكم بعضاً .
قوله تعالى : { على البر والتقوى } . قيل البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل البر الإسلام ، والتقوى : السنة .
قوله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . قيل : الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل : الإثم المعصية ، والعدوان البدعة .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي ، أنا أبو الحسن بن علي بن عفان ، أنا زيد بن الحباب ، عن معاوية بن صالح ، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه ، عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " .
{ 2 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }
يقول تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ } أي : محرماته التي أمركم بتعظيمها ، وعدم فعلها ، والنهي يشمل النهي عن فعلها ، والنهي عن اعتقاد حلها ؛ فهو يشمل النهي ، عن فعل القبيح ، وعن اعتقاده .
ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام ، ومحرمات الحرم . ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله : { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ } أي : لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ }
والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا ، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا .
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم .
وقال آخرون : إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها ، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه ، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك ، وقالوا : المطلق يحمل على المقيد .
وفصل بعضهم فقال : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها ، فإنه يجوز .
وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك ، لأن أول قتالهم في " حنين " في " شوال " . وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع .
فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال ، فإنه يجوز للمسلمين القتال ، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء .
وقوله : { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } أي : ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة ، أو غيرهما ، من نعم وغيرها ، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله ، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها ، ولا تقصروا به ، أو تحملوه ما لا يطيق ، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله ، بل عظموه وعظموا من جاء به . { وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } هذا نوع خاص من أنواع الهدي ، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى ، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله ، وحملا للناس على الاقتداء ، وتعليما لهم للسنة ، وليعرف أنه هدي فيحترم ، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة .
{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ } أي : قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ } أي : من قصد هذا البيت الحرام ، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة ، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به ، والصلاة ، وغيرها من أنواع العبادات ، فلا تتعرضوا له بسوء ، ولا تهينوه ، بل أكرموه ، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم .
ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين ، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه ، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك .
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ } فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم .
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي ، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله ، كما قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ }
ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ } أي : إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة ، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد ، وزال ذلك التحريم . والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل .
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ } أي : لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم ، حيث صدوكم عن المسجد ، على الاعتداء عليهم ، طلبا للاشتفاء منهم ، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله ، ويسلك طريق العدل ، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه ، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه ، أو يخون من خانه .
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ } أي : ليعن بعضكم بعضا على البر . وهو : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله وحقوق الآدميين .
والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها ، بكل قول يبعث عليها وينشط لها ، وبكل فعل كذلك .
{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ } وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها ، ويحرج . { وَالْعُدْوَانِ ْ } وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ } على من عصاه وتجرأ على محارمه ، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل .
وبعد أن أشار - سبحانه - إلى ما أحل لعباده من طيبات ، وما حظره عليهم من أفعال ، أتبع ذلك بنداء آخر إليهم نهاهم فيه عن استحلال أشياء معينة فقال - تعالى - :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ . . . }
قوله : { لاَ تُحِلُّواْ } من الإِحلال الذي هو ضد التحريم . ومعننى عدم إحلالهم لشعائر الله : تقرير حرمتها عملا واعتقادا ، والالتزام بها بالطريقة التي قررتها شريعة الله .
والشعائر : جمع شعيرة - على وزن فعلية - وهي في الأصل ما علت شعاراً على الشيء وعلامة عليه من الإِشعار بمعنى الإعلام . وكل شيء اشتهر فقد علم . يقال : شعرت بكذا .
والمراد بشعائر الله هنا : حدوده التي حدها ، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التي أوجبها على عباده .
ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا : مناسك الحج وما حرمه الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب في أثناء الإحرام . ومن غير ذلك من الأفعال التي نهى الله عن فعلها في ذلك الوقت فيكون المعنى .
لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم .
والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التي كلف الله بها عباده . وقد رجحه ابن جرير بقوله : وأولى التأويلات بقوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } قول من قال : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تضيعوا فرائضه . فيدخل في ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه .
وإنما قلنا ذلك القول أولى ، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها ، نهيا عاماً من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء . فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك .
وأضاف - سبحانه - الشعائر إليه . تشريفا لها ، وتهويلا للعقوبة التي تترتب على التهاون بحرمتها . وعلى مخالفة ما أمر الله به في شأنها .
وقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } معطوف على شعائر الله . والمراد به الجنس . فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم . وهي أربعة : ذو العقدة ، وذو الحجة والمحرم ، ورجب .
وسمي الشهر حراماً : باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام .
أي : لا تحلوا - أيها المؤمنون - القتال في الشهر الحرام ، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال .
قال ابن كثير : يعني بقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } تحريمه ، والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال كما قال - تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وقال - تعالى - : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهراً . منها أربعة حرم " وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت . كما هو مذهب طائفة من السلف .
وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ . وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم .
واحتجوا بقوله - { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والمراد أشهر التسيير الأربعة . قالوا : فلم يستثن شهراً حراما من غيره .
والمقصود بالهدى في قوله { وَلاَ الهدي } ما يتقرب به الإِنسان إلى الله من النعم ليذبح في الحرم ، وهو جمع هدية - بتسكين الدال - ، أي : ولا تحلوا حرمة ما يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله - تعالى - بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله .
وخص ذلك بالذكر مع دخوله في الشعائر ، لأن فيه نفعا للناس ، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره ، ولأن في ذكره تعظيما لشأنه .
وقوله : { وَلاَ القلائد } جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء . وقد كانوا يضعون في أعناق الهدى ضفائر من صوف ، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه .
والمراد : ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء .
وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفاً لها واعناءً بشأنها . لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج بها أظهر . فكأنه قيل : لا تحلوا الهدى وخصوصاً ذوات القلائد منه .
ويجوز أن يراد النهي عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها أي : لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله : وأما القلائد ففيها وجهان :
أحدهما : أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن . وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } كأنه قيل : والقلائد منها خصوصا .
والثاني : أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهي عن التعرض للهدى ، على معنى : ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها . كما قال { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها .
وقوله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } معطوف على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } .
وقوله : { آمِّينَ } جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم . يقال : أممت كذا أي : قصدته أي : ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثواباً . ورضواناً لتعبدهم في بيته المحرم .
ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضواناً ؟
قال بعضهم : المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة . فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله - تعالى - مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضميرهم في قوله { مِّن رَّبِّهِمْ } للتشريف والتكريم .
وجملة { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من الضمير المستكن في قوله { آمِّينَ } وقد جيء بها لبيان مقصدهم الشريف ، ومسعاهم الجليل .
أي : قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثواباً من ربهم ، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه - سبحانه - عنهم .
وعلى هذا الاقول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها ، وتكون توجيهاً عاماً من الله - تعالى - لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين ، مهما حدث بينهم من نزاع أو خلاف .
وقال آخرون : المراد بهم المشركون . واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدي من أن الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحطين بن هند ، وذلك نه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله إلام تدعو ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فقال له : حسن ما تدعو إليه إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم . فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به .
ثم أقبل من العام القادم جارحاً ومعه تجارة عظيمة . فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التعرض له . فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزلت الآية .
وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة . وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم من الله ، فوصفهم - سبحانه - على حسب ظنهم وزعمهم . ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى - { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوي والأخروي ولو في زعم المشركين .
والذي نراه أولى هو القول الأول ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التي هي حدوده وفرائضه ومعالم دينه ، ولأن قوله - تعالى - : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } هذا الوصف إنما يليق بالمسلم دون الكافر ، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه - سبحانه - .
قال الفخر الرازي : " أمرنا الله في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين ، وحرم علينا أخذا الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين . والدليل عليه أول الآية وآخرها .
أما أول الآية فهو : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار .
وأما آخر الآية فهو قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال أي شيء من الشعائر التي حرم الله - تعالى - استحلالها ، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التي عطفت عليها اهتماماً بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها ، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافع شهوة الانتقام ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبي ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك .
ثم أتبع - سبحانه - هذا النهي ببيان جانب من مظاهر فضله . حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .
أي : وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد ، وأبيح لكم أيضاً كل ما كان مباحاً لكم قبل الإحرام .
