المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

46- قل لهم : إنما آمركم بخصلة واحدة هي : أن تقوموا - مخلصين لله بعيدين عن التقليد - في البحث بإخلاص لله ، ومتفرقين اثنين اثنين ليتعاونا في التأمل ، وواحداً واحداً ينظر بعدل وإنصاف ، ثم تتفكروا في أمر صاحبكم - محمد - الذي عاشرتموه وعرفتم سلامة عقله . ما به من جنون حين تصدى لهذا الأمر . إن هو إلا نذير لكم بعذاب شديد مقبل أمامكم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

قوله تعالى : { قل إنما أعظكم } آمركم وأوصيكم بواحدة ، أي : بخصلة واحدة ، ثم بين تلك الخصلة فقال : { أن تقوموا لله } لأجل الله ، { مثنى } أي : اثنين اثنين ، { وفرادى } أي : واحداً واحد { ثم تتفكروا } جميعاً أي : تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون ، فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا ، { ما بصاحبكم من جنة }أي : جنون ، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس ، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق ، كقوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } { إن هو } ما هو ، { إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قال مقاتل : تم الكلام عند قوله : ثم تتفكروا أي : في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له ، ثم ابتدأ فقال : { ما بصاحبكم من جنة } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

{ 46 - 50 } { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ * قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }

أي { قُلْ } يا أيها الرسول ، لهؤلاء المكذبين المعاندين ، المتصدين لرد الحق وتكذيبه ، والقدح بمن جاء به : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : بخصلة واحدة ، أشير عليكم بها ، وأنصح لكم في سلوكها ، وهي طريق نصف ، لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي ، ولا إلى ترك قولكم ، من دون موجب لذلك ، وهي : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } أي : تنهضوا بهمة ، ونشاط ، وقصد لاتباع الصواب ، وإخلاص للّه ، مجتمعين ، ومتباحثين في ذلك ، ومتناظرين ، وفرادى ، كل واحد يخاطب نفسه بذلك .

فإذا قمتم للّه ، مثنى وفرادى ، استعملتم فكركم ، وأجلتموه ، وتدبرتم أحوال رسولكم ، هل هو مجنون ، فيه صفات المجانين من كلامه ، وهيئته ، وصفته ؟ أم هو نبي صادق ، منذر لكم ما يضركم ، مما أمامكم من العذاب الشديد ؟

فلو قبلوا هذه الموعظة ، واستعملوها ، لتبين لهم أكثر من غيرهم ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ليس بمجنون ، لأن هيئاته{[741]}  ليست كهيئات المجانين ، في خنقهم ، واختلاجهم ، ونظرهم ، بل هيئته أحسن الهيئات ، وحركاته أجل الحركات ، وهو أكمل الخلق ، أدبا ، وسكينة ، وتواضعا ، ووقارا ، لا يكون [ إلا ] لأرزن الرجال عقلا .

ثم [ إذا ] تأملوا كلامه الفصيح ، ولفظه المليح ، وكلماته التي تملأ القلوب ، أمنا ، وإيمانا ، وتزكى النفوس ، وتطهر القلوب ، وتبعث على مكارم الأخلاق ، وتحث على محاسن الشيم ، وترهب{[742]}  عن مساوئ الأخلاق ورذائلها ، إذا تكلم رمقته العيون ، هيبة وإجلالا وتعظيما .

فهل هذا يشبه هذيان المجانين ، وعربدتهم ، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم ؟ "

فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلام هل هو رسول اللّه أم لا ؟ سواء تفكر وحده ، أو مع غيره ، جزم بأنه رسول اللّه حقا ، ونبيه صدقا ، خصوصا المخاطبين ، الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره .


[741]:- في ب: هيئته.
[742]:- في ب: وتزجر
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

بعد كل ذلك لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الحجج القاطعة ، والأقوال الحكيمة ، التى تهدى إلى الرشد بأبلغ أسلوب ، واصدق بيان ، فقال - تعالى - : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ . . . إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } .

قوله - تعالى - { أَعِظُكُمْ } من الوعظ ، وهو تذكير الغير بالخير والبر بكلام مؤثر رقيق يقال : وعظه يعظه وعظا وعظه ، إذا أمره بالطاعة ووصاه بها .

وقوله { بِوَاحِدَةٍ } صفة لموصوف محذوف .

والتقدير : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين قالوا الكذب فى شأنك وفى شأن ما جئت به ، قل لهم : إنما أعظكم وآمركم وأوصيكم بكلمة واحدة ، أو بخصلة واحدة .

ثم فسر - سبحانه - هذه الكلمة بقوله : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى } . والمراد بالقيام هنا : التشمير عن ساعد الجد ، وتلقى ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بقلب مفتوح . وعقل واع ، ونفس خالية من التعصب والحقد والعكوف على التقليد .

و { مثنى وفرادى } أى : متفرقين اثنين اثنين ، وواحدة واحدا ، وهما منصوبان على الحال .

{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } بعد ذلك فى أمر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وفى أمر رسالته ، وفى أمر ما جاء به من عند ربه ، فعند ذلك ترون أنه على الحق ، وأنه قد جاءكم بما يسعدكم .

