المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

بدأت السورة بنهي المؤمنين عن موالاة المشركين أعداء الله وأعدائهم لإصرارهم على الكفر ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من ديارهم بمكة ، وأشارت إلى أن عداوة هؤلاء كامنة للمؤمنين ، لا تلبث أن تستعلن حين يلاقونهم ويتمكنون منهم .

ثم انتقلت إلى بيان الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه في تبرئتهم من المشركين وما يعبدون من دون الله ، معلنين عداوتهم لهم ، حتى يؤمنوا بالله وحده موضحة أن ذلك شأن الذين يرجون لقاء الله ويخشون عقابه .

ثم بينت من تجوز صلتهم من غير المسلمين ومن لا تجوز ، فأما الذين لا يقاتلوننا في الدين ولا يعينون علينا ، فإن لنا أن نبرهم ونقسط إليهم ، وأما الذين قاتلونا في الدين ، وظاهروا على إخراجنا من ديارنا ، فأولئك الذين نهى الله عن برهم والصلة بهم .

ثم بينت السورة حكم المؤمنات اللاتي هاجرون إلى دار الإسلام ، وتركن أزواجهن مشركين ، وحكم المشركات الآتي هاجر أزواجهن مسلمين وقد تركوهن بدار الشرك .

وأتبعت ذلك ببيان بيعة النساء ، وما بايعن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ختمت بما بدأت به من النهي عن موالاة الأعداء الذين غضب الله عليهم ، تقريرا للحكم بينته في مفتتحها ، وأكدته في ثناياها .

1- يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أنصاراً تُفْضُون إليهم بالمحبة الخالصة ، مع أنهم جحدوا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، يخرجون الرسول ويخرجونكم من دياركم ، لإيمانكم بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلب رضائي فلا تتولوا أعدائي ، تُلْقُون إليهم بالمودة سراً ، وأنا أعلم بما أسررتم وما أعلنتم ، ومن يتخذ عدو الله ولياً له فقد ضل الطريق المستقيم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة .

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبد الله بن أبي رافع يقول سمعت علياً رضي الله عنه يقول : " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، قال : فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، قال : فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا حاطب ما هذا ؟ قال : يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقاً في قريش -يقول كنت حليفاً ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم ، فأحببت -إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي ، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على منى شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فأنزل الله تعالى هذه السورة : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } إلى قوله : { سواء السبيل } " . قال المفسرون : نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث ، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أمسلمة جئت ؟ قالت : لا ، قال أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتطعموني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : وأين أنت من شبان مكة ؟ وكانت مغنية نائحة ، قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، فكتب معها إلى أهل مكة ، وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها برداً ، على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة ، وكتب في الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم . فخرجت سارة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرساناً ، فقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فخذوه منها وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها . قال : فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت بالله ما معها كتاب ، فبحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً ، فهموا بالرجوع ، فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسل سيفه فقال : أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك . فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها ، وكانت قد خبأته في شعرها ، فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب ، فأتاه فقال : هل تعرف الكتاب ؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت غريباً فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره . فقام عمر بن الخطاب فقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ فأنزل الله عز وجل في شأن حاطب : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } . { تلقون إليهم بالمودة } قيل : أي المودة ، والباء زائدة ، كقوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم }( الحج- 25 ) وقال الزجاج : معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم ، { وقد كفروا } الواو للحال ، أي : وحالهم أنهم كفروا ، { بما جاءكم من الحق } يعني القرآن { يخرجون الرسول وإياكم } من مكة ، { أن تؤمنوا } أي لأن آمنتم ، كأنه قال : يفعلون ذلك لإيمانكم ، { بالله ربكم إن كنتم خرجتم } هذا شرط جوابه متقدم وهو قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم } { جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة } قال مقاتل : بالنصيحة ، { وأنا أعلم بما أخفيتم } من المودة للكفار ، { وما أعلنتم } أظهرتم بألسنتكم { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } أخطأ طريق الهدى .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الممتحنة [ وهي ] مدنية .

{ 1-9 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .

ذكر كثير من المفسرين ، [ رحمهم الله ] ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فكتب حاطب إلى قريش{[1049]}  يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ليتخذ بذلك يدا عندهم لا [ شكا و ] نفاقا ، وأرسله مع امرأة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه ، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب .

وعاتب حاطبا ، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم ، وإلقاء المودة إليهم ، وأن ذلك مناف للإيمان ، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو ، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا ، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى إيمانكم ، من ولاية من قام بالإيمان ، ومعاداة من عاداه ، فإنه عدو لله ، وعدو للمؤمنين .

فلا تتخذوا عدو الله { وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } أي : تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها ، فإن المودة إذا حصلت ، تبعتها النصرة والموالاة ، فخرج العبد من الإيمان ، وصار من جملة أهل الكفران ، وانفصل عن أهل الإيمان .

وهذا المتخذ للكافر وليا ، عادم المروءة أيضا ، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر ، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير ، ويأمره به ، ويحثه عليه ؟ ! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار ، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة ، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى .

والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله ، بل مجرد العلم بالحق{[1050]}  يدل على بطلان قول من رده وفساده .

ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم ، ويشردونكم من أوطانكم ، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم ، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته ، لأنه رباهم ، وأنعم عليهم ، بالنعم الظاهرة والباطنة ، وهو الله تعالى .

فلما أعرضوا عن هذا الأمر ، الذي هو أوجب الواجبات ، وقمتم به ، عادوكم ، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم ، فأي دين ، وأي مروءة وعقل ، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان ؟ " ولا يمنعهم منه إلا خوف ، أو مانع قوي .

{ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } أي : إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وابتغاء مرضاة الله{[1051]}  فاعملوا بمقتضى هذا ، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، فإن هذا هو الجهاد في سبيله{[1052]}  وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه .

{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } أي : كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها ، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون ؟ ! ، فهو وإن خفي على المؤمنين ، فلا يخفى على الله تعالى ، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ } أي : موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية .


[1049]:- في ب: إلى المشركين من أهل مكة.
[1050]:- كذا في ب، وفي أ: مجرد رد الحق.
[1051]:- في ب: وابتغاء رضاه.
[1052]:- في ب: هذا من أعظم الجهاد في سبيله.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الممتحنة .

بسم الله الرحمن الرحيم :

مقدمة وتمهيد :

1- سورة " الممتحنة " هي السورة الستون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الأحزاب ، وقيل سورة النساء ، وهي من السور المدنية الخالصة ، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية .

واشتهرت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، إلا أن منهم من يقرؤها بفتح الحاء ، على أنها صفة للمرأة التي نزلت فيها ، ومنهم من يقرؤها بكسر الحاء على أنها صفة للسورة .

قال القرطبي : الممتحنة –بكسر الحاء- أي : المختبرة ، أضيف الفعل إليها محازا ، كما سميت سورة براءة بالفاضحة ، لما كشفت من رذائل المنافقين ، ومن قال في هذه السورة الممتحنة –بفتح الحاء- فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها . وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . قال الله –تعالى- : [ فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ] وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن( {[1]} ) .

وقال صاحب الإتقان : وتسمى " سورة الامتحان " و " سورة المودة " .

2- وقد افتتحت هذه السورة بتوجيه نداء إلى المؤمنين ، نهتهم فيه عن اتخاذ أعداء الله وأعدائهم أولياء ، وبينت لهم ما جبل عليه هؤلاء الأعداء من كراهية للحق ، كما بينت لهم سوء عاقبة من يوالي هؤلاء الأعداء .

قال –تعالى- { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة ، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } .

3- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى دعوتهم إلى الاقتداء بأبيهم إبراهيم –عليه السلام- الذي قطع صلته بأقرب الناس إليه ، عندما رآه مصرا على كفره ، وأعلن أنه عدو لكل من أشرك مع الله –تعالى- في العبادة آلهة أخرى .

