قوله عز وجل{ وما قدروا الله حق قدره } ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ، ثم أخبر من عظمته فقال : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا شيبان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده تصديقاً لقول الحبر " ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } ورواه مسلم بن الحجاج ، عن عبد الله بن يونس ، عن فضيل بن عياض ، عن منصور ، وقال : " والجبال والشجر على إصبع ، وقال : ثم يهزهن هزاً ، فيقول " أنا الملك أنا الله " . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني الحسين بن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم بن عبد الله ، أنبأنا عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك : أين الجبارون أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين ، ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك : أين الجبارون أين المتكبرون ؟ " هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشمهيني ، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن مبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، حدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك : أين ملوك الأرض " .
{ 67 } { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
يقول تعالى : وما قدر هؤلاء المشركون ربهم حق قدره ، ولا عظموه حق تعظيمه ، بل فعلوا ما يناقض ذلك ، من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله ، فأوصافه ناقصة من كل وجه ، وأفعاله ليس عنده نفع ولا ضر ، ولا عطاء ولا منع ، ولا يملك من الأمر شيئا .
فسووا هذا المخلوق الناقص بالخالق الرب العظيم ، الذي من عظمته الباهرة ، وقدرته القاهرة ، أن جميع الأرض يوم القيامة قبضة للرحمن ، وأن السماوات - على سعتها وعظمها - مطويات بيمينه ، فلا عظمه حق عظمته من سوَّى به غيره ، ولا أظلم منه .
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزه وتعاظم عن شركهم به .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغير الله - تعالى - قد تجاوزوا حدودهم معه - عز وجل - ولم يعطوه ما يستحقه من تنزيه وتقديس فقال : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } .
أى : أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغيره - تعالى - ، ما عظموه حق تعظيمه ، وما أعطوه ما يستحقه - سبحانه - من تقديس وتكريم وتنزيه وطاعة .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على وحدانيته . وكمال قدرته . فقال : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } .
والقَبْضة : المرة من القَبْض ، وتطلق على المقدار المقبوض بالكف . ومطويات أى : مجموعات تحت قدرته وملكه ، كما يجمع الكتاب المطوى ، والجملة الكريمة حال من لفظ الجلالة ، فيكون المعنى : إن هؤلاء المشركين لم يعظموا الله حق تعظيمه ، حيث أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى هى من مخلوقاته ، والحال أنه - سبحانه - هو المتولى لإِبقاء السموات والأرض على حالهما فى الدنيا ، وهو المتولى لتبديلهما ، أو إزالتهما فى الآخرة ، فالأرض كلها مع عظمتها وكثافتها تكون يوم القيامة فى قبضته وتحت قدرته ، كالشئ الذى يقبض عليه القابض ، والسموات كذك مع ضخامتها واتساعها ، تكون مطويات بيمينه وتحت قدرته وتصرفه ، كما يطوى الواحد منا الشئ الهين القليل بيمينه ، وما دام الأمر كذلك فكيف يشركون معه غيره فى العبادة ؟
فالمقصود من الآية الكريمة بيان وحدانيته وعظمته وقدرته - سبحانه - وبيان ما عليه المشركون من جهالة وانطماس بصيرة حين أشركوا معه فى العبادة غيره .
قال صاحب الكشاف : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعته ، تصوير عظمته ، والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز . .
وقال الآلوسى : والكلام فى هذه الآية عند كثير من الخلف ، تمثيل لحال عظمته - تعالى - ونفاذ قدرته . . بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ، ويمين بها يطوى السموات ، أو بحال من يكون له قبضة فيها الأرض والسموات ، ويمين بها يطوى السموات .
والسلف يقولون : إن الكلام هنا تنبيه على مزيد جلالته - تعالى - . إلا أنهم لا يقولون إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ، ولا اليمين مجاز عن القدرة ، بل ينزهون الله - تعالى - عن الأعضاء والجوارح ، ويؤمنون بما نسبه - تعالى - : إلى ذاته بالمعنى اللائق به الذى أراده - سبحانه - وكذا يفعلون فى الأخبار الواردة فى هذا المقام .
فقد أخرج البخارى ومسلم عن ابن مسعود قال : " جاء حبر من الأحبار إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . إنا نجد الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع . فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ هذه الآية . . "
وقدم - سبحانه - الأرض على السموات لمباشرتهم لها ، ومعرفتهم بحقيقتها .