فالآية الكريمة تأمرهم أن يفكر كل اثنين بموضوعية وإنصاف فى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يعرض كل واحد منهما حصيلة تفكيره على صاحبه ، وأن يفكر كل واحد منهم على انفراد - أيضا فى شأن هذا الرسول ، من غير تعصب وهوى .

وقدم الاثنين فى القيام على المنفرد ، لأن تفكير الاثنين فى الأمور بإخلاص واجتهاد وتقدير ، أجدى فى الوصول إلى الحق من تفكير الشخص الواحد ولم يأمرهم بأن يتفكروا فى جماعة ، لأن العقلية الجماعية كثيرا ما تتبع الانفعال الطارئ . وقلما تتريث فى الحكم على الأمور .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها ، أصبتم الحق ، وتخلصتم من الباطل - وهى : أن تقوموا لوجه الله خالصا ، متفرقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به .

أما الاثنان : فيتكفر ان ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ، ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح ، والنظر الصحيح على جادة الحق يفكر فى نفس .

وكذلك الفرد : ه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ، ويعرض فكره على عقله وذهنه ، وما استقر عنده من عادات العقلاء ، ومجارى أحوالهم . والذى أوجب تفرقهم مثنى وفرادى ، أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمى البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول . ومع ذلك يقل الإِنصاف ويكثر الاعتساف : ويثور عجاج التعصب .

وقوله - سبحانه - : { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } كلام مستأنف بجئ به لتنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المفرتون من كونه قد أصيب بالجنون .

أى : اجتمعوا اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ، ثم تفكروا بإخلاص وروية فترون بكل تأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس به شئ من الجنون ، إنما هو أرجح الناس عقلا ، وأصدقهم قولا ، وأفضلهم علما ، وأحسنهم عملا ، وأزكاهم نفسا ، وأنقاهم قلبا ، وأجمعهم لكل كمال بشرى .

وقوله - تعالى - { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بيان لوظيفته صلى الله عليه وسلم أى : ليس به صلى الله عليه وسلم من جنون ، وإنما هو نذير لكم ، يحذركم ويخوفكم من العذاب الشديد الذى سينزل بكم يوم القيامة ، إذا ما بقيتم على شرككم وكفركم ، وهذا العذاب ليس بعيدا عنكم .

قال الإِمام ابن كثير : " قال الامام أحمد : حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثنى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : " أيها الناس أتدرون ما مثلى ومثلكم " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم فقال : " إنما مثلى ومثلكم كمثل قوم خافوا عدوا يأتيهم . فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشى أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبته وقال : أيها الناس أوتيتم . أيها الناس وأتيتم . . " " .

وبهذا الاسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة جميعا ، إن كادت لتسبقنى " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

43

وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق ، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل :

( قل : إنما أعظكم بواحدة . . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .

إنها دعوة إلى القيام لله . بعيداً عن الهوى . بعيداً عن المصلحة . بعيداً عن ملابسات الأرض . بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله . بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة . والمؤثرات الشائعة في الجماعة .

دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط ، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ؛ ولا مع العبارات المطاطة ، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها .

دعوة إلى منطق الفطرة الهادى ء الصافي ، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس ؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة .

وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة . منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات . وعلى مراقبة الله وتقواه .

وهي( واحدة ) . . إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق . القيام لله . . لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة . . التجرد . . الخلوص . . ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون .

( أن تقوموا لله . مثنى وفرادى ) . . مثنى ليراجع أحدهما الآخر ، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارى ء ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء . . وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادى ء عميق .

( ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة ) . . فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة . وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده . إن هو إلا القول المحكم القوي المبين .

( إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .

لمسة تصور العذاب الشديد وشيكاً أن يقع ، وقد سبقه النذير بخطوة . لينقذ من يستمع . كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق . وهو تصوير - فوق أنه صادق - بارع موح مثير . .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر ، حدثني عبدالله بن بريرة عن أبيه - رضي الله عنه - قال : خرج علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوماً ، فنادى ثلاث مرات : " أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم ? " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال - صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم . فبعثوا رجلاً يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم ، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم " . .

وروي بهذا الإسناد قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بعثت أنا والساعة جميعاً . إن كادت لتسبقني " . .

ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي . يتبعه الإيقاع الثاني . ( قل : ما سألتكم من أجر فهو لكم . إن أجري إلا على الله . وهو على كل شيء شهيد ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : إنما آمركم بواحدة ، وهي : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } أي : تقوموا قياما خالصًا لله ، من غير هوى ولا عصبية ، فيسأل بعضكم بعضا : هل بمحمد من جنون ؟ فينصح بعضكم بعضا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي : ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ، ويتفكر في ذلك ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } .

هذا معنى ما ذكره مجاهد ، ومحمد بن كعب ، والسُّدِّيّ ، وقتادة ، وغيرهم ، وهذا هو المراد من الآية .

فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أعطيت ثلاثا لم يعطهن مَن قبلي ولا فخر : أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لمن قبلي ، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها . وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ، وكان كل نبي يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، أتيمم بالصعيد ، وأصلي حيث أدركتني الصلاة ، قال الله : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي " - فهو حديث ضعيف الإسناد ، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد ، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة ، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها{[24399]} والله أعلم .

وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } : قال{[24400]} البخاري عندها :

حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن خَازم ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرَّة ، عن سعيد بن جُبَيْر{[24401]} ، عن ابن عباس قال : صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم ، فقال : " يا صباحاه " . فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ فقال : " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم ، أما كنتم تصدقوني ؟ " قالوا : بلى . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك ! ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد ] . {[24402]}

وقد تقدم عند قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريدة ، {[24403]} عن أبيه قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : " أيها الناس ، أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم ، فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه : أيها الناس ، أوتيتم . أيها الناس ، أوتيتم - ثلاث مرات " .

وبهذا الإسناد{[24404]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة جميعًا ، إن كادت لتسبقني » . تفرد به الإمام أحمد في مسنده . {[24405]}


[24399]:- سبق تخريج حديث جابر ، رضي الله عنه ، في الصحيحين عند تفسير الآية: 28 من هذه السورة.
[24400]:- في ت: "روى".
[24401]:- في ت: "بإسناده".
[24402]:- صحيح البخاري برقم (4801).
[24403]:- في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن زيد".
[24404]:- في ت "وبإسناده".
[24405]:- المسند (5/348).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } .

يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك : إنما أعظكم أيّها القوم بواحدة وهي طاعة الله ، كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ قال : بطاعة الله .

وقوله : أنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى يقول : وتلك الواحدة التي أعظكم بها هي أن تقوموا لله اثنين اثنين ، وفُرادَى فُرادَى ، فإن في موضع خفض ترجمة عن الواحدة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى قال : واحدا واثنين .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ إنّمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى رجلاً ورجلين . وقيل : إنما قيل : إنما أعظكم بواحدة ، وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى . مَثْنَى يقول : يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان على المناظرة ، هل علمتم بمحمد صلى الله عليه وسلم جنونا قطّ ؟ ثم ينفرد كل واحد منكم ، فيتفكر ويعتبر فردا هل كان ذلك به ؟ فتعلموا حينئذٍ أنه نذير لكم .

وقوله : ثُمّ تَتَفَكّرُوا ما بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنّةٍ يقول : لأنه ليس بمجنون . وقوله إنْ هُوَ إلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يقول : ما محمد إلاّ نذير لكم ينذركم على كفركم بالله عقابه أمام عذاب جهنم قبل أن تَصْلَوْها ، وقوله : «هو » كناية اسم محمد صلى الله عليه وسلم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

{ قل إنما أعظكم بواحدة } أرشدكم وانصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه : { أن تقوموا لله } وهو القيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الانتصاب في الأمر خالصا لوجه الله معرضا عن المراء والتقليد . { مثنى وفرادى } متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا ، فإن الازدحام يشوش الخاطر وبخلط القول . { ثم تتفكروا } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته ، ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أعني . { ما بصاحبكم من جنة } فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك ، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه ، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من غير تحقق ووثوق ببرهان ، فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك ، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة . وقيل { ما } استفهامية والمعنى : ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قدامه لأنه مبعوث في نسيم الساعة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى عبادة الله والنظر في حقيقة نبوته هو ويعظهم بأمر مقرب للأفهام فقوله { بواحدة } معناه بقضية واحدة إيجازاً لكم وتقريباً عليكم ، وقوله { أن } مفسرة ، ويجوز أن تكون بدلاً من { واحدة } ، وقوله { تقوموا لله مثنى وفرادى } يحتمل أن يريد بالطاعة والإخلاص والعبادة فتكون الواحدة التي وعظ بها هذه ، ثم عطف عليها أن يتفكروا في أمره هل هو به جنة أو هو بريء من ذلك والوقف عند أبي حاتم { ثم تتفكروا } .

قال الفقيه الإمام القاضي : فيجيء { ما بصاحبكم } نفياً مستأنفاً وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التحقيق كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله والإيمان به ، ويحتمل أن يريد بقيامهم أن يكون لوجه الله في معنى التفكر في محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الواحد التي وعظ بها أن يقوموا لمعنى الفكرة - في أمر صاحبهم ، وكأن المعنى أن يفكر الواحد بينه وبين نفسه ويتناظر الاثنان على جهة طلب التحقيق ، هل بمحمد صلى الله عليه وسلم جنة أم لا ؟ وعلى هذا لا يوقف على { تتفكروا } وقدم المثنى لأن الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وقد قال الشاعر : [ الطويل ]

إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة . . . فيزداد بعض القوم من بعضهم علما{[9673]}

وقرأ يعقوب «ثم تفكروا » بتاء واحدة ، وقال مجاهد بواحدة معناه بلا إله إلا الله وقيل غير هذا مما لا تعطيه الآية ، وقوله { بين يدي } مرتب على أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به .


[9673]:يريد أن لقاء الأفكار، وتجمع الآراء نتيجة للحوار والمناقشة يأتي بكل نادر وغريب، والإنسان يتعلم من غيره إذا التقى معه في نقاش موضوعي هادئ.