وإنما خص الصيد بالذكر ، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيراً . كبيرهم وصغيرهم ، وغنيهم وفقيرهم . والإِشارة إلى أن الذي ينبغي الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا يكون إرضاء للشهوات .
والأمر في قوله : { فاصطادوا } للإِباحة ، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامزه أن يصطاد . بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإِحرام ومثله قوله - تعالى - { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } أي : أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة .
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين على أن يحملهم البعض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال - تعالى - : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .
والجلمة الكريمة معطوفة على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } لزيادة تقرير مضمونه .
ومعنى { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه ، أو معناه : ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب ، غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة .
وأصل الجرم : قطع الثمرة من الشجرة ، أطلق على الكسب ، لأن الكاسب ينقطع لكسبه .
قال صاحب الكشاف : جرم يجري مجرى " كسب " في تعديه إلى مفعول واحد واثنين .
تقول : جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا ، نحو كستبه إياه . ويقال : أجرمته ذنبا ، على نقل المتعدي إلى معفول بالهمزة إلى مفعولين . كقولهم : أكسبته ذنبا " .
والشنآن : البغض الشديد . يقال : شئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديداً .
والمعنى : ولا يحملنكم - أيها المؤمنون - بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام ، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم ، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل ، فإن الإِسلام - وهو دين العدل والتسامح - لا يبرره ولا يقبله ، ولكن الذي يقبله الإِسلام هو احترام المسجد الحرام ، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيماناً ، ويفئ العاصي إلى رشده وصوابه .
قال ابن كثير : وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : ولا يحملنكم بغض قوم ، " قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام - وذلك عام الحديبية - ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد .
. فإن العدل واجب على كل أحد . في كل أحد ، وفي كل حال . والعدل ، به قامت السموات والأرض .
وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .
وعن زيد بن أسلم ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية ، حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركني من أهل المشرق يريدون العمرة . فقال الصحابة . نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية " .
وقوله : { شَنَآنُ قَوْمٍ } مصدر مضاف لمفعوله . أي : لا يحملنكم بغضكم قوماً .
وقوله : { أَن صَدُّوكُمْ } - بفتح همزة أن - مفعول لأجله بتقدير اللام . أي : لأن صدوكم فهو متعلق بالشنآن .
وقوله { أَن تَعْتَدُواْ } في موضع نصب على أنه مفعول به .
أي : لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم .
وقراءة { أَن صَدُّوكُمْ } بفتح الهمزة - هي قراءة الجمهور ، وهي تشير إلى أن الصد كان في الماضي ، وهي واضحة ولا إشكال عليها .
قال الجمل : وفي قراءة لأبي عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله . وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضي أن الأمر المشروط لم يقع . مع أن الصد كان قد وقع . لأنه كان في عام الحديبية وهي سنة ست . والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكانت مكة عام الفتح في أيدي المسلمين فيكف يصدون عنه ؟ وأجيب بوجهين :
أولهما : لا نسلم أن الصد كان قيل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه .
والثاني : أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى : إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية - فلا تعتدوا -
قال بعضهم : وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل ، لأن النهي عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام ، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق ، وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل .
ثم أمر الله - تعالى - عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } .
والبر معناه : التوسع في فعل الخير ، وإسداء المعروف إلى الناس .
والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه .
قال القرطبي : قال الماوردي : ندب الله - تعالى - إلى التعاون بالبر ، وقرنه بالتقوى له ، لأن في التقوى رضا الله ، وفي البر رضا الناس .
ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته .
والإِثم - كما يقول الراغب - اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام ، والآثم هو المتحمل للإِثم . ثم أطلق على كل ذنب ومعصية .
والعدوان : تجاود الحدود التي أمر الشارع الناس بالوقوف عندها .
أي : وتعاونوا - أيها المؤمنون - على كل ما هو خير وبر وطاعة لله - تعالى - ، ولا تتعاونوا على ارتكابا الآثام ولا على الاعتداء على حدوده ، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدي إلى السعادة ، أما التعاون على ما يغضب الله - تعالى - فيدؤي إلى الشقاء .
قال الآلوسي : والجملة عطف على قوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } من حيث المعنى ، فكأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه ، وتعاونوا على العفو والإِغضاء .
وقال بعضهم : هو استئناف ، والوقف على { أَن تَعْتَدُواْ } لازم .
هذا ، وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن أبي مسعود الانصاري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أبدع بي - أي : هلكت دابتي التي أركبها - فاحملني فقال : " ما عندي " فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " وروى الإِمام مسلم - أيضاً - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه . لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " .
وقوله - تعالى - { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإِثم والعدوان . أي : اتقوا الله - أيها الناس - واخشوه فيما مركم ونهاكم ، فإنه - سبحنه شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانحرف عن طريقه القويم .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم ، وعن الإِخلال بشيء من أحكامها كما نهتهم عن أن بحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذي ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته - سبحانه - وحسن مثوبته ، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها ، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم . ثم حذرتهم في نهايتها من العقاب الشديد الذي ينزله سبحانه - بكل من عصاه ، وانحرف عن هداه .
ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا )
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى ( شعائر الله ) في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السي القرآني إلى الله تعظيما لها ، وتحذيرا من استحلالها .
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ؛ وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ؛ فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان ، أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها ، وأقام هذه الحرمة على أمر الله ، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . . ) وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين ، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ، ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة ، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي نافة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ؛ بل يجعلها كلها للفقراء .
والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر : أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل : إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به ، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا : إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . . وقوله : ( فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) . . والأظهر القول الأول ؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة ، للمناسبة بين هذا وذاك .
كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .
ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام ، في غير البيت الحرام ، فلا صيد في البيت الحرام : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) . .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ؛ استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ؛ ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام ، وفي كل مكان . .
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان ، يدعو الله الذين آمنوا به ، وتعاقدوا معه ، أن يفوا بعقدهم ؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية ، والعواطفالذاتية ، والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ؛ وقبله كذلك ؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض ، فهذا كله شيء ؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .
إنها قمة في ضبط النفس ؛ وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام ، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .
وهو تكليف ضخم ؛ ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية ، ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ، ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ؛ لا في الإثم والعدوان ؛ ويخوفها عقاب الله ، ويأمرها بتقواه ، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط ، وعلى التسامي والتسامح ، تقوى لله ، وطلبا لرضاه .
ولقد استطاعت التربية الإسلامية ، بالمنهج الرباني ، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية ، والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور : " أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . كانت حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ؛ وكان الحلف على النصرة ، في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى ، وهو يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد !
ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .
جاء ليربط القلوب بالله ؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله . جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية ، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء . .
وولد " الإنسان " من جديد في الجزيرة العربية . . ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله . . وكان هذا هو المولد الجديد للعرب ؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض . . ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء : " انصر أخاك ظالما أو مظومًا " . كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء !
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية ، وأفق الإسلام ؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . وقول الله العظيم : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج .
وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبُدن من شعائر الله .
وقيل : شعائر الله محارمه [ التي حرمها ]{[8877]} أي : لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[8878]} { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه{[8879]} من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ] }{[8880]} الآية . [ التوبة : 36 ] .
وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حُرُم ، ثلاث متواليات : ذو القَعْدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان " .
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت ، كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة{[8881]} عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني :{[8882]} لا تستحلوا قتالا فيه . وكذا قال مُقَاتل بن حَيَّان ، وعبد الكريم بن مالك الجزَريُّ ، واختاره ابن جرير أيضًا ، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، {[8883]} واحتجوا بقوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] قالوا : والمراد أشهر التسيير الأربعة ، [ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ] {[8884]} قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره .
وقد حكى الإمام أبو جعفر{[8885]} [ رحمه الله ]{[8886]} الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم ، وغيرها من شهور السنة ، قال : وكذلك{[8887]} أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه{[8888]} بلحاء{[8889]} جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان{[8890]} ولهذه المسألة بحث آخر ، له موضع أبسط من هذا .
[ و ]{[8891]} قوله : { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } يعني : لا تتركوا الإهداء إلى البيت ؛ فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدْيٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ؛ ولهذا لما حَج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُلَيْفة ، وهو وادي العَقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتَطيَّب وصلَّى ركعتين ، ثم أشعر هَدْيَه وقلَّدَه ، وأهَلَّ بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] .