وخص يوم القيامة بالذكر ، وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا - أيضا - لأن الدعاوى تنقطع فى ذلك اليوم .
كما قال - تعالى - { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } روى الشيخان عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يطوى الله السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ، أين ملوك الأرض " .
وقوله - تعالى - : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له - تعالى - : عما افتراه المفترون .
أى : تنزه وتقدس الله - تعالى - عن شرك المشركين ، وعن ضلال الضالين .
وقوله : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ يقول تعالى ذكره : وما عظّم الله حقّ عظمته ، هؤلاء المشركون بالله ، الذين يدعونك إلى عبادة الأوثان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ قال : هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم ، فمن آمن أن الله على كلّ شيء قدير ، فقد قدر الله حقّ قدره ، ومن لم يؤمن بذلك ، فلم يقدر الله حقّ قدره .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَما قَدَرُوا اللّهٍ حَقّ قَدْرِهِ : ما عظّموا الله حقّ عظمته .
وقوله : والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ يقول تعالى ذكره : والأرض كلها قبضته في يوم القيامة والسّمَوَاتُ كلها مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ فالخبر عن الأرض متناه عند قوله : يوم القيامة ، والأرض مرفوعة بقوله قَبْضَتُهُ ، ثم استأنف الخبر عن السموات ، فقال : والسّمَوَاتُ مَطْوياتٌ بيَمِينِهِ وهي مرفوعة بمطويات .
ورُوي عن ابن عباس وجماعة غيره أنهم كانوا يقولون : الأرض والسموات جميعا في يمينه يوم القيامة . ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ يقول : قد قبض الأرضين والسموات جميعا بيمينه ، ألم تسمع أنه قال : مَطْوِياتٌ بِيَمِينِهِ يعني : الأرض والسموات بيمينه جميعا ، قال ابن عباس : وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : ما السموات السبع ، والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم ،
قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، قال : حدثنا النضر بن أنس ، عن ربيعة الجُرْسي ، قال : والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ والسّمَوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ قال : ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء .
حدثني عليّ بن الحسن الأزديّ ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن عمار بن عمرو ، عن الحسن ، في قوله : والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ قال : كأنها جوزة بقضها وقضيضها .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ يقول : السموات والأرض مطويات بيمينه جميعا .
وكان ابن عباس يقول : إنما يستعين بشماله المشغولة يمينه ، وإنما الأرض والسموات كلها بيمينه ، وليس في شماله شيء .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أُسامة بن زيد ، عن أبي حازم ، عن عبد الله بن عمر ، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على المنبر يخطب الناس ، فمر بهذه الاَية : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَأْخُذُ السّمَوَاتِ والأرْضَينِ السّبْعَ فَيَجْعَلُها في كَفّهِ ، ثُمّ يَقُولُ بِهِما كمَا يَقُولُ الغُلامُ بالكُرَةِ : أنا اللّهُ الوَاحِدُ ، أنا اللّهُ العَزِيزُ » حتى لقد رأينا المنبر وإنه ليكاد أن يسقط به .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، قال : ثني منصور وسليمان ، عن إبراهيم ، عن عبيدة السّلْماني ، عن عبد الله ، قال : جاء يهوديّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السموات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والخلائق على أصبع ، ثم يقول : أنا الملك قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبيدة عن عبد الله ، قال : فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن منصور ، عن خيثمة بن عبد الرحمن ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين جاءه حبر من أحبار اليهود ، فجلس إليه ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «حَدّثْنا » ، قال : إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ، جعل السموات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والماء والشجر على أصبع ، وجميع الخلائق على أصبع ثم يهزهنّ ثم يقول : أنا الملك ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لما قال ، ثم قرأ هذه الاَية : وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ . . . الاَية » .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، نحو ذلك .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، وعباس بن أبي طالب ، قالا : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدنية عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، قال : مرّ يهوديّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس ، فقال : «يا يَهُوديّ حَدّثْنا » ، فقال : كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماء على ذه ، والأرض على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ، فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِه . . . الاَية .