القسم في مستهل هذه السورة يجلي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتحدث به من خبر الوحي ، وما يبلغه عنه ما ضل في شيء منه وما غوى ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما تحدث به عن رحلته إلى السماء في حادث المعراج ، ما زاغ بصره وما طغى .
ثم تنتقل السورة إلى الحديث عن تفاهة عقول الكافرين في عبادتهم لأصنام اصطنعوها بأيديهم ، وسموها بأسماء من عندهم ، كما سموا الملائكة إناثا بعد أن جعلوا لله البنات ، واختصوا أنفسهم بالذكور .
ثم تطلب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم ، وترك أمرهم إلى الله الذي له في السماوات والأرض ملكا وخلقا ، والذي سيجازى المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه ، وهو أعلم بجميع أطوار خلقه وأحوالهم ، متبعة ذلك بالتنديد بمن أنكر حساب كل إنسان على عمله ، كما جرت بذلك الشرائع السابقة ، وأخبرت صحف موسى وإبراهيم . وقررت الآيات كل هذه المعاني بما عرضت من صور القدرة وآيات الله في الأمم السابقة .
ثم تختم السورة بتوضيح أن القرآن نذير من النذر التي أنذرت بها الأمم السابقة ، ليخشوا يوم القيامة الذي قرب وقته ، وتعنى على الكافرين بالقرآن غفلتهم عن ذلك ، واستبدالهم الضحك مكان بكائهم واتعاظهم به ، وقد طلبت إلى المؤمنين أن يسجدوا لله الذي أنزله ويعبدوه .
1 - أقسم بالنجم إذا هوى للغروب : ما عدل محمد عن طريق الحق وما اعتقد باطلا .
قوله عز وجل : { والنجم إذا هوى } قال ابن عباس في رواية الوالبي والعوفي : يعني الثريا إذا سقطت وغابت ، وهويه مغيبه ، والعرب تسمي الثريا نجماً . وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : " ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع " ، وأراد بالنجم الثريا . وقال مجاهد : هي نجوم السماء كلها حين تغرب ، لفظه واحد ومعناه الجمع ، سمي الكوكب نجماً لطلوعه ، وكل طالع نجم ، يقال : نجم السن والقرن والنبت : إذا طلع . وروي عن عكرمة عن ابن عباس : أنه الرجوم من النجوم ، يعني ما ترمى به الشياطين عند استراقهم السمع . وقال أبو حمزة الثمالي : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة . وقيل : المراد بالنجم القرآن ، سمي نجماً لأنه نزل نجوماً متفرقة في عشرين سنة ، وسمي التفريق : تنجيماً ، والمفرق : منجماً ، هذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، وقول الكلبي والهوي : النزول من أعلى إلى أسفل . وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له ، ومنه قوله عز وجل : { والنجم والشجر يسجدان }( الرحمن-6 ) ، وهويه سقوطه على الأرض . وقال جعفر الصادق : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إذ نزل من السماء إلى الأرض ليلة المعراج ، و الهوي : النزول ، يقال : هوى يهوي هوياً إذا نزل ، مثل مضى يمضي مضياً .
{ 1-18 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }
يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي : سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار ، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة ، ما أوجب أن أقسم به ، والصحيح أن النجم ، اسم جنس شامل للنجوم كلها ، وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي ، لأن في ذلك مناسبة عجيبة ، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء ، فكذلك الوحي وآثاره زينة للأرض ، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء ، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم .
* والمقسم عليه ، تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه ، والغي في قصده ، ويلزم من ذلك أن يكون مهتديا في علمه ، هاديا ، حسن القصد ، ناصحا للأمة{[890]} بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم ، وفساد القصد{[891]}
1- سورة " النجم " من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ثنتان وستون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وستون في غيره ، وكان نزولها بعد سورة " الإخلاص " ، فهي تعتبر من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن ، إذ لم يسبقها في النزول سوى اثنتين وعشرين سورة ، أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثالثة والخمسون .
2- ويبدو أنها سميت بهذا الاسم منذ عهد النبوة . .
قال الآلوسي : سورة " والنجم " . وتسمى –أيضا- سورة النجم –بدون واو- . وهي مكية على الإطلاق . وفي الإتقان : استثنى منها : الذين يجتنبون كبائر الإثم . . إلى آخر الآية . . . وهي –كما أخرج ابن مردويه- عن ابن مسعود قال : أول سورة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها ، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة سورة " والنجم " . فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته يأخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، وهو أمية بن خلف . .