قال بعض السلف : إعظامها : استحسانها واستسمانها .
وقال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن{[8892]}
وقال مُقاتل بن حَيَّان : { وَلا الْقَلائِدَ } فلا تستحلوا{[8893]} وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم{[8894]} قلَّدوا أنفسهم بالشَّعْر والوَبَر ، وتقلد مشركو الحرم من لَحاء شجر الحرم ، فيأمنون به .
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا محمد بن عَمَّار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد ، وقوله : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] .
وحدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن ابن عَوْن قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .
وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم ، فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره . وكذا قال مُطرِّف بن عبد الله .
وقوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام ، الذي من دخله كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه ، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه .
قال مجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، ومُطَرِّف بن عبد الله ، وعبد الله{[8895]} بن عُبَيد بن عُمير ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان في قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ } يعني بذلك : التجارة .
وهذا كما تقدم في قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ]
وقوله : { وَرِضْوَانَا } قال ابن عباس : يترضَّون الله بحجهم .
وقد ذكر عِكْرِمة ، والسُّدِّي ، وابن جُرَيْجٍ : أن هذه الآية نزلت في الحُطم{[8896]} بن هند البكري ، كان قد أغار على سَرْح المدينة ، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا{[8897]} في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله عز وجل { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } .
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله ، إذا لم يكن له أمان ، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس ؛ فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم . فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به ، فهذا يمنع كما قال [ تعالى ]{[8898]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمَّر الصديق على الحجيج - علِيّا ، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وألا يحج بعد العام مُشْرِك ، ولا يطوفن بالبيت عُرْيان{[8899]} .
وقال [ على ]{[8900]} بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يعني من توجه قِبَل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] وقال تعالى : { مَا كَانَ{[8901]} لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } [ التوبة : 17 ] وقال [ تعالى ] :{[8902]} { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام .
وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تَقلَّد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة من شَعرٍ فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : { فَاقْتُلُوا{[8903]} الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . .
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { وَلا الْقَلائِدَ } يعني : إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوه ، قال : ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك ، قال الشاعر{[8904]} :
ألَمْ تَقْتُلا الحرْجَين إذ أعورا لكم *** يمرَّان الأيدي اللَّحاء المُضَفَّرا{[8905]}
وقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } أي : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد . وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السَّبْر : أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبًا رده واجبًا ، وإن كان مستحبًا فمستحب ، أو مباحًا فمباح . ومن قال : إنه على الوجوب ، ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال : إنه للإباحة ، يرد عليه آيات أخر ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } ومن القراء من قرأ : " أن صدوكم " بفتح الألف من " أن " ومعناها ظاهر ، أي : لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا [ في ]{[8906]} حكم الله فيكم{[8907]} فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل ، فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد في كل حال .
وقال بعض السلف : ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السموات والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سَهْل بن عثمان{[8908]} حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد{[8909]} هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل الله هذه الآية{[8910]} .
والشنآن هو : البغض . قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنَأته أشنؤه شنآنا ، بالتحريك ، مثل قولهم : جَمَزَان ، ودَرَجَان ورَفَلان ، من جمز ، ودرج ، ورفل . قال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن ، فيقول : شنان . قال : ولم أعلم أحدًا قرأ بها ، ومنه قول الشاعر{[8911]} :
ومَا العيشُ إلا ما تُحبُّ وتَشْتَهي{[8912]} *** وَإنْ لامَ فيه ذو الشنَّان وفَنَّدَا
وقوله : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ } يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ، وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل .
والتعاون على المآثم والمحارم .
قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : مجاوزة ما حد الله في دينكم ، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم{[8913]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا " . قيل : يا رسول الله ، هذا نَصَرْتُه مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال : " تحجزه تمنعه{[8914]} فإن ذلك نصره " .
انفرد به البخاري من حديث هُشَيْم به نحوه{[8915]} وأخرجاه{[8916]} من طريق ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما ؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يحيى بن وَثَّاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم{[8917]} قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " {[8918]} .
وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [ قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ]{[8919]} أنه قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم{[8920]} ولا يصبر على أذاهم " .
وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة ، وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف ، كلاهما عن الأعمش ، به{[8921]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا عيسى بن المختار ، عن ابن أبي ليلى ، عن فُضَيْل بن عمرو ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدَّالُّ على الخير كفاعله " . ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد{[8922]} .
قلت : وله شاهد{[8923]} في الصحيح : " من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " {[8924]} .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي ، قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نِمْرَان بن مخُمر حدثه{[8925]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام " {[8926]} .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلآ آمّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رّبّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى قول الله : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ فقال بعضهم : معناه : لا تحلوا حُرُمات الله ، ولا تتعدّوا حدوده . كأنهم وجهوا الشعائر إلى المعالم ، وتأوّلوا لا تحلوا شعائر الله : معالم حدود الله ، وأمره ، ونهيه ، وفرائضه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : حدثنا حبيب المعلم ، عن عطاء أنه سئل عن شعائر الله ، فقال : حرمات الله : اجتناب سخط الله ، واتباع طاعته ، فذلك شعائر الله .
وقال آخرون : معنى قوله : لا تُحِلّوا حَرَمَ الله . فكأنهم وجهوا معنى قوله : شَعائِرَ اللّهِ : أي معالم حَرَم الله من البلاد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال : أما شعائر الله : فحُرَم الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا مناسك الحجّ فتضيعوها . وكأنهم وجهوا تأويل ذلك إلى : لا تحلوا معالم حدود الله التي حدّها لكم في حجكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال : مناسك الحجّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهُدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، ويتجرون في حجهم ، فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم ، فقال الله عزّ وجلّ : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : شَعائِرَ اللّهِ : الصفا والمروة ، والهدي ، والبدن ، كل هذا من شعائر الله .
حدثني المثنى ، قال : ثني أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قال : شعائر الله : ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم .
وكأنّ الذين قالوا هذه المقالة ، وجهوا تأويل ذلك إلى : لا تحلوا معالم حدود الله التي حرّمها عليكم في إحرامكم .
وأولى التأويلات بقوله : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ قول عطاء الذي ذكرناه من توجيهه معنى ذلك إلى : لا تحلوا حُرُمات الله ، ولا تضيعوا فرائضه ، لأن الشعائر جمع شعيرة ، والشعيرة : فعيلة من قول القائل : قد شعر فلان بهذا الأمر : إذا علم به ، فالشعائر : المعالم من ذلك . وإذا كان ذلك كذلك ، كان معنى الكلام : لا تستحلوا أيها الذين آمنوا معالم الله ، فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحجّ ، من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم ، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها ، وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه ، وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه ، لأن كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحقّ والباطل ، يُعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه .
وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده ، وإحلالها نهيا عامّا من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء ، فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ، ولا حجة بذلك كذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ : ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم به أعداءكم من المشركين ، وهو كقوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمدقال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ يعني : لا تستحلوا قتالاً فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : كان المشرك يومئذ لا يُصَدّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتَلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت .
وأما الشهر الحرام الذي عناه الله بقوله : وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ فرجب مضر ، وهو شهر كانت مضر تحرّم فيه القتال . وقد قيل : هو في هذا الموضع ذو القَعدة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : هو ذو القعدة .
وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى ، وذلك في تأويل قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ .
أما الهدي : فهو ما أهداه المرء من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك إلى بيت الله ، تقرّبا به إلى الله وطلب ثوابه . يقول الله عزّ وجلّ : فلا تستحلوا ذلك فتغضِبوا أهله عليه ، ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلغوا به المحلّ الذي جعله الله مَحِله من كعبته . وقد رُوي عن ابن عباس أن الهدي إنما يكون هديا ما لم يقلّد .
حدثني بذلك محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا الهَدْيَ قال : الهدي ما لم يقلد ، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده .
وأما قوله : وَلا القَلائِدَ فإنه يعني : ولا تحلوا أيضا القلائد .