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب ، فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله يحمل الخلائق على أصبع ، والسموات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والشجر على أصبع ، والثرى على أصبع ؟ قال فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ . . . إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل السموات في يمينه ، والأرضون في شماله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا ابن أبي حازم ، قال : ثني أبو حازم ، عن عبيد الله بن مِقْسَمِ ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : «يَأْخُذُ الجَبّارُ سَمَوَاتِهِ وأرْضِهِ بِيَدَيْهِ » وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، وجعل يقبضهما ويبسطهما ، قال : ثمّ يَقُولُ : «أنا الرّحْمَنُ أنا المَلِكُ ، أيْنَ الجَبّارُونَ ، أيْنَ المُتَكَبّرُونَ » وتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه ، وعن شماله ، حتى نظرت إلى المنبر يتحركّ من أسفل شيء منه ، حتى إني لأقول : أساقطٌ هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
حدثني أبو علقمة الفروي عبد الله بن محمد ، قال : ثني عبد الله بن نافع ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن عبيد بن عمير ، عن عبد الله بن عمر ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يَأْخُذُ الجَبّارُ سَمَوَاتِهِ وأرْضَهُ بيَدِهِ » ، وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها ، ثم يقول : «أنا الجَبّارُ ، أنا المَلِكُ ، أيْن الجَبّارُونَ ، أيْنَ المُتَكَبّرُونَ ؟ » قال : ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله ، حتى نظرت إلى المنبر يتحركّ من أسفل شيء منه ، حتى إني لأقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ » .
حدثني الحسن بن علي بن عياش الحمصي ، قال : حدثنا بشر بن شعيب ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا محمد بن مسلم بن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أنه كان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَقْبِضُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ الأرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَطْوِي السموات بيمينه ، ثُمّ يَقُولُ : أنا المَلِكُ أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ ؟ » .
حُدثت عن حرملة بن يحيى ، قال : حدثنا إدريس بن يحيى القائد ، قال : أخبرنا حيوة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ اللّهَ يَقْبِضُ الأرْضَ يَوْمَ القيامَةِ بِيَدِهِ ، وَيَطْوِي السّماءَ بِيَمينهِ وَيَقُولُ : أنا المَلِكُ » .
حدثني محمد بن عون ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حبرٌ من اليهود ، قال : أرأيت إذ يقول الله في كتابه : والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ والسّمَوَاتُ مَطْوَيّاتٌ بِيَمينهِ فأين الخلق عند ذلك ؟ قال : «هُمْ فِيها كَرقْمِ الكِتابِ » .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا عمرو بن حمزة ، قال : ثني سالم ، عن أبيه ، أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يَطْوِي اللّهُ السّمَوَاتِ فيأْخُذُهُنّ بِيَمِينِهِ وَيَطْوِي الأرْضَ فَيأْخُذُها بِشمالِهِ ، ثُمّ يَقُولُ : أنا المَلِكُ أيْنَ الجَبّارُونَ ؟ أينَ المُتَكَبّرُونَ » .
وقيل : إن هذه الاَية نزلت من أجل يهودي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة الرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن محمد ، عن سعيد ، قال : أتى رهط من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هذا الله خلق الخلق ، فمن خلقه ؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِع لونه ، ثم ساورهم غضبا لربه فجاءه جبريل فسكنه ، وقال : اخفض عليك جناحك يا محمد ، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه ، قال : يقول الله تبارك وتعالى : قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ فلما تلاها عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : صف لنا ربك كيف خلقه ، وكيف عضده ، وكيف ذراعه ؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول ، ثم ساورهم ، فأتاه جبريل فقال مثل مقالته ، وأتاه بجواب ما سألوه عنه وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ والسّمَوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : تكلمت اليهود في صفة الربّ ، فقال ما لم يعلموا ولم يروا ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ ثم بيّن للناس عظمته فقال : والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ والسّمَوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ، فجعل صفتهم التي وصفوا الله بها شركا .
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ والسّمَوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ يقول في قدرته نحو قوله : وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ : أي وما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون سائر الجسد ، قال : وقوله قَبْضَتُهُ نحو قولك للرجل : هذا في يدك وفي قبضتك . والأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وغيرهم ، تشهد على بطول هذا القول .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن عائشة ، قالت : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قوله والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ فأين الناس يومئذ ؟ قال : «عَلى الصّراطِ » .