قال –تعالى- : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا ، وإليك المصير } .

4- ثم بشر –سبحانه- المؤمنين ، بأنه –بفضله وكرمه- سيجمع شملهم بأقاربهم الذين تشددوا في عداوتهم ، بأن يهدي هؤلاء الأقارب إلى الحق ، فيتصل حبل المودة بينهم جميعا ، ببركة اجتماعهم تحت كلمة الإسلام ، فقال –تعالى- : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ، والله قدير ، والله غفور رحيم } .

5- وبعد أن رخص للمؤمنين في مودة الكفار الذين لم يقاتلوهم ولم يلحقوا بهم أذى . . ونهاهم عن مودة الكفار الذين قاتلوهم وآذوهم . . بعد كل ذلك وجه –سبحانه- نداء ثانيا إلى المؤمنين بين لهم حكم النساء اللائي أنين مؤمنات إليهم ، بعد أن تركن أزواجهن الكفار ، وفصل –سبحانه- هذه الأحكام حرصا على النساء المؤمنات .

فقال –تعالى- : { يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ، ولا هم يحلون لهن } .

6- ثم أمر –سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبايع النساء المؤمنات على ما بايع عليه الرجال ، وأن يأخذ عليهن العهود على الطاعة لله –تعالى- والبعد عن محارمه .

قال –تعالى- : { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ، ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يعصينك في معروف ، فبايعهن واستغفر لهن الله ، إن الله غفور رحيم } .

7- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة بتوجيه نداء ثالث إلى المؤمنين نهاهم فيه مرة أخرى عن موالاة أعداء الله وأعدائهم . . فقال –سبحانه- : { يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .

8- هذا والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يراها قد ساقت للمؤمنين ألوانا من التربية التي تغرس العقيدة السليمة في قلوبهم ، وتجعلهم يضحون من أجلها بكل شيء ، ويقدمونها في تصرفاتهم على محبة والأبناء والعشيرة والأموال ، وتكشف لهم عن سوء نيات الكافرين نحوهم ، وعن حرصهم على إنزال الضرر بهم ، كما ضربت لهم الأمثال بإبراهيم –عليه السلام- لكي يقتدوا به في قوة إيمانه ، وفي إخلاصه لدينه ، كما بينت لهم من يجوز لهم مودتهم من الكافرين ، ومن لا يجوز لهم ذلك منهم . . ثم ختمت ببيان بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء المؤمنات المتزوجات من الكافرين ، وبالنساء اللائي جئن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يبايعنه على الإيمان والطاعة .

وسنفصل القول في هذه الأحكام خلال تفسيرنا لهذه السورة الكريمة . .

نسأل الله –تعالى- أن يلهمنا الرشد ، وأن يجنبنا الزلل .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

القاهرة – مدينة نصر

3 من شعبان سنة 1406 ه

2 / 5 / 1986 م

د . محمد سيد طنطاوي

افتتحت سورة " الممتحنة " بهذا النداء للمؤمنين ، وقد تضمن هذا النداء نهيهم عن موالاة أعداء الله وأعدائهم .

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ، ما ذكره الإمام الآلوسى فقال : " نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة . . . فقد أخرج الإمام أحمد ، والبخارى ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذى ، والنسائى ، وابن حبان ، وجماعة عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال : بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - وهومكان بين مكة والمدينة - فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها فأتونى به فخرجنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها : أخرجى الكتاب . فقالت : ما معى من كتاب ، فقلنا : أخرجى الكتاب أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عاقصها ، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه : من حاطب بن أبى بلتعة ، إلى أناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - .

فقال - صلى الله عليه وسلم - " ما هذا يا حاطب ؟ " فقال حاطب : لا تعجل علىَّ يا رسول الله إنى كنت إنسانا ملصقا فى قريش ، ولم أكن منها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيها ، أن أصطنع إليهم يدا ، يحمون بها قرابتى ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن الإسلام .

فقال عمر : دعنى يا رسول الله أضرب عنقه ، فقال ، - صلى الله عليه وسلم - : " إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فنزلت هذه الآيات " .

وقد ذكروا أن هذه القصة كانت فى الوقت الذى أعد فيه النبى - صلى الله عليه وسلم - العدة لأجل العمرة ، سنة صلح الحديبية ، وقيل كانت هذه القصة فى الوقت الذى تهيأ النبى - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة ، وكان من بين الذين علموا ذلك حاطب بن أبى بلتعة .

والمراد بالعدو هنا : الأعداء عموما ، ويدخل فيهم دخولا أولياء كفار قريش ، الذين أرسل إليهم حاطب بن أبى بلتعة خطابه ، لكى يحذرهم من مهاجمة المسلمين لهم .

والمراد بالعداوة : العداوة الدينية التى جعلت المشركين ، يحرصون كل الحرص على أذى المسلمين ، أى : يامن آمنتم بالله - تعالى - إيمانا حقا ، احذروا أن تتخذوا أعدائى وأعداءكم أولياء وأصدقاء وحلفاء . بل جاهدوهم وأغلظوا عليهم ، واقطعوا الصلة التى بينكم وبينهم .

وناداهم بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة العقيدة الدينية فى قلوبهم ولحضهم على الاستجابة لما نهاهم عنه .

وقدم - سبحانه - عداوته للمشركين ، على عداوة المؤمنين لهم ، لأن عداوة هؤلاء المشركين لله - تعالى - أشد وأقبح ، حيث عبدوا غير خالقهم ، وشكروا غير رزاقهم ، وكذبوا رسل ربهم وآذوهم .

وفى الحديث القدسى : " إنى والجن والإنس فى نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيرى ، وأرزق ويشكر سواي . . خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بالنعم . ويتبغضون إلي بالمعاصي " .

وعبر - سبحانه - بالاتخاذ الذى هو افتعال من الأخذ ، للمبالغة فى نهيهم عن موالاة هؤلاء الأعداء . إذ الاتخاذ يشعر بشدة الملابسة والملازمة .

والمفعول الأول لقوله { تَتَّخِذُواْ } قوله : { عَدُوِّي } والمفعول الثانى قوله : { أَوْلِيَآءَ } .

وقوله - سبحانه - : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } تفسير وتوضيح لهذه الموالاة التى نهوا عنها أو فى موضع الحال من ضمير { لاَ تَتَّخِذُواْ } .

وحقيقة الإلقاء : قذف ما فى اليد على الأرض أو فى الفضاء ، والمراد به هنا : إيصال ما يدخل السرور على قلوب أعدائهم . والباء فى قوله : { بالمودة } لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله .

أي : احذروا أن تعاملوا أعدائى وأعداءكم معاملة الأصدقاء والحلفاء ، بأن تظهروا لهم المودة والمحبة .

ويصح أن تكون الباء للسببية فيكون المعنى : تلقون إليهم بأخباركم التى لا يجوز لكم إظهارها لهم ، بسبب مودتكم لهم .

وقد ذكروا أن حاطبا أرسل بهذه الرسالة إلى أهل مكة ، عندما تجهز النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه للذهاب إليها لأجل العمرة عام الحديبية ، أو لأجل فتح مكة .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : { تُلْقُونَ } بم يتعلق ؟ قلت : يجوز أن يتعلق بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } حالا من ضميره . . ويجوز أن يكون استئنافا .

والإلقاء : عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم يقال : ألقى إليه خَراشِىَ صدره - أي أسرار صدره - وأفضى إليه بقشوره .

والباء فى { بالمودة } إما زائدة مؤكدة للتعدى مثلها فى قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف ، ومعناه : تلقون إليهم إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب المودة التى بينكم وبينهم .

ثم ساق - سبحانه - الأسباب التى من شأنها تحمل المؤمنين على عدم موالاة أعداء الله وأعدائهم ، فقال : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق } أي : لا تتخذوا - أيها المؤمنون - هؤلاء الأعداء أولياء ، وتلقون إليهم بالمودة ، والحال أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بما جاءكم على لسان رسولكم - صلى الله عليه وسلم - من الحق الذى يتمثل فى القرآن الكريم ، وفى كل ما أوحاه - سبحانه - إلى رسوله .