ثم اختلف أهل التأويل في القلائد التي نهى الله عزّ وجلّ عن إحلالها ، فقال بعضهم : عنى بالقلائد : قلائد الهدي وقالوا : إنما أراد الله بقوله : وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ : ولا تحلوا الهدايا المقلدات منها وغير المقلدات فقوله : وَلا الهَدْيَ ما لم يقلد من الهدايا ، وَلا القَلائِدَ المقلد منها . قالوا : ودلّ بقوله : وَلا القَلائِدَ على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَلا القَلائِدَ القلائد : مقلدات الهدي ، وإذا قلد الرجل هديه فقد أحرم ، فإن فعل ذلك وعليه قميصه فليخلعه .
وقال آخرون : يعني ذلك : القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحجّ مقبلين إلى مكة من لحاء السّمُر ، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها ، من الشّعر . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ قال : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحجّ تقلد من السّمُر فلم يعرض له أحد ، فإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد .
وقال آخرون : بل كان الرجل منهم يتقلد إذا أراد الخروج من الحرم أو خرج من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء : وَلا القَلائِدَ قال : كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم ، فنزلت : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ . . . الاَية ، وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا القَلائِدَ قال : القلائد : اللحاء في رقاب الناس والبهائم أمنٌ لهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ قال : إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة ، فيقيم الرجل بمكانه ، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم فأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر ، فيأمن حتى يأتي أهله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله : وَلا القَلائِدَ قال : القلائد : كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم فيتقلدها ، ثم يذهب حيث شاء ، فيأمن بذلك ، فذلك القلائد .
وقال آخرون : إنما نهى الله المؤمنين بقوله : وَلا القَلائِدَ أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ كان المشركون يأخذون من شجر مكة من لحاء السّمُر ، فيتقلدونها ، فيأمنون بها من الناس ، فنهى الله أن يُنزع شجرها فيُتقلد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير ، وعنده رجل ، فحدثهم في قوله : وَلا القَلائِدَ قال : كان المشركون يأخذون من شجر مكة من لحاء السّمُر فيتقلدون ، فيأمنون بها في الناس ، فنهى الله عزّ ذكره أن ينزل شجرها فيتقلد .
والذي هو أولى بتأويل قوله : وَلا القَلائِدَ إذ كانت معطوفة على أوّل الكلام ، ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله ، ولا أنه عنى بها النهى عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء أن يكون معناه : ولا تحلوا القلائد . فإذا كان ذلك بتأويله أولى ، فمعلوم أنه نهي من الله جلّ ذكره عن استحلال حرمة المقلد هديا كان ذلك أو إنسانا ، دون حرمة القلادة وأن الله عزّ ذكره إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلد ، فاجتزأ بذكره القلائد من ذكر المقلد ، إذ كان مفهوما عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به .
فمعنى الاَية إذ كان الأمر على ما وصفنا : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا المقلد بقسميه بقلائد الحرم .
وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ، ما ذكرنا عمن تأوّل القلائد أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلدونه ، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلدا ذلك :
أَلمْ تَقْتُلا الحِرْجَيْنِ إذْ أعْوَرَاكما ***يُمِرّانِ بالأيْدِي اللّحاءَ المُضَفّرَا
والحِرجان : المقتولان كذلك . ومعنى قوله : أعوراكما : أمكناكما من عورتهما .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ .
يعني بقوله عزّ ذكرهوَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ : ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام العامدية ، تقول منه : أممت كذا : إذا قصدته وعَمَدته ، وبعضهم يقول : يَمَمْتُه ، كما قال الشاعر :
إنّي كَذاك إذَا ما ساءَنِي بَلَدٌ ***يَمَمْتُ صدْرَ بَعِيرِي غيرَهُ بَلَدَا
والبيت الحرام : بيت الله الذي بمكة وقد بينت فيما مضى لم قيل له الحرام . يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ يعني : يلتمسون أرباحا في تجارتهم من الله . وَرِضْوَانا يقول : وأن يرضى الله عنهم بنُسُكهم . وقد قيل : إن هذه الاَية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحُطَم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أقبل الحُطَم بن هند البكريّ ، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة ، حتى أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده ، وخلّف خيله خارجة من المدينة ، فدعاه فقال : إلامَ تدعو ؟ فأخبره ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : «يَدْخُلُ اليَوْمَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ رَبِيَعةَ ، يَتَكَلّمُ بلسَانِ شَيْطَانٍ » . فلما أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : انظروا لعّلي أُسلم ، ولي من أشاوره . فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كافِرٍ ، وَخَرَجَ بعَقِبِ غادِرٍ » . فمرّ بسرح من سرح المدينة ، فساقه ، فانطلق به وهو يرتجز :
قَدْ لَفّها اللّيْلُ بسَوّاقٍ حُطَمْ ***لَيْسَ بِرَاعِي إبِلٍ وَلا غَنَمٍ
وَلا بِجَزّارٍ عَلى ظَهْرِ الوَضَمْ ***باتُوا نِياما وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ
باتَ يُقاسِيها غُلامٌ كالزّلَمْ ***خَدَلّجُ السّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ
ثم أقبل من عام قابل حاجّا قد قلد وأهدى ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الاَية ، حتى بلغ : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ قال له ناس من أصحابه : يا رسول الله خلّ بيننا وبينه ، فإنه صاحبنا قال : «إنّهُ قَدْ قَلّدَ » . قالوا : إنما هي شيء كنا نصنعه في الجاهلية . فأبى عليهم ، فنزلت هذه الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : قدم الحطم أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري المدينة في عير له يحمل طعاما ، فباعه . ثم دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فبايعه ، وأسلم . فلما ولى خارجا نظر إليه ، فقال لمن عنده : «لَقَدْ دَخَلَ عليّ بوَجْهِ فَاجِرِ ووَلّى بقَفَا غاَدِرٍ » . فلما قدم اليمامة ارتدّ عن الإسلام ، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة ، يريد مكة فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عيره ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شعَائِرَ اللّهِ . . . الاَية ، فانتهى القوم . قال ابن جريج : قوله : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ قال : ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم . قال : وذلك أن الحطم قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر ، فقال : إني داعية قومي ، فاعرض عليّ ما تقول قال له : «أدْعُوكَ إلى الله أنْ تَعْبُدَهُ ولا تُشْرِكَ به شَيْئا ، وتُقِيمَ الصّلاةَ ، وتُؤْتي الزّكَاةَ ، وتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَان ، وتَحُجّ البَيْتَ » . قال : الحطم : في أمرك هذا غلظة ، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت ، فإن قبلوه أقبلت معهم ، وإن أدبروا كنت معهم . قال له : «ارْجِعْ » فلما خرج ، قال : «لَقَدْ دَخَلَ عَليّ بَوجْهِ كَافِرٍ وخَرَجَ مِنْ عِنْدي بُعْقَبي غَادِرٍ ، وما الرّجُلُ بمُسْلِمٍ » . فمرّ على سرح لأهل المدينة ، فانطلق به فطلبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففاتهم . وقدم اليمامة ، وحضر الحجّ ، فجهز خارجا ، وكان عظيم التجارة ، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه ، فأنزل الله عزّ وجلّ : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ . . . الاَية ، قال : هذا يوم الفتح جاء ناس يأمّون البيت من المشركين ، يُهلّون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون ، فمثل هؤلاء فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم فنزل القرآن : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يقول : من توجّهَ حاجّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يعني : الحاج .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل ، فحدثهم فقال : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ قال : الذين يريدون البيت .
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الاَية بعد إجماعهم على أن منها منسوخا ، فقال بعضهم : نسخ جميعها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عام ، قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الاَية لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ .
حدثنا ابن وجيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شعَائِرَ اللّهِ نسختها : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن بيان ، عن الشعبيّ ، قال : لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ . . . الاَية ، قال : منسوخ . قال : كان المشركون يومئذ لا يصدّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحرم ولا عند البيت ، فنسخها قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ . . . إلى قوله : وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ قال : نسختها براءة : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن الضحاك ، مثله .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت : لا تُحلّوا شَعائِرِ اللّهِ ولا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِد قال : هذا شيء نهي عنه ، فترك كما هو .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شَعائِرَ وَلا الشّهْرَ الحَرامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ قال : هذا كله منسوخ ، نسخ هذا أمره بجهادهم كافة .