وقوله سبحانه وتعالى : عَمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالى ذكره تنزيها وتبرئة لله ، وعلوّا وارتفاعا عما يشرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد ، القائلون لك : اعبد الأوثان من دون الله ، واسجد لألهتنا .
وقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } معناه : وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته ، ولا نفوا عنه ما لا يليق به .
واختلف الناس في المعنى بالضمير في قوله : { قدروا } قال ابن عباس : نزل ذلك في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم ورداً عليهم . وقالت فرقة : نزلت الآية في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله ، فألحدوا وجسموا وأتوا كل تخليط ، فنزلت الآية فيهم ، وفي الحديث الصحيح : أنه جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه ، فقال له النبي عليه السلام حدثنا ، فقال : إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع ، والماء الشجر على أصبع ، وجمع الخلائق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً له ، ثم قرأ هذه الآية{[9930]} .
قال القاضي أبو محمد : فرسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل بالآية ، وقد كانت نزلت . وقوله في الحديث : تصديقاً له ، أي في أنه لم يقل إلا ما رأى في كتب اليهود ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر المعنى ، لأن التجسيم فيه ظاهر واليهود معروفون باعتقاده ، ولا يحسنون حمله على تأويله من أن الأصبع عبارة عن القدرة ، أو من أنها أصبع خلق يخلق لذلك ، ويعضدها تنكير الأصبع{[9931]} .
وروى سعيد بن المسيب أن سبب نزول الآية أن طائفة من اليهود جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ، هذا الله خلق الأشياء ، فمن خلق الله ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساورهم{[9932]} ، ونزلت الآية{[9933]} في ذلك .
وقرأ جمهور الناس : «قدْره » بسكون الدال ، وقرأ الأعمش : بفتح الدال . وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمرو وأبو نوفل : «وما قدّروا » بشد الدال «حق قدَره » بفتح الدال .
وقوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } معناه : في قبضته . وقال ابن عمر ما معناه : أن الأرض في قبضة اليد الواحد ، { والسماوات مطويات } باليمين الأخرى ، لأنه كلتا يديه يمين ، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : الأرض جميعاً قبضته ، والسماوات وكل ذلك بيمينه .
وقرأ عيسى بن عمر : «مطوياتٍ » بكسر التاء المنونة ، والناس على رفعها .
وعلى كل وجه ، ف «اليمين » هنا و «القبضة » وكل ما ورد : عبارة عن القدرة والقوة ، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل ، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف ، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم .
قال عز وجل : { سبحانه وتعالى عما يشركون } . أي هو منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما قدروا الله حق قدره} نزلت في المشركين، يقول: وما عظموا الله حق عظمته.
{والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} مطويات يوم القيامة بيمينه...
{وتعالى} وارتفع {عما يشركون} به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ" يقول تعالى ذكره: وما عظّم الله حقّ عظمته، هؤلاء المشركون بالله، الذين يدعونك إلى عبادة الأوثان... عن ابن عباس، قوله: "وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ "قال: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كلّ شيء قدير، فقد قدر الله حقّ قدره، ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حقّ قدره...
وقوله: "والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ" يقول تعالى ذكره: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة.
"والسّمَوَاتُ" كلها "مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ"...
حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أُسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المنبر يخطب الناس، فمر بهذه الآية: "وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَأْخُذُ السّمَوَاتِ والأرْضَينِ السّبْعَ فَيَجْعَلُها في كَفّهِ، ثُمّ يَقُولُ بِهِما كمَا يَقُولُ الغُلامُ بالكُرَةِ: أنا اللّهُ الوَاحِدُ، أنا اللّهُ العَزِيزُ» حتى لقد رأينا المنبر وإنه ليكاد أن يسقط به...
وقوله سبحانه وتعالى: "عَمّا يُشْرِكُونَ" يقول تعالى ذكره تنزيها وتبرئة لله، وعلوّا وارتفاعا عما يشرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد، القائلون لك: اعبد الأوثان من دون الله، واسجد لألهتنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوا الله حق معرفته، أو ما عظموه حق عظمته ما يحتمل وُسع الخَلق، وكذلك لم يعرفوه حق معرفته التي يحتملها وسع البشر بينهم.
وهو لم يكلّفهم أن يعرفوه حق معرفته أو يعظّموه؛ لأنه لا يحتمل وسع الخلق ذلك. وإنما كلّفهم ما احتمله وسعهم...