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، تصوير هؤلاء الكافرين ، بما ينفر المؤمنين من إلقاء المودة إليهم .

وقوله - تعالى - : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } بيان لسبب آخر من الأسباب التى تدعو المؤمنين إلى مقاطعة أعدائهم الكافرين .

وجملة : { يُخْرِجُونَ الرسول } يصح أن تكون مستأنفة لبيان كفرهم ، أو فى محل نصب حال من فاعل { كَفَرُواْ } وقوله : { وَإِيَّاكُمْ } معطوف على الرسول ، وقدم عليهم على سبيل التشريف لمقامه - صلى الله عليه وسلم - وجملة { أَن تُؤْمِنُواْ } فى محل نصب مفعول لأجله .

أي : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بكفرهم بما جاءكم - أيها المؤمنون - من الحق ، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة إخراج رسولكم - صلى الله عليه وسلم - وإخراجكم من مكة ، من أجل إيمانكم بالله ربكم ، وإخلاصكم العبادة له - تعالى - .

وأسند - سبحانه - محاولة الإخراج إلى جميع الأعداء ، لأنهم كانوا راضين بهذا الفعل ومتواطئين على تنفيذه ؛ بعضهم عن طريق التخطيط له ، وبعضهم عن طريق التنفيذ الفعلى .

والمتأمل فى هذه الجملة الكريمة ، يراها قد ساقت أقوى الأسباب وأعظمها ، للتشنيع على مشركى قريش ، ولإلهاب حماس المؤمنين من أجل عدم إلقاء المودة إليهم .

وجواب الشرط فى قوله - تعالى - : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي } محذوف للدلالة ما قبله عليه أى : إن كنتم - أيها المؤمنون - قد خرجتم من مكة من أجل الجهاد فى سبيلى ، ومن أجل طلب مرضاتى ، فاتركوا اتخاذ عدوى وعدوكم أولياء ، واتركوا مودتهم ومصافاتهم .

فالمقصود من الجملة الكريمة ، زيادة التهييج للمؤمنين ، حتى لا يبقى فى قلوبهم أى شىء من المودة نحو الكافرين .

وقوله - سبحانه - : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } بدل من قوله - تعالى - : قبل ذلك : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } . بدل بعض من كل . لأن إلقاء المودة أعم من أن تكون فى السر أو فى العلن .

ويصح أن يكون بدل اشتمال ، لأن الإسرار إليهم بالمودة ، مما اشتمل عليه إلقاء المودة إليهم .

وهذه الجملة جىء بها على سبيل العتاب والتعجيب ممن فى قلبه مودة لهؤلاء الكافرين ، بعد أن بين الله - تعالى - له ، ما يوجب قطع كل صلة بهم .

ومفعول { تُسِرُّونَ } محذوف . أي : ترسلون إليهم أخبار المسلمين سرا ، بسبب مودتكم لهم ؟ وجملة : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } هى مناط التعجيب ممن يتخذ هؤلاء الأعداء أولياء . أو من يسر إليهم بالمودة ، وهى حالية من فاعل { تُلْقُونَ و تُسِرُّونَ } .

أي : تفعلون ما تفعلون من إلقاء المودة إلى عدوى وعدوكم ، ومن إسراركم بها إليهم والحال أنى أعلم منهم ومنكم بما أخفيتموه فى قلوبكم ، وما أعلنتموه ، ومخبر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بذلك .

وما دام الأمر كذلك فكيف أباح بعضكم لنفسه ، أن يطلع عدوى وعدوكم على مالا يجوز إطلاعه عليه ؟ ! .

قال الآلوسى : قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ } فى موضع الحال و { أَعْلَمُ } أفعل تفضيل . والمفضل عليه محذوف . أى : منكم . . . و { مَآ } موصولة أو مصدرية ، وذكر { مَآ أَعْلَنتُمْ } مع الاستغناء عنه ، للإشارة إلى تساوى العلمين فى علمه - عز وجل - .

ولذا قدم { مَآ أَخْفَيْتُمْ } . وفى هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم فى إسرار المودة إليهم كأنه قيل : تسرون إليهم بالمودة والحال أنى أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ، ومطلع رسولى على ما تسرون ، فأى فائدة وجدوى لكم فى الإسرار .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة من يخالف أمره فقال : { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .

والضمير فى قوله : { يَفْعَلْهُ } يعود إلى الاتخاذ المفهوم من قوله { لاَ تَتَّخِذُواْ } .

أي ومن يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء ، ويلقى إليهم بالمودة ، فقد أخطأ طريق الحق والصواب ، وضل عن الصراط المستقيم .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة

هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني . حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة ؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا ، وتقصر عنه أحيانا ، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه ؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوما في هذه الأرض .

وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل . وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة ، أو تتعلق بها ، مادة من مواد هذا الإعداد . مادة مقدرة في علم الله ، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه .

وفي مضطرب الأحداث ، وفي تيار الحياة المتدفق ، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض . فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد ، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة . وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيمانيالخاص المميز ، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك ، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة . أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث ، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم ، ومرة بعد مرة ، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة ، وتحت مؤثرات متنوعة ؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى . وكان يعلم أن رواسب الماضي ، وجواذب الميول الطبيعية ، والضعف البشري ، وملامسات الواقع ، وتحكم الإلف والعادة ، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة . وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر ، والصهر المتوالي . . فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله ، وتتوالى الموعظة بها . والتحذير على ضوئها ، والتوجيه بهديها ، مرة بعد مرة .

وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير ، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة ، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس . والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله . بتوفيق الله . على يدي رسول الله .

هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل ، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم . عالم محوره الإيمان بالله وحده ، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده ، بعروة واحدة لا انفصام لها ؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى . عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة . ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة . هي عقدة الإيمان بالله . والوقوف تحت راية الله . في حزب الله .

إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني . رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله . وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب . وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان . وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله .

ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض . كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور !

وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة . وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل .

وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى . وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة ؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات !

وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه . وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن !

وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة . وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر . ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة .

وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين . وكان من أهل بدر أيضا . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان . فلما عزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : " اللهم عم عليهم خبرنا " . . وأخبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب . فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا . فأطلع الله - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه . وإمضاء لقدره في فتح مكة . فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها .

وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبدالرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : " بعثني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبا مرثد والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين " . فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلنا : الكتاب ? فقالت ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا . فقلنا : ما كذب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي محتجزة بكساء ، فأخرجته . فانطلقنا به إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال عمر : يا رسول الله . قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما حملك على ما صنعت ? " قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أردت أن تكون لي عند القوم يد . يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : " أليس من أهل بدر ? - فقال - : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . . وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . . وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد .

ولوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن " ظلال القرآن " والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] القائد المربي العظيم . .

وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على سر الحملة . . وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها ؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها .

ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهو لا يعجل حتى يسأل : " ما حملك على ما صنعت " في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . . ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده . بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : " إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فدعني فلأضرب عنقه " . . فعمر - رضي الله عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم . أما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية . في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . .

ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح . . ذلك حين يقول : " أردت أن تكون لي عند القوم يد . . يدفع الله بها عن أهلي ومالي " . . فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : " وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع . . الله . . به عن أهله وماله " فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة . إنما العشيرة أداة يدفع الله بها . .

ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " صدق . لا تقولوا إلا خيرا " . .

وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث ؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بسر الحملة . وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة . ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين . كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها ! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به ! فلم يرد من هذا شيء . مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم . . .

والحادث متواتر الرواية . أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري . ولا نستبعد صحة هذه الرواية ؛ ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن .

كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .

وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .

وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمرا ، ويحقق بهم قدرا . ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا . في الدنيا والآخرة . وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته . في عالم الشعور وعالم السلوك .