وقال آخرون : الذي نَسخَ من هذه الاَية ، قوله : وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، فقال : هكذا سمعته من قتادة نسخ من المائدة : آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ نسختها براءة ، قال الله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وقال : ما كان للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ ، وقال : إنّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر ، فنادى فيه بالأذان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ . . . الاَية ، قال : فنسخ منها : آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ نسختها براءة ، فقال : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، فذكر نحو حديث عبدة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : نزل في شأن الحُطَم : وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آميّنَ البَيْتَ الحَرَامَ ثم نسخه الله فقال : اقْتُلوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ .
حدثني حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا تُحِلّوا شَعائرَ اللّهِ . . . إلى قوله : وَلا آميّنَ البَيْتَ جميعا ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحجّ البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعد هذا : إنّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا ، وقال : ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ ، وقال : إنّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فنفي المشركين من المسجد الحرام .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ . . . الاَية ، قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحجّ ، تقلد من السّمُر فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يُصَدّ عن البيت ، وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرم ولا عند البيت ، فنسخها قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
وقال آخرون : لم ينسخ من ذلك شيء إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء الشجر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : لا تُحِلّوا شعَائِرَ اللّهِ وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ . . . الاَية ، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : هذا كله من عمل الجاهلية ، فعله وإقامته ، فحرّم الله ذلك كله بالإسلام ، إلا لحِاء القلائد ، فترك ذلك . وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ فحرّم الله على كل أحد إخافَتَهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : نسخ الله من هذه الاَية قوله : وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آميّنَ البَيْتَ الحَرَامَ لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحُرم وغيرها من شهور السنة كلها ، وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن تقدم له عَقْد ذمة من المسلمين أو أمان . وقد بينا فيما مضى معنى القلائد في غير هذا الموضع .
وأما قوله : وَلا أمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ فإنه محتمل ظاهره : ولا تُحِلّوا حرمة آمين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام ، لعموم جميع من أمّ البيت . وإذا احتمل ذلك ، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم ، فلا شكّ أن قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ناسخ له ، لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد . وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلهم ، أمّوا البيت الحرام أو البيت المقدس في أشهر الحرم وغيرها ، ما يعلم أن المنع من قتلهم إذا أمّوا البيت الحرام منسوخ ، ومحتمل أيضا : ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك ، وأكثر أهل التأويل على ذلك . وإن كان عُنِى بذلك المشركون من أهل الحرب ، فهو أيضا لا شكّ منسوخ . وإذ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر ، وكان ما كان مستفيضا فيهم ظاهر الحجة ، فالواجب وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا ، التسليم لما استفاض بصحته نقلهم .
القول في تأويل قوله تعالى : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا .
يعني بقوله : يَبْتَغُونَ : يطلبون ويلتمسون . والفضل : الإرباح في التجارة والرضوان : رضا الله عنهم ، فلا يحلّ بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم بحجهم بيته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة في قوله : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا قال : هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، فقال : هكذا سمعته من قتادة في قوله : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا والفضل والرضوان : اللذان يبتغون أن يصلح معايشهم في الدنيا ، وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا يعني : أنهم يترضون الله بحجهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير ، وعنده رجل ، فحدثهم في قوله : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا قال : التجارة في الحجّ ، والرضوان في الحجّ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي أميمة ، قال : قال ابن عمر في الرجل يحجّ ، ويحمل معه متاعا ، قال : لا بأس به . وتلا هذه الاَية : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا قال : يبتغون الأجر والتجارة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا الصيد الذي نهيتكم أن تُحلوه وأنتم حرُمُ ، يقول : فلا حرج عليكم في اصطياده واصطادوا إن شئتم حينئذ ، لأن المعنى الذي من أَجله كنت حرّمته عليكم في حال إحرامكم قد زال .
وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حصين ، عن مجاهد ، أنه قال : هي رخصة . يعني قوله : وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد ، قال : خمس في كتاب الله رخصة ، وليست بعَزْمة ، فذكر : وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا قال : من شاء فعل ، ومن شاء لم يفعل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن حجاج ، عن عطاء ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد : وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا قال : إذا حلّ ، فإن شاء صاد ، وإن شاء لم يصطد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن رجل ، عن مجاهد : أنه كان لا يرى الأكل من هَدْى المتعة واجبا ، وكان يتأوّل هذه الاَية : وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا : فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشرُوا فِي الأرْضِ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَلا يجْرِمَنّكُمْ ولا يحملنكم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يجْرِمَنّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ يقول : لا يحملنكم شنآن قوم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْم أي لا يحملنكم .
وأما أهل المعرفة باللغة ، فإنهم اختلفوا في تأويلها ، فقال بعض البصريين : معنى قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ : لا يحقنّ لكم لأن قوله : لا جَرَمَ أنْ لَهُمِ النّار : هو حقّ أن لهم النار . وقال بعض الكوفيين معناه : لا يحملنكم . وقال : يقال : جرمنى فلان على أن صنعت كذا وكذا : أي حملني عليه . واحتجّ جميعهم ببيت الشاعر :
وَلَقَدْ طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ***جَرَمَتْ فَزَارَةَ بعدَها أنْ يغْضَبوا
فتأوّل ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوّله من القرآن ، فقال الذين قالوا : لا يَجْرِمَنّكُمْ : لا يحقن لكم معنى قول الشاعر : جرمت فزارةَ : أحقت الطعنة لفزارة الغضب . وقال الذين قالوا معناه : لا يحملنكم : معناه في البيت : «جرمت فزارة أن يغضبوا » : حملت فزارة على أن يغضبوا . وقال آخر من الكوفيين : معنى قوله : لا يَجْرِمَنّكُمْ : لا يكسبنكم شنآن قوم . وتأويل قائل هذا القول قول الشاعر في البيت : «جرمت فزارةُ » : كسبت فزارة أن يغضبوا . قال : وسمعت العرب تقول : فلان جريمة أهله ، بمعنى : كاسبهم ، وخرج يجرمهم : يكسبهم . وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه متقاربة المعنى وذلك أن من حمل رجلاً على بغض رجل فقد أكسبه بغضه ، ومن أكسبه بغضه فقد أحقه له .
فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف ، ما قاله ابن عباس وقتادة ، وذلك توجيهما معنى قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْم : ولا يحملنكم شنآن قوم على العدوان .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار : وَلا يَجْرِمَنّكُم بفتح الياء من : جرمته أجْرِمُه . وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين ، وهو يحيى بين وثاب والأعمش ، ما :
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، أنه قرأ : «وَلا يُجْرِمَنّكُمْ » مرتفعة الياء من أجرمته أجرمه وهو يُجْرمني .
والذي هو أولى بالصواب من القراءتين ، قراءة من قرأ ذلك : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ بفتح الياء ، لاستفاضة القراءة بذلك في قرّاء الأمصار وشذوذ ما خالفها ، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب ، وإن كان مسموعا من بعضها : أجرم يُجْرم ، على شذوذه ، وقراءة القرآن بأفصح اللغات أولى وأحقّ منها بغير ذلك ومن لغة من قال : جَرَمْتُ ، قول الشاعر :
يا أيّها المُشْتَكي عُكْلاً وَما جرَمَتْ ***إلى القبائلِ منْ قَتْلٍ وَإبآسُ
القول في تأويل قوله تعالى : شَنَآنُ قَوْمٍ .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : شَنَآنُ بتحريك الشين والنون إلى الفتح ، بمعنى : بغض قوم توجيها منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على فَعَلان نظير الطّيَران ، والنّسَلان ، والعَسَلان ، والرّمَلان . وقرأ ذلك آخرون : شَنْآنُ قَوْمٍ بتسكين النون وفتح الشين ، بمعنى الاسم توجيها منهم معناه إلى : لا يحملنكم بغض قوم ، فيخرج شنآن على تقدير فعلان ، لأن فَعَلَ منه على فَعِلَ ، كما يقال : سكران من سكر ، وعطشان من عطش ، وما أشبه ذلك من الأسماء .
والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ : شَنَآن بفتح النون محرّكة ، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه : بغض قوم ، وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم . وإذ كان ذلك موجها إلى معنى المصدر ، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على الفعلان بفتح الفاء تحريك ثانيه دون تسكينه ، كما وصفت من قولهم : الدّرَجان ، والرّمَلان من دَرَجَ وَرَمَل ، فكذلك الشنآن من شَنِئة أشنؤه شَنَآنا . ومن العرب من يقول : شَنَان على تقدير فَعَال ، ولا أعلم قارئا قرأ ذلك كذلك ، ومن ذلك قول الشاعر :
ومَا العَيْشُ إلاّ ما يَلَذّ ويُشْتَهَى ***وَإنْ لامَ فيهِ ذُو الشنّانِ وَفَنّدَا
وهذا في لغة من ترك الهمز من الشنآن ، فصار على تقدير فَعَال وهو في الأصل فَعَلان .
ذكر من قال من أهل التأويل : شَنَآنُ قَوْمٍ : بغض قوم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ : لا يحملنكم بُغض قوم .
وحدثني به المثنى مرّة أخرى بإسناده ، عن ابن عباس ، فقال : لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ : لا يجرمنكم بغض قوم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ قال : بغضاؤهم أن تعتدوا .
القول في تأويل قوله تعالى : أنْ صَدّوكُمْ عنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ أنْ تَعْتَدُوا .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرّاء الكوفيين : أَنْ صَدّوكُمْ بفتح الألف من «أَن » بمعنى : لا يجرمنكم بغض قوم بصدّهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وكان بعض قرّاء الحجاز والبصرة يقرأ ذلك : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إنْ صَدّوكُمْ بكسر الألف من «إن » بمعنى : ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدّا عن المسجد الحرام ، أن تعتدوا . فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود : إنْ يَصُدّكُمْ فقراءة ذلك كذلك اعتبارا بقراءته .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قراءة الأمصار ، صحيح معنى كلّ واحدة منهما . وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صدّ عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية ، وأنزلت عليه سورة المائدة بعد ذلك . فمن قرأ : أنْ صَدّوكُمْ بفتح الألف من «أن » فمعناه : لا يحملنكم بغض قوم أنها الناس من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام ، أن تعتدوا عليهم . ومن قرأ : إنْ صَدّوكُمْ بكسر الألف ، فمعناه : لا يجرمنكم شنآن قوم إن صَدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله ، لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة قد حاولوا صَدّهم عن المسجد الحرام قبل أن يكون ذلك من الصّادّين . غير أن الأمر وإن كان كما وصفت ، فإن قراءة ذلك بفتح الألف أبين معنى ، لأن هذه السورة لا تَدَافُع بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحُدَيْبِيَة . وإذ كان ذلك كذلك ، فالصدّ قد كان تقدّم من المشركين ، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادين من أجل صدّهم إياهم عن المسجد الحرام ، وأما قوله : أنْ تَعْتَدُوا فإنه يعني : أن تجاوزا الحدّ الذي حدّه الله لكم في أمرهم . فتأويل الاَية إذن : ولا يحملنكم بُغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أيها المؤمنون أن تعتدوا حكم الله فيهم فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه ، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم . وذُكِر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذحول الجاهلية . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : أنْ تَعْتَدُوا رجل مؤمن من حلفاء محمد ، قَتَل حليفا لأبي سفيان من هُذَيب يوم الفتح بعرفة ، لأنه كان يقتل حلفاء محمد ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : «لَعَنَ اللهُ مَنْ قَتَل بِذَحْلِ الجاهِلِيّةِ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . وقال آخرون : هذا منسوخ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ تَعْتَدُوا قال : بَغْضاؤهم ، حتى تأتوا ما لا يحلّ لكم . وقرأ أنْ صَدّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أنْ تَعْتَدُوا وتعاونوا ، قال : هذا كله قد نسخ ، نسخه الجهاد .
وأولى القوليبن في ذلك بالصواب قول مجاهد : إنه غير منسوخ لاحتماله أن تعتدوا الحقّ فيما أمرتكم به . وإذا احتمل ذلك ، لم يجزأن يقال : هو منسوخ ، إلاّ بحجة يجب التسليم لها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَتَعاوَنُوا على البِرّ وَالتّقْوَى وَلا تَعاوَنُوا على الإثْمِ وَالعُدْوَانِ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَتَعاوَنُووا على البِرّ وَالتّقْوَى وليعن بعضكم أيها المؤمنون بعضا على البرّ ، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به والتّقْوَى : هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه . وقوله : وَلا تَعاوَنُوا على الإثْمِ وَالعُدْوَان يعني : ولا يُعِن بعضكم بعضا على الإثم ، يعني : على ترك ما أمركم الله بفعله . والعُدْوَانِ يقول : ولا على أن تتجاوزا ما حدّ الله لكم في دينكم ، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم . وإنما معنى الكلام : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ، ولكن ليعن بعضكم بعضا بالأمر بالانتهاء إلى ما حدّه الله لكم في القوم الذين صدّوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم ، والانتهاء عما نهاكم الله أن تأتوا فيهم وفي غيرهم وفي سائر ما نهاكم عنه ، ولا يعن بعضكم بعضا على خلاف ذلك . وبما قلنا في البرّ والتقوى قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وتَعَاوَنُوا على البِرّ والتّقْوَى البرّ : ما أُمرتَ به ، والتقوى : ما نُهيتَ عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وتَعَاوَنُوا على البِرّ والتّقْوَى قال : البرّ : ما أُمرت به ، والتقوى : ما نُهيتَ عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ .
وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه وتهديد لمن اعتدى حدّه وتجاوز أمره . يقول عزّ ذكره : وَاتّقُوا اللّهَ يعني : واحذروا الله أيها المؤمنون أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدّه فيما حدّ لكم وخالفتم أمره فيما أمركم به أن نهيه فيما نهاكم عنه ، فتستوجبوا عقابه وتستحقوا أليم عذابه ثم وصف عقابه بالشدة ، فقال عزّ ذكره : إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من خلقه ، لأنها نار لا يُطْفأ حرّها ، ولا يَخْمُد جمرها ، ولا يسكن لهبها . نعوذ بالله منها ومن عمل يقرّبنا منها .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } يعني مناسك الحج ، جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعارا سمى به أعمال الحج ومواقفه لأنها علامات الحج وأعلام النسك . وقيل دين الله لقوله سبحانه وتعالى : { ومن يعظم شعائر الله } أي دينه . وقيل فرائضه التي حدها لعباده . { ولا الشهر الحرام } بالقتال فيه أو بالنسيء . { ولا الهدي } ما أهدي إلى الكعبة ، جمع هدية كجدي في جميع جدية السرح . { ولا القلائد } أي ذوات القلائد من الهدي ، وعطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي ، أو القلائد أنفسها والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ، ونظيره قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له . { ولا آمين البيت الحرام } قاصدين لزيارته . { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } أن يثيبهم ويرضى عنهم ، والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين وليست صفة له ، لأنه عامل والمختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل ، وفائدته استنكار تعرض من هذا شأنه والتنبيه على المانع له . وقيل معناه يبتغون من الله رزقا بالتجارة ورضوانا بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة ، وكان قد استاق سرح المدينة وعلى هذا فالآية منسوخة . وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين { وإذا حللتم فاصطادوا } إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام ولا يلزم من إرادة الإباحة ههنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإباحة مطلقا . وقرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة الوصل عليها وهو ضعيف جدا وقرئ " أحللتم " يقال حل المحرم وأحل { ولا يجرمنكم } لا يحملنكم أو لا يكسبنكم . { شنآن قوم } شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل . وقرأ ابن عامر وإسماعيل عن نافع وابن عياش عن عاصم بسكون النون وهو أيضا مصدر كليان أو نعت بمعنى بغيض قوم وفعلان في النعت أكثر كعطشان وسكران . { أن صدوكم عن المسجد الحرام } لأن صدوكم عنه عام الحديبية . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم . { أن تعتدوا } بالانتقام ، وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب . ومن قرأ { يجرمنكم } بضم الياء جعله منقولا من المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين . { وتعاونوا على البر والتقوى } على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى . { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } للتشفي والانتقام . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فانتقامه أشد .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } خطاب للمؤمنين حقاً أن لا يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حُّدة وطاعته فهي بمعنى معالم الله{[12]} ، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي { شعائر الله } حرم الله ، وقال ابن عباس { شعائر الله } مناسك الحج . وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } وقال ابن عباس أيضاً { شعائر الله } ما حد تحريمه في الإحرام . وقال عطاء بن أبي رباح ، { شعائر الله } جميع ما أمر به أو نهى عنه ، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم .
وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية ، وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه . وتزيل فيه السلاح ، وتنزع الأسنة من الرماح ، وتسميه : ُمنصل الأسنة وتسميه : الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح ، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفراً فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر }{[13]} وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله أعلم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته . .
قال القاضي أبو محمد : والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصاً بقريش ثم فشا في مضر ، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا . . . إذا حبست مضرجها الدماء{[14]}
قال أبو عبيدة أراد رجباً لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ، ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر . .
قال القاضي أبو محمد : فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، وقال عكرمة : المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها ، وقولنا فيها «أول » تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم .
وقوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه{[15]} ، واختلف الناس في { القلائد } فحكى الطبري عن ابن عباس أن { القلائد } هي { الهدي } المقلد وأن { الهدي } إنما يسمى هدياً ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي » الذي يقلد والمقلد منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن { الهدي } إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال { الهدي } جملة ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد ، وقال جمهور الناس : { الهدي } عام في أنواع ما أهدي قربه و { القلائد } ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من الَّسُمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره : بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل لك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني .
وقال مجاهد وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون ، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره ، وقوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين { البيت الحرام } على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أَم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[16]} .
وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة{[17]} وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فجاء الحطم فخلف خيلة خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال : أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره . فخرج فقال النبي عليه السلام لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر »{[18]} ، فمر بسرح من سرح{[19]} المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم . . . ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين خفاق القدم{[20]}
ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجاً وساق هدياً فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه . وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون ، فقال المسلمون يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن { ولا آميّن البيت الحرام }{[21]} .
قال القاضي أبو محمد : فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم ، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت » بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى : { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء ، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت ، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورُضواناً » بضم الراء .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون{[22]} الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم ، وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة .
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في َحرم البشر حسنًة في فصاحة القول{[4419]} ، وقوله تعالى : { فاصطادوا } صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس ، واختلف العلماء في صيغة ( أفعل ) إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات ، فقال الفقهاء : هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة ، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل ، وقال قوم : هي على الندب حتى يدل الدليل ، وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف . ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله { أقيموا الصلاة } ، وقد تجيء للندب كقوله : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] وقد تجيء للإباحة كقوله { فاصطادوا } { وابتغوا من فضل الله } { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندباً ، وقد تجيء للوعيد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقد تجيء للتعجيز كقوله { كونوا حجارة }{[4420]} .
وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا » بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعَى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا فكسر الفاء مراعاةً وتذكراً لكسرة ألف الوصل{[4421]} ، وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم } معناه ولا يكسبنكم ، وجرم الرجل معناه : كسب ، ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب ، وفي الحديث : وتكسب المعدوم ، قال أبو علي : وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب ، وقال الكسائي :جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم { يجرمنكم } معناه يحق لكم كما أن { لا جرم أن لهم النار }{[4422]} معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس { يجرمنكم } معناه يحملنكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر : [ أبو خراش الهذلي ] :
جريمةُ ناهض في رأس نيق . . . ترى لعظام ما جمعت صليبا{[4423]}
معناه كاسب قوت ناهض ، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم ، وقرأ ابن مسعود وغيره «يُجرمنكم » بضم الياء والمعنى أيضاً لا يكسبنكم وأما قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة . . . جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[4424]}
فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى : { شنآن قوم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شَنْآن » متحركة النون ، وقرأ ابن عامر «شنآن » ساكنة النون ، واختلف عن عاصم ونافع ، يقال شنئت الرجل شَنْأً بفتح الشين وشنآناً بفتح النون وشنآناً بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته ، قال سيبويه : كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت{[4425]} كما عدي الرفث ب «إلى » من حيث كان بمعنى الإفضاء .
قال القاضي أبو محمد : فأما من قرأ «شَنآن » بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره ، ويحتمل «الشنآن » بفتح النون أن يكون وصفاً فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم : حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ، ومنه ما أنشده أبو زيد :
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي . . . وفقأت عين الأشوس الأبيان{[4426]}
بفتح الباء وأما من قرأ «شنْآن » بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدراً وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه لياناً ، وقول الأحوص :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإن لام فيه ذو الشنان وفندا{[4427]}
إنما هو تخفيف من «شنآن » الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي قال أبو علي : من زعم أن فعلان إذا أسكنت عينه لم يك مصدراً فقد أخطأ ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفاً فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف ، فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً . وإذا قدرت اللفظة مصدراً فهو مصدر مضاف إلى المفعول ، ومما جاء وصفاً على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان .
قال القاضي أبو محمد : ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة{[4428]} للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير ، وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان . وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما ُصد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما ُصددنا فنزلت الآية ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم » بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم » بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه أن وقع مثل ذلك في المستقبل .
وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم » وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير .
ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون { على البر والتقوى } قال قوم : هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً بشدة العقاب ، وروي أن هذه الآية نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، قاله مجاهد . وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل . .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا } .
اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة { وإذا حللتم فاصطادوا } . ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } . وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنّهم لا يظنّ بهم إحلال المحرّمات ، يدلّ على أنّ المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون .
ومعنى { لا تحلّوا شعائر الله } لا تحلّوا المحرّم منها بين الناس ، بقرينة قوله : { لا تحلّوا } ، فالتقدير : لا تحلّوا مُحرّم شعائرِ الله ، كما قال تعالى : في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء { فيحلّوا ما حرّم الله } [ التوبة : 37 ] ؛ وإلاّ فمِن شعائر الله ما هو حلال كالحَلق ، ومنها ما هو واجب . والمحرّمات معلومة .
والشعائر : جمع شعيرة . وقد تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] . وقد كانت الشعائر كلّها معروفة لديهم ، فلذلك عدل عن عدّها هنا . وهي أمكنة ، وأزمنة ، وذوات ؛ فالصفا ، والمروة ، والمشعر الحرام ، من الأمكنة . وقد مضت في سورة البقرة . والشهر الحرام من الشعائر الزمانية ، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات . فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئيّ على كلّيّة للاهتمام به ، والمراد به جنس الشهر الحرام ، لأنَّه في سياق النفي ، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى : { منها أربعة حُرُم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم } [ التوبة : 36 ] . فالتعريف تعريف الجنس ، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع . وقال ابن عطيّة : الأظهر أنّه أريد رجب خاصّة ليشتدّ أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، فإنَّما خُصّ بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرّمونه ، فلذلك كان يعرف برَجب مضر ؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرّمونه . وكان يقال له : شهر بني أميّة أيضاً ، لأنّ قريشاً حرّموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلّها لقول عوف بن الأحوص :
وشهرِ بني أميّة والهَدايا *** إذا حبست مُضرّجُها الدقاء
وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعمّ . والأظهر أنّ التعريف للجنس ، كما قدّمناه .
والهدي : هو ما يهدى إلى مناسك الحجّ لينحر في المنحر من مِنى ، أو بالمروة ، من الأنعام .
والقلائد : جمع قِلادة وهي ظفائر من صوف أو وَبَر ، يربط فيها نعلان أو قطعة من لِحَاءِ الشجر ، أي قِشره ، وتوضع في أعناق الهدايا مشبَّهة بقلائد النساء ، والمقصود منها أن يُعرف الهدي فلا يُتَعرّض له بغارة أو نحوها . وقد كان بعض العرب إذا تأخّر في مكة حتّى خرجت الأشهر الحُرُم ، وأراد أن يرجع إلى وطنه ، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يُتَعرّضُ له بسوء .
ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته ، وهذا كقول أبي بكر : والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه .
على أنّ القلائد ممّا ينتفع به ، إذ كان أهل مكة يتّخذون من القلائد نعالاً لفقرائهم ، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن ، وهي شُقق من ثياب توضع على كفل البدنة ؛ فيتّخذون منها قُمصاً لهم وأزُراً ، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأنّ في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } [ إبراهيم : 37 ] قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [ المائدة : 97 ] .