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يحتمل تنزيه نفسه عما وصفه المشبّهة، وشبّهوه بالخلق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما كان العظيم من الأشياء، إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حقّ تقديره وعظمه حق تعظيمه قيل {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} وقرئ بالتشديد على معنى: وما عظموه كنه تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير.
والمراد والأرض: الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان، قوله: {جَمِيعاً} وقوله: {والسماوات}؛ ولأنّ الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع اتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر؛ ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضي كلهن... والقبضة: المرة من القبض، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] والقبضة -بالضم -: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضاً: أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر... وكلا المعنيين محتمل، والمعنى: الأرضون جميعاً قبضته، أي: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعني أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلاّ قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أي: ذات أكلته وذات جرعته؛ تريد: أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته، وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأنّ المعنى: أنّ الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
أخرج البخاري ومسلم في "الصحيحين "من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟).
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد شيئا آخر سواه، بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له المعبودية، فقال: {وما قدروا الله حق قدره}...
واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيما لائقا به أردفه بما يدل على كمال عظمته ونهاية جلالته، فقال: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}،ونظيره قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} {وما قدروا الله حق قدره} إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسموات في قبضته وقدرته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الله} أي الملك الأعظم {حق قدره} أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره، فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما ذكر تعظيم كل شيء ينسب إليه، دل على باهر قدرته الذي هو لازم القبض والطي بما يكون من الحال في طي هذا الكون، فقال كناية عن العظمة بذلك:
{والأرض} أي والحال أنها، وقدمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها.
ولما كان ما يدركون منها من السعة والكبر كافياً في العظمة وإن لم يدركوا أنه سبع، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيهاً للبصراء على أنها سبع من غير تصريح به فقال: {جميعاً}.
ولما كان أحقر ما عند الإنسان وأخفه عليه ما يحويه في قبضته، مثل بذلك في قوله مخبراً عن المبتدأ مفرداً بفتح القاف؛ لأنه أقعد في تحقير الأشياء العظيمة بالنسبة إلى جليل عظمته: {قبضته}.
ولما كان في الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة، وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال: {يوم القيامة} ولا قبضة هناك حقيقية ولا مجازاً، وكذا الطي واليمين، وإنما تمثيل وتخييل لتمام القدرة.
ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم، جمع ليكون مع {جميعاً} كالتصريح في جميع الأرض أيضاً في قوله: {والسماوات مطويات} ولما كان العالم العلوي أشرف، شرفه عند التمثيل باليمين فقال: {بيمينه}.
{عما يشركون} أي إن علوه عن ذلك علو من يبالغ فيه، فهو في غاية من العلو لا يكون وراءها غاية؛ لأنه لو كان له شريك لنازعه هذه القدرة أو بعضها فمنعه شيئاً منها، وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الواو عاطفة جملة {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} على جملة {له مقاليد السموات والأرض} ويكون قوله: {وما قدروا الله} الخ معترضاً بين الجملتين، اقتضاها التناسب مع جملة {والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون}.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الله خالق كل شيء، فتكون جملة {وما قدروا الله حق قدره} وجملة {والأرض جميعاً قبضته} كلتاهما معطوفتين على جملة
{الله خالق كل شيء}. والمعنى: هو هو، إلا أن الحال أوضح إفصاحاً عنه.
ويجوز أن تكون جملة {والأرض جميعاً قبضته} عطفَ غرض على غرض انتُقل به إلى وصف يوم القيامة وأحوال الفريقين فيه، وجملة {وما قدروا الله حق قدره} اعتراضاً، وهو تمثيل لحال الجاهل بعظمة شيء بحال من لم يحقق مقدار صُبرة فنقصها عن مقدارها، فصار معنى {ما قدروا الله} ما عرفوا عظمته حيث لم ينزهوه عما لا يليق بجلاله من الشريك في إلهيته.