وذكر أبو حيان أن سبب نزولها ، قول المشركين : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يختلق القرآن . . . ( {[1]} ) .
3- وقد افتتحت السورة الكريمة بقسم منه –سبحانه- بالنجم ، على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، ثم وصف –سبحانه- جبريل –عليه السلام- وهو أمين الوحي ، بصفات تدل على قوته وشدته ، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه على هيئته التي خلقه الله عليها .
قال –تعالى- : [ والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى ] .
4- ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الآلهة المزعومة فبينت أن هذه الآلهة إنما هي أسماء أطلقها الجاهلون عليها ، دون أن يكون لها أدنى نصيب من الصحة ، وأن العبادة إنما تكون لله وحده .
قال –سبحانه- : [ أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى . تلك إذا قسمة ضيزى . إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ] .
5- ثم أرشد الله –تعالى- رسول صلى الله عليه وسلم إلى الطريق الحكيم الذي يجب عليه أن يسلكه في دعوته ، وسلاه عما لحقه من المشركين من أذى ، فقال –سبحانه- : [ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، ذلك مبلغهم من العلم ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ] .
6- وبعد أن ساق –سبحانه- جانبا من مظاهر رحمته بعباده [ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ] أتبع ذلك ببيان مظاهر عدله في خلقه ، وقدرته على كل شيء ، وساق ما يشهد لذلك من أخبار الغابرين المكذبين الذين لا يخفى حالهم على المشركين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأنذر هؤلاء المشركين بسوء المصير ، إذا لم يعودوا إلى الحق ، ويكفوا عن جحودهم وعنادهم . .
قال –تعالى- : [ هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الأزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون . وأنتم سامدون . فاسجدوا لله واعبدوا ] .
7- هذا ، والمتأمل في هذه السورة الكريمة يراها بجانب إقامتها الأدلة الساطعة على وحدانية الله –تعالى- وعلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه يراها بجانب ذلك قد ساقت ما ساقت من براهين واضحة ، ومن توجيهات حكيمة . . بأسلوب بليغ أخاذ ، له لفظه المنتقى ، ومعناه السديد ، وتراكيبه الموزونة وزنا بديعا . . مما يشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
نسأل الله –تعالى- أن يجعل القرآن ربيع حياتنا ، وأنس نفوسنا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
افتتح الله - تعالى - هذه السورة بهذا القسم العظيم ، للدلالة على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وللرد على أولئك المشركين الجاهلين ، الذين زعموا أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد اختلق القرآن الكريم .
والنجم : هو الكوكب الذى يبدو للناظرين ، لامعا فى جو السماء ليلا .
والمراد به هنا : جنسه ، أى : ما يشمل كل نجم بازغ فى السماء ، فأل فيه للجنس .
وقيل : أل فيه للعهد والمراد به نجم مخصوص هو : الشعرى ، وهو نجم كان معروفا عند العرب . وقد جاء الحديث عنه فى آخر السورة ، فى قوله - تعالى - : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } قالوا : وكانت قبيلة خزاعة تعبده .
وقيل المراد به : الثريا ، فإنه من النجوم المشهورة عند العرب .
وقيل : المراد به هنا : المقدار النازل من القرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - وجمعه نجوم ، وقد فسره بعضهم بذلك فى قوله - تعالى - : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } ومعنى " هوى " : سقط وغرب . يقال هو الشىء يهوى - بكسر الواو - - هويا - بضم الهاء وفتحها - إذا سقط من أعلى إلى أسفل .
قال الآلوسى : وأظهر الأقوال ، القول بأن المراد بالنجم ، جنس النجم المعروف ، فإن اصله اسم جنس لكل كوكب . وعلى القول بالتعيين ، فالأظهر القول بأنه الثريا ووراء هذين القولين ، القول بأن المراد به : المقدار النازل من القرآن .
سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون
هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية ، منغمة ، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة . ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ؛ ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع ؛ وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية ، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قوله : ( أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى ) . . فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن . ولو قال : ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة . ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة . ومثلها كلمة( إذن )في وزن الآيتين بعدها : ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى ! وكلمة( إذن )ضرورية للوزن . وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة . . . وهكذا .
ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص . لون يلحظ فيه التموج والانسياب . وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة . وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول . ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير . وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع .
والصور والظلال في المقطع الأول ، تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع . ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم . . والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب ، تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به ، وتتناسق معه ، وتتراءى فيه ، في توافق منغم عجيب .
ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله ، ويترك آثاره في مقاطعها التالية ، حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير . ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب .
وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق : العقيدة بموضوعاتها الرئيسية : الوحي والوحدانية والآخرة . والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته ، ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون !
والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته ، ويصف مشهدين من مشاهده ، ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين ؛ ويؤكد تلقي الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة ، واطلاعه على آيات ربه الكبرى .
ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة : اللات والعزى ومناة . وأوهامهم عن الملائكة . وأساطيرهم حول بنوتها لله . واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا . بينما الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين .
والمقطع الثالث يلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويشغل نفسه بالدنيا وحدها ، ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا . ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق ، وعلى علم الله بهم ، منذ أنشأهم من الأرض ، ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم . فهو أعلم بهم من أنفسهم ، وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم ، ويصير أمرهم في نهاية المطاف .
والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة ، ودقة الحساب ، وعدالة الجزاء . ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة . ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين . تختم بالإيقاع الأخير : ( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ، ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) . . حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام .
( والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) . .
في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى ؛ ونستمع إلى الإيقاع الرخي المنساب ، في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء .
نعيش لحظات مع قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] مكشوفة عنه الحجب ، مزاحة عنه الأستار . يتلقى من الملأ الأعلى . يسمع ويرى ، ويحفظ ما وعى . وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى ؛ ولكن الله يمن على عباده ، فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا . ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم . يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى ، في رحاب الملأ الأعلى . يصفها لهم خطوة خطوة ، ومشهدا مشهدا ، وحالة حالة ، حتى لكأنهم كانوا شاهديها .
ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانه : ( والنجم إذا هوى ) . . وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه . أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه : ( وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى ) . . وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى .
( والنجم إذا هوى ) . . وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم . وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى ، التي كان بعضهم يعبدها . والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قوله : ( وأنه هو رب الشعرى ) . . وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير . ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى . ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها . ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء . فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها . ويكون اختيار مشهد هوي النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه . ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه . فلا يليق أن يكون معبودا . فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام .
قال البخاري : حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله قال : أولُ سورة أنزلت فيها سَجْدة : { والنَّجم } ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تُرَاب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافرًا ، وهو أمية بن خَلَف{[1]} .
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، من طرق ، عن أبي إسحاق ، به{[2]} . وقوله في الممتنع : إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل ، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة .
قال الشعبي وغيره : الخالق يُقسِم بما شاء من خَلْقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق . رواه ابن أبي حاتم .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالنجم : الثُّريَّا إذا سقطت مع الفجر . وكذا رُوي عن ابن عباس ، وسفيان الثوري . واختاره ابن جرير . وزعم السدي أنها الزهرة .
وقال الضحاك : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } إذا رُمي به الشياطين . وهذا القول له اتجاه .
وروى الأعمش ، عن مجاهد في قوله : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } يعني : القرآن إذا نزل . وهذه الآية كقوله تعالى : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ . تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الواقعة : 75 - 80 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ * مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : والنّجْمِ إذَا هَوَى فقال بعضهم : عُنِي بالنجم : الثّريا ، وعُنِي بقوله : إذَا هَوَى : إذا سقط ، قالوا : تأويل الكلام : والثريا إذا سقطت . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : إذا سقطت الثريا مع الفجر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : الثريا . وقال مجاهد : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : سقوط الثريا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : إذا انصبّ .