والسورة كلها في هذا الاتجاه . حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار . وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر . . فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام .

ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله ، ممن غضب عليهم الله ، سواء من المشركين أو من اليهود . ليتم التمييز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان . .

( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم ، أن تؤمنوا بالله ربكم . إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، وودوا لو تكفرون ) . .

تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي : يا أيها الذين آمنوا . . نداء من ربهم الذي آمنوا به ، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه . يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .

وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :

( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . .

فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .

ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم :

( وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم ) . .

فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة ? كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم ? إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .

وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهادا في سبيله :

( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وإبتغاء مرضاتي . . )

فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله !

ثم يحذرهم تحذيرا خفيا مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها : ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) .

ثم يهددهم تهديدا مخيفا ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :

( ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .

وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول ? !

وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مدنية .

كان سبب نزول صدر هذه السورة {[1]} الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن حاطبًا هذا كان رجلا من المهاجرين ، وكان من أهل بدر أيضًا ، وكان له بمكة أولاد ومال{[2]} ، ولم يكن من قريش أنفسهم ، بل كان حليفًا{[3]} لعثمان . فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : " اللهم ، عَمِّ عليهم خبرنا " . فعمد حاطب هذا فكتب كتابًا ، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة ، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [ من غزوهم ] {[4]} ، ليتخذ بذلك عندهم يدًا ، فأطلع الله رسوله على ذلك{[5]} استجابة لدعائه . فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها ، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته . قال الإمام أحمد :

حدثنا سفيان ، عن عَمْرو ، أخبرني حَسَن بن محمد بن علي ، أخبرني عُبَيد الله{[6]} بن أبي رافع - وقال مرة : إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره : أنه سمع عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب ، فخذوه منها " . فانطلقنا تَعَادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، قلنا : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب . قلنا : لتخرجن الكتاب أو لنُلقين الثياب . قال : فأخرجت الكتاب من عِقَاصها ، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا حاطب ، ما هذا ؟ " . قال : لا تعجل علي ، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش ، ولم أكن من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه صَدَقكم " . فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق . فقال : " إنه قد شهد بدرًا ، ما يدريك لَعَلّ الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " .

وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة ، من غير وجه ، عن سفيان بن عُيَينة ، به{[7]} . وزاد البخاري في كتاب " المغازي " : فأنزل الله السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } {[8]} . وقال في كتاب التفسير : قال عمرو : ونزلت فيه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } قال{[9]} : " لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرو " . قال البخاري : قال علي - يعني : ابن المديني - : قيل لسفيان في هذا : نزلت { لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } ؟ فقال سفيان : هذا في حديث الناس ، حفظته من عمرو ، ما تركت منه حرفًا ، وما أرى{[10]} أحدًا حفظه غيري{[11]} .

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حُصَين بن عبد الرحمن ، عن سعد{[12]} بن عُبَيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثَد ، والزبير بن العوام ، وكلنا فارس ، وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين : فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتابُ ؟ فقالت : ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا ، فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! لتخرجن الكتاب أو لنُجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حُجْزتها وهي مُحتَجِزة بكساء فأخرجته . فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : يا رسول الله ، قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فَدعني فلأضْرِب عنقه . فقال : " ما حملك على ما صنعت ؟ " . قال : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله ، أردت أن تكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : " صدق ، لا تقولوا له إلا خيرًا " . فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : " أليس من أهل بدر ؟ " فقال : " لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو : قد غفرت لكم " . فدَمِعت عينا عُمر ، وقال : الله ورسوله أعلم{[13]} .

هذا لفظ البخاري في " المغازي " في غزوة بدر ، وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم :

حدثنا علي بن الحسن الهِسْنجَاني ، حدثنا عبيد بن يعيش ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سِنان - هو سعيد بن سنان - عن عمرو بن مُرة الجَمَلي ، عن أبي البختري الطائي{[14]} ، عن الحارث ، عن علي قال : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة ، أسرّ إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة ، فيهم حاطب بن أبي بلتعة وأفشى في الناس أنه يريد خيبر . قال : فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثد ، وليس منا رجل إلا وعند{[15]} فرس ، فقال : " ائِتوا روضة خاخ ، فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب ، فخذوه منها " . فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلنا لها : هات الكتاب . فقالت : ما معي كتاب . فوضعنا متاعها وفتشناها{[16]} فلم نجده في متاعها ، فقال أبو مرثد : لعله ألا يكون معها . فقلت : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا{[17]} . فقلنا لها : لتخرجِنَّه أو لنُعرينَّك . فقالت : أما تتقون الله ؟ ! ألستم مسلمين ؟ فقلنا : لتخرجنه أو لنعرينَّك . قال عمرو بن مرة : فأخرجته من حُجُزَتها . وقال حبيب بن أبي ثابت : أخرجته{[18]} من قُبُلها . فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة . فقام عمر فقال : يا رسول الله ، خان الله ورسوله ، فائذن لي فلأضرب عنقه . فقال رسول الله : " أليس قد شهد بدرًا ؟ " . قالوا : بلى . وقال عمر : بلى ، ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلعل الله اطلع إلى على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، إني بما تعملون بصير " . ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال : " يا حاطب ، ما حملك على ما صنعت ؟ " . فقال : يا رسول الله ، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش ، وكان لي بها مال وأهل ، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله ، فكتبت إليهم بذلك ووالله - يا رسول الله - إني لمؤمن بالله ورسوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق حاطب ، فلا تقولوا لحاطب إلا خيرًا " . قال{[19]} حبيب بن أبي ثابت : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } الآية .

وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مِهْران ، عن أبي سنان - سعيد بن سنان - بإسناده مثله{[20]} . وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسير ، فقال محمد بن إسحَاق بن يَسَار في السيرة .

حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا قال : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير{[21]} إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة - زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم غيره أنها : سارة ، مولاة لبني عبد المطلب - وجعل لها جُعلا على أن تبلغه قُريشًا فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به . وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال : " أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا{[22]} له من أمرهم " .

فخرجا حتى أدركاها بالخُلَيفْة - خليفة{[23]} بني أبي أحمد - فاستنزلاها بالخليفة ، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا ، فقال لها علي بن أبي طالب : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا {[24]} ولتُخرجِنَّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنَّك . فلما رأت الجِدّ منه قالت : أعرض . فأعرض ، فحلت قُرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه . فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله حاطبًا فقال : " يا حاطب ما حملك على هذا ؟ " . فقال : يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله{[25]} ما غَيَّرت ولا بَدّلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم وَلَد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، دعني فَلأضربْ عنقه ، فإن الرجل قد نافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك يا عمر ! لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم " . فأنزل الله ، عز وجل ، في حاطب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] إلى آخر القصة{[26]} .

وروى مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة نحو ذلك . وهكذا ذكر مقاتل بن حيان : أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة : أنه بعث سارة مولاة بني هاشم ، وأنه أعطاها عشرة دراهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، فأدركاها بالجحفة . . . وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم . وعن السدي قريبا منه . وهكذا قال العوفي ، عن ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، وغير واحد : أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة .

فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } يعني : المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين ، الذين شرع الله{[28659]} عداوتهم ومصارمتهم ، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء ، كما قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] .

وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 57 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [ النساء : 144 ] . وقال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] ؛ ولهذا قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عُذْرَ حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش ، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد .

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا مصعب بن سلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن ربعي بن حراش ، سمعت حُذيفة يقول : ضَرَب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا واحدًا وثلاثة وخمسة وسبعة ، وتسعة ، وأحد عشر - قال : فضرب لنا منها مثلا وترك سائرها ، قال : " إن قومًا كانوا أهل ضعف ومسكنة ، قاتلهم أهل تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فَعَمَدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلّطوهم ، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه " {[28660]} .