{حقَّ قدره} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ما قدروا الله قدرَه الحقَّ، فانتصب {حَقَّ} على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع، وتقدم نظير هذا في سورة الأنعام، وجميع: أصله اسم مفعول مثل قتيل، وبذلك استعمل توكيداً مثلَ (كلّ) و (أَجمَع) قال تعالى: {يوم يبعثهم اللَّه جميعاً} في سورة [المجادلة: 6]. وقد وقع {جميعاً} هنا حالاً من {الأرض} واسم {الأرض} مؤنث فكان تجريد
(جميع) من علامة التأنيث جرياً على الوجه الغالب في جريان فعيل بمعنى مفعول على موصوفه، وقد تلحقه علامة التأنيث، وانتصب {جميعاً} هنا على الحال من
وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئاً موجوداً لا عمل له، وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات.
وطَيُّ السماوات: استعارة مكنية لتشويش تنسيقها واختلال أَبعاد أجرامها، فإن الطي ردّ ولفّ بعض شُقق الثوب أو الوَرق على بعض، بعد أن كانت مبسوطة منتشرة على نسق مناسب للمقصود من نشره، فإذا انتهى المقصود طوي المنشور، قال تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده}
والباء في {بِيَمِينِه} للآلة والسببية، واليمين: وصف لليد ولا يدَ هنا وإنما هي كناية عن القدرة؛ لأن العمل يكون باليد اليمين، وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامهما المعهود اعتراه تعطيل...
معنى {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] يعني: ما قدروه وما عظَّموه التعظيم المناسب له سبحانه، يعني: ما عرفوا لله قيمته، ولذلك أشركوا به، والشرك في حَدِّ ذاته عدم تقدير الله حَقَّ قدره. وقد فعلوا ذلك والحال أن {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَـٰمَةِ وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] إذن: كيف يحدث منكم ذلك؟ أغفلتم عن هذه الحقيقة؟ إنكم سوف تروْنَ عاقبة فعلكم في الآخرة.
ومعنى {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَـٰمَةِ} [الزمر: 67] نقول: هذا الأمر في يدي يعني: أنا مُتمكن منه تمكُّناً بحيث لا يفلت منِّي، وليس من الضروري بالنسبة لله تعالى أن يكون في المسألة قبضة أو يد، فهنا كناية عن القوة والتمكُّن، كما نقول مثلاً قبضنا على المجرم يعني: أصبح في حوزتنا ولم يَعُدْ مطلق السراح في الحياة يفعل ما يشاء.
وسبق أنْ قلنا: إذا ذُكر للحق سبحانه وصفٌ له مثيل في عباده فخُذْه في إطار
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومن ذلك صفة السمع والبصر واليد والعلم.. إلخ.
وكلمة {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً} [الزمر: 67] أي: أرضنا التي نعيش عليها وأمثالها من الأرضين لأن الحق سبحانه قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] هذا كله في مجموعتنا الشمسية، فما بالك بباقي المجموعات والمجرَّات التي تحوي الملايين مثل أرضنا: {وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29].
وقوله: {وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] يطويها بقدرته تعالى، واليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء وهي مصدر القوة؛ لذلك قال سبحانه: {قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي من جهة القوة، وفي موضع آخر قال الحق سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104].
لكن أيّ أرض نعني في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَـٰمَةِ} [الزمر: 67] قالوا: هي أرض غير الأرض التي نعرفها، لأن الأرض ستُبدل في الآخرة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَٰوَٰتُ} [إبراهيم: 48] لأن أرض الدنيا أرضُ أسباب، نعيش عليها ونأكل من ثمرها ونزاول فيها حياتنا، أما في الآخرة فالحياة فيها بالمسبِّب سبحانه.
أرض الآخرة لا زرعَ فيها ولا حرثَ ولا حصادَ، إنما تأكل وتشرب بمجرد إرادة الأكل أو الشرب، فما يخطر على بالك تجده بين يديْكَ لا بأسباب، إنما بقدرة المسبِّب سبحانه، كذلك السماء في الدنيا سماء أسباب ينزل منها المطر وتشرق فيها الشمس، ويُنوِّرها القمر، أما في الآخرة فلا شيء من ذلك لا مطرَ ولا شمسَ ولا قمر، إنما تُنوِّر الأرض بنور ربها.
وقوله تعالى في ختام هذه الآية {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] أمر بأن نقول سبحان الله، وأنْ ننزِّهه تعالى عن مشابهة خَلْقه في مسألة القبضة وفي طَيِّ السماء، لأنه ليس كالطَّيِّ الذي نعرفه نحن، إنما ينبغي أن نأخذ هذه الصفات في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فنزه الله عما يقوله المشركون.