وقال آخرون : معنى ذلك : والقرآن إذا نزل . ذكر من قال ذلك :
حدثني زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : القرآن إذا نزل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالنّجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى قال : قال عُتْبة بن أبي لهب : كفرتُ بربّ النجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمَا تَخافُ أنْ يَأْكُلُكَ كَلْبُ اللّهِ » قال : فخرج في تجارة إلى اليمن ، فبينما هم قد عرّسوا ، إذ سمعَ صوتَ الأسد ، فقال لأصحابه إني مأكول ، فأحدقوا به ، وضرب على أصمختهم فناموا ، فجاء حتى أخذه ، فما سمعوا إلا صوته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى فقال ابن لأبي لهب حسبته قال : اسمه عُتبة : كفرت بربّ النجم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «احْذَرْ لا يَأْكُلْكَ كَلْبُ اللّهِ » قال : فضرب هامته . قال : وقال ابن طاوس عن أبيه ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «ألاَ تخافُ أنْ يُسَلّطَ اللّهُ عَلَيْكَ كَلْبَهُ ؟ » فخرج ابن أبي لهب مع ناس في سفر حتى إذا كانوا في بعض الطريق سمعوا صوت الأسد ، فقال : ما هو إلا يريدني ، فاجتمع أصحابه حوله وجعلوه في وسطهم ، حتى إذا ناموا جاء الأسد فأخذه من بينهم . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : عنى بقوله : والنّجْمِ والنجوم . وقال : ذهب إلى لفظ الواحد ، وهو في معنى الجميع ، واستشهد لقوله ذلك بقول راعي الإبل :
فَباتَتْ تَعُدّ النّجْمَ في مُسْتَحِيرَةٍ *** سَرِيعٌ بِأيْدِي الاَكِلِينَ جُمُودُها
والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله مجاهد من أنه عنى بالنجم في هذا الموضع : الثريا ، وذلك أن العرب تدعوها النجم ، والقول الذي قاله من حكينا عنه من أهل البصرة قول لا نعلم أحدا من أهل التأويل قاله ، وإن كان له وجه ، فلذلك تركنا القول به .
بسم الله الرحمن الرحيم { والنجم إذا هوى } أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال : هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب ، وهويا بالضم إذا علا وصعد ، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض ، أو إذا نما ارتفع على قوله : { ما ضل صاحبكم } .
وهي مكية بإجماع من المتأولين{[1]} وهي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفيني هذا{[2]} وسبب هذه السورة ان المشركين قالوا إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك .
أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفاً له وتنبيهاً منه ليكون معتبراً فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى . وقال الزهري ، المعنى : ورب النجم ، وفي هذا قلق مع لفظ الآية . واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء ، وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت ، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً أي أقداراً مقدرة في أوقات ما ، ويجيء { هوى } على هذا التأويل بمعنى : نزل ، وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فلا أقسم بمواقع النجوم }{[10668]} [ الواقعة : 75 ] والخلاف في هذا كالخلاف في تلك ، وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما : { النجم } هنا اسم جنس ، أرادوا النجوم إذا هوت ، واختلف قائلو هذه المقالة في معنى : { هوى } فقال جمهور المفسرين : { هوى } إلى الغروب ، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب ، وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي { هوى } عند الإنكدار في القيامة فهي بمعنى . قوله : { وإذا الكواكب انتثرت }{[10669]} [ الانفطار : 2 ] وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية{[10670]} وهي رجوم الشياطين{[10671]} ، وهذا القول تسعده اللغة ، والتأويلات في { هوى } محتملة ، كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي :
فتاقت تعد النجم في مستحيرة*** سريع بأيدي الآكلين جمودها{[10672]}
يصف إهالة صافية ، والمستحيرة : القدر التي يطبخ فيها ، قاله الزجاج . وقال الرماني وغيره : هي شحمة صافية حين ذابت ، وقال مجاهد وسفيان : { النجم } في قسم الآية الثريا ، وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول النجم مطلقاً إلا للثريا ، ومنه قول العرب [ مجزوء الرمل ]
طلع النجم عشاء*** فابتغى الراعي كساء
" طلع النجم غدية فابتغى الراعي شكية " {[10673]}
و { هوى } على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار{[10674]} ، و { هوى } في اللغة معناه : خرق الهوى ومقصده السفل أو مسيره إن لم يقصده إليه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
هوى ابني شفا جبل*** فزلّتْ رجله ويده{[10675]}
وإن كلام المرء في غير كنهه*** لك النبل تهوي ليس فيها نصالها{[10676]}
هَوِي الدلو أسلمها الرشاء . . {[10677]} .
ومنه قولهم للجراد : الهاوي{[10678]} ، ومنه هوى العقاب .