وقوله : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم ؛ لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم ، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ؛ ولهذا قال : { أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } أي : لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين ، كقوله : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ . الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] ، وكقوله { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [ الحج : 40 ] .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
[8]:في د: "أن يعذب".
[9]:في د: "اللهم إني أعوذ بك".
[10]:في د: "لا يحتسبون".
[11]:في د: "وجلس".
[12]:في د: "فإذا هو بسمكة".
[13]:في د: "الغالبة".
[14]:في د: "وضربوهما".
[15]:في ف، أ: "زاكية".
[16]:في ف: "قد بلغت مني" وهو خطأ.
[17]:في إسناده عاصم وقد تكلم فيه وشيخه مجهول. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4569) ومسلم في صحيحه برقم (763) من طريق كريب عن ابن عباس بنحوه.
[18]:صحيح البخاري برقم (4725).
[19]:في جـ، ر، أ، و: "بيضاء".
[20]:في ت، ف، أ: "فذكره بنحوه".
[21]:في ت، ف، أ: "عن".
[22]:في ت: "قال: فأصاب".
[23]:في أ: "وسباق".
[24]:صحيح البخاري برقم (4727).
[25]:في أ: "فقال وقال".
[26]:في ت: "هل على الأرض"، وفي ف: "هل في الناس".
[28659]:- (7) في م: "شرع لهم".
[28660]:- (1) المسند (5/407) وقال الهيثمي في المجمع (5/232): "وفيه الأجلح الكندي وهو ثقة وقد ضعف، وبقية رجاله ثقات".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم :

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ } .

قال أبو جعفر : يقول : تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي من المشركين وَعَدُوّكُمْ أوْلياءَ يعني أنصارا .

وقوله : { تُلْقُونَ إلَيْهمْ بالمَوَدّة }يقول جلّ ثناؤه : تلقون إليهم مودّتكم إياه . ودخول الباء في قوله : بالمَوَدّةِ وسقوطها سواء ، نظير قول القائل : أريد بأن تذهب ، وأريد أن تذهب سواء ، وكقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ }والمعنى : ومن يرد فيه إلحادا بظلم ومن ذلك قول الشاعر :

فَلَمّا رَجَتْ بالشّرْبِ هَزّ لَهَا الْعَصَا *** شَحِيحٌ لَهُ عِنْدَ الإزَاءِ نَهِيمُ

بمعنى : فلما رجت الشربَ .

{ وقد كَفَرُوا بِمَا جاءَكُمْ مِنَ الحَقّ }يقول : وقد كفر هؤلاء المشركون الذين نهيتكم أن تتخذوهم أولياء بما جاءكم من عند الله من الحقّ ، وذلك كفرهم بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله على رسوله .

وقوله : { يَخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإيّاكُمْ أنْ تُوءْمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ }يقول جلّ ثناؤه : يخرجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياكم ، بمعنى : ويخرجونكم أيضا من دياركم وأرضكم ، وذلك مشركي قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة .

وقوله : { أن تُوءْمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ }يقول جلّ ثناؤه : يخرجون الرسول وإياكم من دياركم ، لأن آمنتم بالله .

وقوله : { إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي وَابْتِغاءَ مَرْضَاتِي } من المؤخر الذي معناه التقديم ، ووجه الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي ، وابتغاء مرضاتي يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم . ويعني بقوله تعالى ذكره : { إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي } : إن كنتم خرجتم من دياركم ، فهاجرتم منها إلى مهاجرَكم للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم ، وديني الذي أمرتكم به . والتماس مرضاتي .

وقوله : { تُسِرّونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدّةَ }يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسرّون أيها المؤمنون بالمودّة إلى المشركين بالله ، { وأنا أعْلَمُ بِمَا أخْفَيْتُمْ }يقول : وأنا أعلم منكم بما أخفى بعضكم من بعض ، فأسره منه{ وَما أعْلَنْتُمْ }يقول : وأعلم أيضا منكم ما أعلنه بعضكم لبعض ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاء السّبيلِ }يقول جلّ ثناؤه : ومن يسرّ منكم إلى المشركين بالمودّة أيها المؤمنون فقد ضلّ : يقول : فقد جار عن قصد السبيل التي جعلها الله طريقا إلى الجنة ومحجة إليها .

وذُكر أن هذه الاَيات من أوّل هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بَلتعة ، وكان كتب إلى قُرَيش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ، وبذلك جاءت الاَثار والرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباريّ ، والفضل بن الصباح قالا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن حسن بن محمد بن عليّ ، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزّبير بن العوّام والمقداد قال الفضل قال سفيان : نفر من المهاجرين فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها » فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة ، فوجدنا امرأة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ليس معي كتاب ، قلنا : لتخرجنّ الكتاب ، أو لنلقينّ الثياب ، فأخرجته من عِقَاصها ، وأخذنا الكتاب فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا حاطِبُ ما هَذَا ؟ » قال : يا رسول الله لا تعجل عليّ كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم يكن لي فيهم قرابة ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات ، يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ فيها يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ صَدَقَكُمْ » فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «إنّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرا ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلّ اللّهَ قَدِ اطّلَعَ على أهْلِ بَدْرِ فَقال : اعْمَلُوا ما شِئتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » زاد الفضل في حديثه ، قال سفيان : ونزلت فيه { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله حتّى تُوءْمِنُوا باللّهِ وَحْدَهُ } .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان سعيد بن سنان ، عن عمرو بن مرّة الجملي ، عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث ، عن عليّ رضي الله عنه قال : لما أردا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة ، أسرّ إلى ناس من أصحابه أنه يريد مكة . فيهم حاطب بن أبي بلتعة ، وأفشى في الناس أنه يريد خيبر ، فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يريدكم ، قال : فبعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس ، فقال : ائْتُوا رَوْضَةَ خاخ ، فإنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بِها امْرأةً وَمَعَها كِتاب ، فَخذُوهُ مِنْها فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : هاتي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فوضعنا متاعها وفتشنا ، فلم نجده في متاعها ، فقال أبو مرثد : لعله أن لا يكون معها ، فقلت : ما كذَب النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا كذبَ ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، وإلا عريناك قال عمرو بن مرّة : فأخرجته من حُجْزَتها ، وقال حبيب : أخرجته من قبلها فأتينا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، فقام عمر فقال : خان الله ورسوله ، ائذن لي أضرب عنقه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألْيسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرا ؟ » قال : بلى ، ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَلَعَلّ اللّهَ قَدِ اطّلَعَ عَلى أهْل بَدْرٍ ، فَقالَ : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ » ، ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم ، فأرسل إلى حاطب ، فقال : «ما حملك على ما صنعت ؟ » فقال : يا نبيّ الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، وكان لي بها أهل ومال ، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله ، فكتبت إليهم بذلك ، والله يا نبيّ الله إني لمؤمن بالله وبرسوله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «صَدَقَ حاطِبُ بْنُ أبي بَلْتَعَةَ ، فَلا تَقُولُوا لِحاطِبَ إلاّ خَيْرا » ، فقال حبيب بن أبي ثابت : فأنزل الله عزّ وجلّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ . . . الآية .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياء تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدّةِ . . . إلى آخر الآية ، نزلت في رجل كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة من قريش ، كتب إلى أهله وعشيرته بمكة ، يخبرهم وينذرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر إليهم ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحيفته ، فبعث إليها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأتاه بها .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزّبير ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، قالوا : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب وجعل لها جُعْلاً ، على أن تبلغه قريشا ، فجعلته في رأسها . ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت . وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام رضي الله عنهما ، فقال : «أدرِكا امْرأةً قَدْ كَتَبَ مَعَها حاطِبٌ بكِتاب إلى قُرَيْش يُحَذّرُهُمْ ما قَدِ اجْتَمَعْنا لَهُ فِي أمْرِهِمْ » ، فخرجا حتى أدركا بالحليفة ، حليفة ابن أبي أحمد فاستنزلاها فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئا ، فقال لها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : إني أحلف بالله ما كُذِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كُذِبنا ، ولتخرِجِنّ إليّ هذا الكتاب ، أو لنكشفنك فلما رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض عني ، فأعرض عنها ، فحلّت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب فدفعته إليه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا ، فقال : «يا حاطب ما حَمَلَكَ على هَذَا ؟ » فقال : يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدّلت ، ولكني كنت امرأ في القوم ليس لي أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد ، فصانعتهم عليه ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَما يُدْرِيكَ يا عُمَرُ لَعَلّ الله قَدِ اطّلَعَ على أصحَاب بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقالَ : اعْمَلُوا ما شِئْتم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » فأنزل الله عزّ وجلّ في حاطب : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله وَإلَيْكَ أنَبْنا . . . } إلى آخر القصة .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة قال : لما نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ في حاطب بن أبي بلتعة ، كتب إلى كفار قريش كتابا ينصح لهم فيه ، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، فأرسل عليا والزّبير ، فقال : «اذْهَبا فإنّكُما سَتَجدَنِ امْرأةً بِمَكانِ كَذَا وكَذَا ، فأتَيَا بكِتاب مَعَها » ، فانطلقا حتى أدركاها ، فقالا : الكتاب الذي معك ، قالت : ليس معي كتاب ، فقالا : والله لا ندع معك شيئا إلا فتّشناه ، أو تخرجينه ، قالت : أولستم مسلمين ؟ قالا : بلى ، ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن معك كتابا قد أيقنت أنفسنا أنه معك فلما رأت جدّهما أخرجت كتابا من بين قرونها ، فذهبا به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار قريش ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أنْت كَتَبْت هَذَا الكِتاب ؟ » قال : نعم ، قال : «ما حَمَلَكَ على ذَلكَ ؟ » قال : أما والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ، ولكني كنت امرأ غريبا فيكم أيّها الحيّ من قريش ، وكان لي بمكة مال وبنون ، فأردت أن أدفع بذلك عنهم ، فقال عمر رضي الله عنه : ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَهْلاً يا بْن الخَطّاب ، وما يُدْرِيكَ لَعَل الله قَدِ اطّلَع إلى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فأنّي غافِرٌ لَكُمْ » قال الزهري : فيه نزلت حتى غَفُورٌ رَحِيمٌ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } في مكاتبة حاطب بن أبي بلتعة ، ومن معه كفار قريش يحذرهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . حتى بلغ سَوَاء السّبِيلِ } : ذُكر لنا أن حاطبا كتب إلى أهل مكة يخبرهم سير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم زمن الحديبية ، فأطلع الله عزّ وجلّ نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، وذُكر لنا أنهم وجدوا الكتاب مع امرأة في قرن من رأسها ، فدعاه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال : «ما حَمَلَكَ على الذِي صَنَعْتَ ؟ » قال : والله ما شَكَكْتُ في أمر الله ، ولا ارتددت فيه ، ولكن لي هناك أهلاً ومالاً ، فأردت مصانعة قريش على أهلي ومالي . وذُكر لنا أنه كان حليفا لقريش لم يكن من أنفسهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك القرآن ، فقال : { إنْ يَثْقَفُوكُمْ يكُونُوا لَكُمْ أعْداءً ويَبْسِطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ وألْسِنَتَهُمْ بالسّوءِ وَوَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة مدنية وآيها ثلاث عشرة آية .