وقوله : { ولا آمّين البيت الحرام } عطف على { شعائر الله } : أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجّاج ، فالمراد قاصدوه لحجّه ، لأنّ البيت لا يقصد إلاّ للحجّ ، ولذلك لم يقل : ولا آمِّين مكة ، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه ، لأنّ من جملة حُرمَة البيت حرمة قاصده . ولا شك أنّ المراد آمِّين البيت من المشركين ؛ لأنّ آمِّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال . وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول : وهو أن خيلاً من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضُبَيْعَة الملقّب بالحُطَم ( بوزن زُفر ) ، والمكنّى أيضاً بابننِ هند . نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عَمْرو بننِ مَرْثَد ، وكان الحُطَم هذا من بكر بن وائل ، من نزلاء اليمامة ، فترك خيلَه خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إلام تدعو » فقال رسول الله : " إلى شهاد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة " فقال : حَسَن ما تدعو إليه وسأنظُرُ ولعلّي أن أسْلِم وأرى في أمرك غِلظة ولي مِن وَرائي مَنْ لا أقطَع أمراً دونهم وخرج فمرّ بسَرْح المدينة فاستاق إبلاً كثيرة ولحقه المسلمون لمَّا أُعلموا به فلم يلحقوه ، وقال في ذلك رجزاً ، وقيل : الرجزُ لأحد أصحابه ، وهو رَشِيد بن رَمِيض العَنَزي وهو :
هذا أوَانُ الشَّدّ فاشْتَدّي زِيَمْ *** قد لَفَّها الليلُ بسَوّاق حُطَـم
ليسَ براعِي إبِلٍ ولا غَنَـم *** ولا بَجَزّار على ظَهْر وَضَم
بَاتوا نِيَاماً وابنُ هِنْد لم ينمْ *** باتَ يُقَاسِيها غُلام كالزّلَــم
خَدَلَّجُ الساقَيْنِ خَفَّاقُ القَدَم
ثم أقبل الحُطم في العام القابل وهو عام القَضية فسمعوا تلبيَة حُجَّاج اليمامة فقالوا : هذا الحُطَم وأصحابه ومعهم هَدْي هو ممَّا نهبه من إبل المسلمين ، فاستأذنوا رسول الله في نَهبهم ، فنزلت الآية في النهي عن ذلك . فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية ، وكان النهي عن التعرّض لبُدْن الحُطم مشمولاً لما اشتملت عليه هذه الآية .
والبيت الحرام هو الكعبة . وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس }
[ المائدة : 97 ] في هذه السورة . وجملة { يبتغون فضلاً من ربّهم } صفة ل { آمِّين } من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحجّ إيماء إلى سبب حرمة آمِّي البيت الحرام .
وقد نهى الله عن التعرّض للحجيج بسوء لأنّ الحجّ ابتغاء فضل الله ورضوانه ، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك ، قال النابغة :
حيّاك ربّي فإنَّا لا يَحِلّ لنــا *** لَهْوُ النساءِ وإنّ الدّين قد عَزَما
مشمّرين على خُوص مزمَّمة *** نرجو الإله ونرجو البِرّ والطُعَما
ويتنزّهون عن فحش الكلام ، قال العجّاج :
وَرَبِّ أسْراب حَجيج كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَث التكلّم
ويظهرون الزهد والخشوع ، قال النابغة :
بمُصطحبات من لَصَافٍ وثَبْرة *** بَزُرْنَ إلالاً سَيْرُهُنّ التَّدَافُعُ
عَلَيْهِنّ شُعْث عامدون لربّهـم *** فهُنّ كأطراف الحَنِيّ خَوَاشِعُ
ووجه النَّهي عن التعرّض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين : أَنّ الحالة التي قصدوا فيها الحجّ وتلبّسوا عندها بالإحرام ، حالة خَيْر وقرب من الإيمان بالله وتذكّر نعمه ، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأنّ الخير يتسرّب إلى النفس رويداً ، كما أن الشرّ يتسرّب إليها كذلك ، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله : { وتَعاونوا على البِرّ والتقوى } .
والفضلُ : خير الدنيا ، وهو صلاح العمل . والرضوان : رضي الله تعالى عنهم ، وهو ثواب الآخرة ، وقيل : أراد بالفضل الربح في التجارة ، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلاّ إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكَّة .
{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .
تصريح بمفهوم قوله : { غير محلّي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] لقصد تأكيد الإباحة . فالأمر فيه للإباحة ، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي ، لأنّ تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهياً مستمرّاً ، ثم الأمر به كذلك ، وما هنا : إنَّما هو نهي موقّت وأمر في بقيّة الأوقات ، فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر : أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب . فالصيد مباح بالإباحة الأصليّة ، وقد حُرّم في حالة الإحرام ، فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته .
و { اصطادوا } صيغة افتعال ، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل ، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد . ونظيره : اضطرّه إلى كذا . وقد نُزّل { اصطادوا } منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .
عطف على قوله : { لا تحِلّوا شعائر الله } لِزيادة تقرير مضمونه ، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدأوكم بحرب .
ومعنى { يجرمنّكم } يكسبنّكم ، يقال : جرَمه يجرمه ، مثل ضَرب . وأصله كسب ، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها ، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرَم بمعنى كسب ، قالوا : جَرم فلان لنفسه كذا ، أي كسب .
وعدّي إلى مفعول ثان وهو { أن تعتدوا } ، والتقدير : يكسبكم الشنآن الاعتداء . وأمّا تعديته بعلى في قوله : { ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا }
[ المائدة : 8 ] فلتضمينه معنى يحملنّكم .
والشنآن بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر ، وقد تسكّن النون إمَّا أصالة وإمَّا تخفيفاً هو البغض . وقيل : شدّة البغض ، وهو المناسب ، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص :
وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب ، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس ، فهو مثل الغَليان والنزَوان .
وقرأ الجمهور : { شَنَئان } بفتح النون . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر بسكون النون . وقد قيل : إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان ، أي عدوّ ، فالمعنى : لا يجرمنّكم عدوّ قوم ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف . وإضافة شنآن إذا كان مصدراً من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي بُغضكم قوماً ، بقرينة قوله : { أنْ صدّوكم } ، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه .
وقرأ الجمهور : { أن صدّوكم } بفتح همزة ( أنْ ) . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بكسر الهمزة على أنَّها ( إن ) الشرطية ، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط .
والمسجدُ الحرام اسم جعل علَماً بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب ، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يُدعى بذلك في الجاهليّة ، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يَكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } في سورة البقرة ( 144 ) ، وسيأتي عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبْده ليلاً من المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] .
{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } .
تعليل للنهي الذي في قوله : { ولا يَجْرَمنَّكم شَنئان قوم } . وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة ، ولكنَّها عُطفت : ترجيحاً لما تضمَّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل ، يعني : أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى ، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم ، كان الشأن أن يُعينوا على البرّ والتقوى ، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها ، فيصير تحصيلها رغبة لهم ، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها ، ولو كان عدوّاً ، والحجّ بِرّ فأعينوا عليه وعلى التقوى ، فهم وإن كانوا كفّاراً يُعاونُون على ما هو برّ : لأنّ البرّ يَهدي للتقوى ، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام . ولمَّا كان الاعتداء على العدوّ إنَّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدّاً عن المسجد الحرام ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً ؛ فالضمير والمفاعلة في { تعاونوا } للمسلمين ، أي ليعن بعضكم بعضاً على البرّ والتقوى . وفائدة التعاون تيسير العمل ، وتوفير المصالح ، وإظهار الاتّحاد والتناصر ، حتّى يصبح ذلك خلقاً للأمّة . وهذا قبل نزول قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] .
وقوله : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } تأكيد لمضمون { وتعاونوا على البرّ والتقوى } لأنّ الأمر بالشيء ، وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه ، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه . والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضاً عن ظلم قوم لكُم نحوَهم شنآن .
وقوله : { واتّقوا الله } الآية تذييل . وقوله : { شديد العقاب } تعريض بالتهديد .