بسم الله الرحمن الرحيم :{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، فإنه لما علم أن رسول صلى الله عليه وسلم يغزو أهل مكة كتب إليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم وأرسل كتابه مع سارة مولاة بني المطلب ، فنزل جبريل عليه السلام فأعلم رسول الله ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة فجحدت فهموا بالرجوع ، فسل علي رضي الله تعالى عنه السيف فأخرجته من عقاصها ، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال ما حملك عليه فقال يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أهلي ، فأردت أن آخذ عندهم يدا وقد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره تلقون إليهم بالمودة تفضون إليهم المودة بالمكاتبة والباء مزيدة ، أو إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة ، والجملة حال من فاعل لا تتخذوا أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط في الإسم دون الفعل { وقد كفروا بما جاءكم من الحق }حال من فاعل أحد الفعلين ، { يخرجون الرسول وإياكم }أي من مكة وهو حال من كفروا أو استئناف لبيانه ، { أن تؤمنوا بالله ربكم }بأن تؤمنوا به وفيه تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان ، { إن كنتم خرجتم }عن أوطانكم { جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } علة للخروج وعمدة للتعليق وجواب الشرط محذوف دل عليه لا تتخذوا ، { تسرون إليهم بالمودة }بدل من{ تلقون } أو استئناف معناه أي طائل لكم في إسرار المودة أو الإخبار بسبب المودة ، { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم }أي منكم وقيل أعلم مضارع والباء مزيدة وما موصولة أو مصدرية ، { ومن يفعله منكم } أي من يفعل الاتخاذ { فقد ضل سواء السبيل } أخطأه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

( 60 ) سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة .

تفسير سورة الممتحنة{[1]}

وهي مدنية بإجماع من المفسرين .

قوله عز وجل :

العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش ، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة{[11036]} ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فوَّرى عن ذلك بخيبر ، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر ، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده ، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث علياً والزبير وثالثاً هو المقداد ، وقيل أبو مرثد{[11037]} ، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاح{[11038]} ، فإن بها ظعينة{[11039]} معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش ، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة ، فقالوا لها : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب ، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئاً ، فقال بعضهم : ما معها كتاب ، فقال علي : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . قالت : أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها ، وقيل : أخرجته من حجزتها ، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم{[11040]} فقال لحاطب : من كتب هذا ؟ فقال : أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي . فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر . فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ولا تقولوا لحاطب إلا خير » ، فنزلت الآية لهذا السبب{[11041]} ، وروي أن حاطباً كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل ، والسيل ، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير ، و { تلقون } في موضع الصفة ل { أولياء } ، وألقيت يتعدى بحرف الجر ، وبغير حرف جر ، فدخول الباء وزوالها سواء ، وهذا نظير قوله عز وجل : { وألقيت عليك محبة مني }{[11042]} [ طه : 39 ] وقوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب }{[11043]} [ آل عمران : 151 ] وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ : «وقد كفروا لما » بلام . . .

وقوله تعالى : { يخرجون } في موضع الحال من الضمير في { كفروا } والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم ، وهي حال موصوفة ، فلذلك ساق الفعل مستقبلاً والإخراج قد مر ، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤدياً إلى الخروج ، وقوله تعالى : { إن تؤمنوا } مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله ، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط ، والتقدير : «إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » و { جهاداً } نصب على المصدر وكذلك { ابتغاء } ، ويجوز أن يكون ذلك مفعولاً من أجله ، و «المرضاة » مصدر كالرضى ، و { تسرون } بدل من { تلقون } ، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء ، كأنه قال أنتم { تسرون } ، ويصح أن تكون فعلاً مرسلاً ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما ، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء ، فيترجح بهذا أن { تسرون } فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم ، وقوله تعالى : { أعلم } يحتمل أن يكون أفعل ، ويحتمل أن يكون فعلاً ، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى : { وأنا أعلم } الآية ، جملة في موضع الحال ، وقرأ أهل المدينة «وأنا » بإشباع الألف في الإدراج ، وقرأ غيرهم «وأنا » بطرح الألف في الإدراج ، والضمير في { يفعله } عائد على الاتخاذ المذكور ، ويجوز أن تكون { سواء } مفعولاً ب { ضل } وذلك على بعد ، وذلك على تعدي { ضل } ، ويجوز أن يكون ظرفاً على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى ، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[11036]:هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، صحابي جليل، شهد الوقائع كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الرماة، وكانت له تجارة واسعة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى المقوقس حاكم مصر، كان أحد فرسان قريش وشعرائها، مات في المدينة.(الإصابة).
[11037]:المقداد بن عمرو بن ثعلبة، البهراني، ثم الكنجي، ثم الزهري، تبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري فنسب إليه فقيل: المقداد بن الأسود، صحابي مشهور، من السابقين، لم يكن ببدر فارسا غيره، مات سنة ثلاث وثلاثين، وأما أبو مرثد فهو كناز بن الحصين بن يربوع الغنوي، أبو مرثد- بفتح الميم وثاء بعد الراء الساكنة، صحابي بدري مشهور بكنيته، مات سنة اثنتي عشرة للهجرة(تقريب التهذيب)، وأما علي والزبير فغنيان عن التعريف.
[11038]:مكان بين مكة والمدينة، على بعد اثني عشر ميلا من المدينة.
[11039]:الظعينة: المرأة في الهودج.
[11040]:قيل: كان في الكتاب ما يأتي:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأضفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره".
[11041]:أخرجه أحمد، والحميدي، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو عوانة، وابن حبان، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي وأبو نعيم معا في الدلائل، عن علي رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[11042]:من الآية (39) من سورة (طه).
[11043]:من الآية (151) من سورة (آل عمران).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف ب( سورة الممتحنة ) . قال القرطبي : والمشهور على الألسنة النطق في كلمة { الممتحنة } بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي .

ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية { يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } إلى قوله { بعصم الكوافر } . فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان . وأضيفت السورة إلى تلك الآية .

وقال السهيلي : أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة . يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي .

وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر : وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمان بن عوف . كما سميت سورة قد سمع الله ( سورة المجادلة ) بكسر الدال .

ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس ، أي النساء الممتحنة .

قال في الإتقان : وتسمى { سورة الامتحان } ، { وسورة المودة } ، وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي ولم يذكر سنده .

وهذه السورة مدنية بالاتفاق .

واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية . وآياتها طوال .

واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة .

روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال : قال عمرو بن دينار : نزلت فيه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } قال سفيان : هذا في حديث الناس لا أدري في الحديث أو قول عمرو . حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اه .

وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر وزهير من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة ذكر الآية . وجعلها إسحاق أي بن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان اه . ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك .

واختلفوا في آن كتابة إليهم أكان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري ، قال : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة . فكتب حاطب إلى أهل مكة . . . إلى آخره ، فإن قوله : أفشى ، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة . ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين : وقال ابن عطية : نزلت هذه السورة سنة ست .

وقال جماعة : كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات ، ودرج عليه معظم المفسرين .

ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية . ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور .

وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى قال بعضهم : إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح ، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه .

وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور . عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء .

أغراض هذه السورة

اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخروجهم من بلادهم .

وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول ، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين ، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه .

وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة .

وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم . وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة .

وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين .

ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية . وهي الآية الثانية عشرة .

وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة .

والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة .

{ يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } .

اتفق المفسرون وثبت في « صحيح الأحاديث » أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العُزّى من قريش . وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر .

وحاصل القصة مأخوذة مما في « صحيح الآثار » ومشهور السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تجهّز قاصداً مكة . قيل لأجل العمرة عام الحديبية ، وهو الأصح ، وقيل لأجل فتح مكة وهو لا يستقيم ، فقدمتْ أيامئذٍ من مكة إلى المدينة امرأة تسمّى سارة مولاةٌ لأبي عَمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف وكانت على دين الشرك فقَالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالي ( تعني من قُتل من مواليها يوم بدر ) . وقد اشتدت بي الحاجة فقدمتُ عليكم لتعطوني وتكسوني فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها ، وجاءها حاطب بن أبي بلتعة فأعطاها كتاباً لتبلغه إلى من كتب إليهم من أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم ، وآجرها على إبلاغه فخرجت ، وأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليّاً والزبير والمقدادَ وأبا مرثد الغَنوي ، وكانوا فرساناً . وقال : انطلقوا حتى تأتوا رَوضة خَاخخٍ ، فإنّ بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها . فخرجوا تتعادى بهم خيلهم حتى بلغوا روضة خاخ فإذا هم بالمرأة . فقالوا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقالوا : لتخرجنَّ الكتاب أو لَنُلْقِيّنَ الثّياب ( يعنون أنهم يجردونها ) فأخرجته من عقاصها ، وفي رواية من حُجْزتها .

فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا حاطب ما هذا ؟ قال : لا تعجل عليَّ يا رسول الله . فإني كنت امرأ ملصقاً في قريش وكان لمن كان معك من المهاجرين قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمُون بها قرابتي ( يريد أمه وإخوته ) ، ولم أفعله كُفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضىً بالكفر بعد الإِسلام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم صَدقَ . فقال عمر : دعني يا رسول الله أضربْ عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدراً وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقال : لا تقولوا لحاطب إلاّ خيراً فأنزل الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآيات .

والظاهر أن المرأة جاءت متجسسة إذ ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّن يوم الفتح أربعةً منهم هذه المرأة لكن هذا يعارضه ما جاء في رواية القصة من قول النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا منها الكتاب وخَلُّوا سبيلها " .

وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيراً من إتيان مثل فعل حاطب .

والعدوّ : ذو العداوة ، وهو فعول بمعنى فاعل من : عدا يعدو ، مثل عفوّ . وأصله مصدر على وزن فعول مثل قَبول ونحوه من مصادر قليلة . ولكونه على زنة المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع . قال تعالى : { فإنهم عدو لي } [ الشعراء : 77 ] ، وتقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة [ النساء : 92 ] .

والمعنى : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء . والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدأوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصاراً لشركهم فعدُّوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم . وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناواة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي . فمعنى إضافة عدوّ إلى ياء التكلم على تقدير : عدوّ ديني ، أو رسولي .

والاتخاذ : افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة . وقد تقدم في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم } في سورة [ النساء : 71 ] . ولذلك لزمه ذكر حال بعد مفعوله لتدل على تعيين جانب المعاملة من خير أو شر . فعومل هذا الفعل معاملة صيَّر . واعتبرت الحال التي بعده بمنزلة المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني من باب ظن وأخواته إلا حال في المعنى ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً إلهة } في سورة [ الأنعام : 74 ] .

وجملة { تلقون إليهم بالمودة } في موضع الحال من ضمير { لا تتخذوا } ، أو في موضع الصفة ل { أولياء } أو بيان لمعنى اتخاذهم أولياء .

ويجوز أن تكون جملة في موضع الحال من ضمير { لا تتخذوا } لأن جعلها حالاً يتوصل منه إلى التعجيب من إلقائهم إليهم بالمودة .

والإِلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض . واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في موقعه ، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل . قال تعالى : { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } في سورة [ النحل : 86 ] .

والباء في { بالمودة } لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله . وأصل الكلام : تلقون إليهم المودة ، كقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وقوله : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم .

وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } وهي حال من ضمير { إليهم } أو من { عدوي } .

« وما جاءكم من الحق » هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإِيجاز مع ما في الصلة من الإِيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدي فإن الحق محبوب مرغوب .

وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلاّ فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون .

وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشىء عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم .

وفي ذلك أيضاً إلهاب لقلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين .

وجملة { يخرجون الرسول وإياكم } حال من ضمير { كفروا } ، أي لم يكتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من بلدكم لأنْ تؤمنوا بالله ربكم ، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم . وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم . ولذلك أجري على اسم الجلالة وصف ربِّكم على حدّ قوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 1 3 ] ثم قال : { لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 6 ] .

وحكيت هذه الحالة بصيغة المضارع لتصوير الحالة لأن الجملة لما وقعت حالاً من ضمير { وقد كفروا } كان إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملاً فظيعاً ، فأريد استحضار صورة ذلك الإِخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له .

والإِخراج أريد به : الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على المسلمين وأذى لهم .

وأسند الإِخراج إلى ضمير العدوّ كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين . وربما أغْرَوا به سفهاءهم ، ولذلك فالإِخراج مجاز في أسبابه ، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي .

وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو علة النهي عن موادتهم .

وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى : { أن تؤمنوا } ، لإِفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم ، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبَّب لهم الخروج من بلادهم .

وقوله : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } شرط ذُيّل به النهي من قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } . وهذا مقام يستعمل في مثله الشرطُ بمنزلة التتميم لما قبله دون قصد تعليق ما قبله بمضمون فعل الشرط ، أي لا يقصد أنه إذا انتفى فعل الشرط انتفى ما عُلق عَليه كما هو الشأن في الشروط بل يقصد تأكيد الكلام الذي قبله بمضمون فعل الشرط فيكون كالتعليل لِما قبله ، وإنما يؤتى به في صورة الشرط مع ثقة المتكلم بحصول مضمون فعل الشرط بحيث لا يُتوقع من السامع أن يحصل منه غيرُ مضمون فعل الشرط فتكون صيغة الشرط مراداً بها التحذير بطريق المجاز المرسل في المركَّب لأن معنى الشرط يلزمه التردد غالباً . ولهذا يؤتى بمثل هذا الشرط إذا كان المتكلم واثقاً بحصول مضمونه متحققاً صحة ما يقوله قبل الشرط .

كما ذكر في « الكشاف » في قوله تعالى : { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنا أول المؤمنين } في سورة [ الشعراء : 51 ] ، في قراءة من قرأ إن كنا أول المؤمنين بكسر همزة ( إنْ ) وهي قراءة شاذة فتكون ( إن ) شرطية مع أنهم متحققون أنهم أول المؤمنين فطمعوا في مغفرة خطاياهم لتحققهم أنهم أول المؤمنين ، فيكون الشرط في مثله بمنزلة التعليل وتكون أداة الشرط مثل ( إذْ ) أو لام التعليل .

وقد يَأتِي بمثل هذا الشرط مَن يُظهر وجوب العمل على مقتضى ما حصل من فعل الشرط وأن لا يخالَف مقتضاه كقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } [ الأنفال : 41 ] إلى قوله : { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا } [ الأنفال : 41 ] ، أي فإيمانكم ويقينكم مما أنزلنا يوجبان أن ترضوا بصرف الغنيمة للأصناف المعيّنة من عند الله . ومنه كثير في القرآن إذا تتبعتَ مواقعه .

ويغلب أن يكون فعل الشرط في مثله فعل كون إيذاناً بأن الشرط محقق الحصول .

وما وقع في هذه السورة من هذا القبيل فالمقصود استقرار النهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء وعقب بفرض شرطه موثوق بأن الذين نهوا متلبسون بمضمون فعل الشرط بلا ريب ، فكان ذكر الشرط مما يزيد تأكيد الانكفاف .

ولذلك يجَاء بمثل هذا الشرط في آخر الكلام إذ هو يشبه التتميم والتذييل ، وهذا من دقائق الاستعمال في الكلام البليغ .

قال في « الكشاف » في قوله تعالى : { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } في سورة [ الفرقان : 42 ] و ( لولا ) في مثل هذا الكلام جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعة مَجرى التقييد للحكم المطلق . وقال هنا { إن كنتم خرجتم } متعلق ب { لا تتخذوا } وقول النحويين في مثله على أنه شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه . اه . يعني أن فرقاً بين كلام النحويين وبين ما اختاره هُو مِنْ جَعْله متعلقاً ب { لا تتخذوا } فإنه جعل جواب الشرط غير منوي . قلت : فينبغي أن يعد كلامه من فروق استعمال الشروط مثل فروق الخبر وفروق الحال المبوب لكليهما في كتاب « دلائل الإِعجاز » . وكلام النحاة جرى على غالب أحوال الشروط التي تتأخر عن جوابها نحو : اقبَل شفاعة فلان إنْ شَفِع عندك ، وينبغي أن يتطلب لتقديم ما يدل على الجواب المحذوف إذَا حذف نكتة في غير ما جرى على استعمال الشرط بمنزلة التذييل والتتميم .

وأداة الشرط في مثله تشبه { إنْ } الوصلية و ( لو ) الوصلية ، ولذلك قال في « الكشاف » هنا : إن جملة { إن كنتم خرجتم } متعلقة ب { لا تتخذوا } يعني تعلقَ الحال بعاملها ، أي والحال حالُ خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مَرضاتَه بناء على أن شرط { إن } . و ( لو ) الوصليّتين يعتبر حالاً . ولا يعكر عليه أن شرطهما يقترن بواو الحال لأن ابن جنّي والزمخشري سوّغا خلوَّ الحال في مثله عن الواو والاستعمال يشهد لهما .

والمعنى : لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودّتهم ، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق ، وأخرجوكم لأجل إيمانكم . إن كنتم خرجتم من بلادكم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي ، فكيف تُوالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم .

والمراد بالخروج في قوله : { إن كنتم خرجتم } الخروج من مكة مهاجَرة إلى المدينة . فالخطاب خاص بالمهاجرين على طريقة تخصيص العموم في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } روعي في هذا التخصيص قرينة سبب نزول الآية على حادث حاطب بن أبي بلتعة .

و { جهاداً } ، و { ابتغاءَ مرضاتي } مصدران منصوبان على المفعول لأجله .

{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أعلنتم } .

يجوز أن تكون الجملة بياناً لجملة { تلقون إليهم بالمودة } ، أو بدل اشتمال منها فإن الإسرار إليهم بالمودة مما اشتمل عليه الإِلقاء إليهم بالمودة . والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب ، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم ، والتعجيب مستفاد من تعقيبه بجملة { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } ، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا .

والإِسرار : التحدث والإِخبار سراً .

ومفعول { تسرون } يجوز أن يكون محذوفاً يدل عليه السياق ، أي تخبرونهم أحوال المسلمين سراً .

وجيء بصيغة المضارع لتصوير حالة الإِسرار إليه تفظيعاً لها .

والباء في { بالمودة } للسببية ، أي تخبرونهم سراً بسبب المودة أي بسبب طلب المودة لهم كما هو في قضية كتاب حاطب .

ويجوز أن يكون { بالمودة } في محل المفعول لفعل { تسرون } والباءُ زائدةً لتأكيد المفعولية كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .

وجملةُ { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } في موضع الحال من ضمير { تسرون } أو مُعترضةٌ ، والواو اعتراضية .

وهذا مناط التعجيب من فعل المعرَّض به وهو حَاطب بن أبي بلتعة . وتقديم الإِخفاء لأنه المناسب لقوله : { وأنا أعلم } . ولموافقته للقصة .

و { أعلم } اسم تفضيل والمفضل عليه معلوم من قوله : { تسرون إليهم } فالتقدير : أعلم منهم ومنكم بما أخفيتم وما أعلنتم .

والباء متعلقة باسم التفضيل وهي بمعنى المصاحبة .

{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .

عطف على جملة النهي في قوله تعالى : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } ، عُطف على النهي التوعدُ على عدم الانتهاء بأن من لم ينته عما نُهي عنه هو ضالّ عن الهُدَى .

وضمير الغيبة في { يفعله } عائد إلى الاتخاذ المفهوم من فعل { لا تتخذوا عدوي } أي ومن يفعل ذلك بعد هذا النهي والتحذير فهو قد ضلّ عن سواء السبيل .

و { سواء السبيل } مستعار لأعمال الصلاح والهُدَى لشبهها بالطريق المستوي الذي يَبلُغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة . والمراد به هنا ضلّ عن الإِسلام وضلّ عن الرشد .

و { مَن } شرطية الفعل بعدها مستقبل وهو وعيد للذين يفعلون مثل ما فعل حاطب بعد أن بلغهم النهي والتحذير والتوبيخ والتفظيع لعمله .