قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم ، وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فانزل الله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس . واختلف العلماء في قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي } . فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي . وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض .
روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة أن يطوفوا به ، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدرة ، فبنوه واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .
وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام ، فكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم قالت له الملائكة : بر حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : أراد به ، أنه أول بيت بناه آدم في الأرض وقيل : هو أول بيت مبارك وضع هدى للناس ، يعبد الله فيه ، ويحج إليه ، وقيل : أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه أنه أول مسجد ومتعبد وضع للناس ، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب . قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة ، وقيل : أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني المساجد .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، أنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال : سمعت أبا ذر يقول : " قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : أينما أدركتك الصلاة بعد فصل ، فإن الفضل فيه " . قوله تعالى ( للذي ببكة ) . قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سيد رأسه وسمده ، وضربه لازب ولازم ، وقال الآخرون بكة موضع البيت في مكة ، ومكة اسم البلد كله . وقيل : بكة موضع البيت والمطاف ، سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضا ، ويمر بعضهم بين يدي بعض ، . وقال عبد الله بن الزبير : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فل يقصدها جبار بسور إلا قصمه الله . وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها ، من قول العرب : " مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه " إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها { مباركاً } نصب على الحال ، أي : ذا بركة { وهدى للعالمين } لأنه قبلة المؤمنين { فيه آيات بينات } قرأ ابن عباس( آية بينة ) على الواحد ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الآخرون { آيات بينات } بالجمع ، فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات في البيت الحجر السود ، والحطيم ، وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل : مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيداً فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة ألف .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد بن الحسن بن احمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا أبو مصعب احمد بن أبي بكر الزهري ، أنا مالك بن أنس ، عن زيد بن رباح ، أخبرنا عبد الله بن عبد الله الأغر ، عن أبي عبد الله الأعمش عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه إلا المسجد الحرام " .
قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } . من أن يهاج فيه ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال ( رب اجعل هذا بداً آمناً ) وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً ، ويغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة ، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) وقيل : المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً ، كما قال تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) وقيل : هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً أو حدا ، ً فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه فيقتل قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة ، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه ، أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفي فيه عقوبته بالاتفاق . وقيل معناه : ومن دخله معظماً له ، متقرباً إلى الله عز وجل كان آمناً يوم القيامة من العذاب .
قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } . أي ولله فرض واجب على الناس حج البيت . قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص ( حج البيت ) بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد . والحج احد أركان الإسلام .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن موسى ، أنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، والحج " . قال أهل العلم : ولوجوب الحج خمس شرائط : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والاستطاعة ، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون ، ولو حجا بأنفسهما لا يصح ، لأن الكافر ليس من أهل القربة ، ولا حكم لفعل المجنون ، ولا يجب على الصبي ، ولا على العبد ، ولو حج صبي يعقل ، أو عبد يصح حجهما تطوعاً ، ولكن لا يسقط به فرض الإسلام عنهما ، فلو بلغ الصبي ، أو أعتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط وجوب الحج ، وجب عليه أن يحج ثانياً ، ولا يجب على غير المستطيع ، لقوله تعالى( من استطاع إليه سبيلاً ) غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام . والاستطاعة نوعان : أحدهما أن يكون قادرا مستطيعاًبنفسه ، والآخر : أن يكون مستطيعاً بغيره ، أما الاستطاعة بنفسه فأن يكون قادراً بنفسه على الذهاب ، ووجد الزاد والراحلة .
أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب ، ثنا عبد العزيز بن احمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سعيد بن سالم ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن محمد بن عباد بن جعفر قال : قعدنا إلى عبد الله ابن عمر فسمعته يقول : " سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما الحاج ؟ قال :الشعث التفل ، فقام رجل آخر فقال : يا رسول الله : أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج فقام رجل آخر فقال : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : زاد وراحلة " .
وتفصيله : أن يجد راحلة تصلح لمثله ووجد الزاد للذهاب والرجوع ، فاضلاً عن نفقة عياله ، ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه ، وعن دين يكون عليه ، ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت عادة أهل بلده بالخروج في ذلك الوقت ، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم أكثر من مرحلة ، لا يلزمهم الخروج في ذلك الوقت ، ويشترط أن يكون الطريق آمناً ، فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر ، أو رصدي يطلب شيئاً لا يلزمه ، ويشترط أن تكون المنازل الممرورة معمورة ، يجد فيها الزاد والماء ، فإن كان زمان جدوبة تفرق أهلها أو غارت مياهها ، فلا يلزمه ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي ، أو لم يجد الزاد ولكن يمكنه أن يكتسب في الطريق ، لا يلزمه الحج ، ويستحب لو فعل ، وعند مالك يلزمه . أما الاستطاعة بالغير فهي : أن يكون الرجل عاجزاً بنفسه ، بأن كان زمناً أو به مرض غير مرجو الزوال ، لكن له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه ، يجب عليه أن يستأجر ، أو لم يكن له مال بل بذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه ، يلزمه أن يأمره إذا كان يعتمد صدقه ، لأن وجوب الحج يتعلق بالاستطاعة ، ويقال في العرف : فلان مستطيع لبناء دار وان كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه . وعند أبي حنيفة : لا يجب الحج ببذل الطاعة ، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال . وحجة من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال : " كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج ، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم .
قوله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } . قال ابن عباس والحسن وعطاء : جحد فرض الحج ، وقال مجاهد : من كفر بالله واليوم الآخر . وقال سعيد بن المسيب : نزلت في اليهود حيث قالوا : الحج إلى مكة غير واجب . وقال السدي : هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو الحسن الكلماني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو ، أخبرنا سهيل بن عمارة ، اخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ، ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانياً " .
{ فيه آيات بينات } أي : أدلة واضحات ، وبراهين قاطعات على أنواع من العلوم الإلهية والمطالب العالية ، كالأدلة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وكمال علمه وسعة جوده ، وما مَنَّ به على أوليائه وأنبيائه ، فمن الآيات { مقام إبراهيم } يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان ، وكان ملصقا في جدار الكعبة ، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن ، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم ، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة ، وهذا من خوارق العادات ، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه ، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها ، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات ، كالطواف والسعي ومواضعها ، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، والرمي ، وسائر الشعائر ، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها ، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة ، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها ، ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا ، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله ، وأن لا يهاج ، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها ، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه ، وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه ، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه ، ومن جعله حرما أن كل من أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة ، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم ، وقد رأيت لابن القيم هاهنا كلاما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } " حج البيت " مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله ، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله : " على الناس " لأنه وجوب ، والوجوب يقتضي " على " ويجوز أن يكون في قوله : " ولله " لأنه متضمن الوجوب والاستحقاق ، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها ، وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير ، فكان الأحسن أن يكون " ولله على الناس " . ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله : " حج البيت على الناس " أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال : " حج البيت لله " أي : حق واجب لله ، فتأمله . وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان : إحداهما : أنه اسم للموجب للحج ، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب ، فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع : أحدها : الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره ، والثاني : مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس ، والثالث : النسبة ، والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء ، وهو الحج .
والفائدة الثانية : أن الاسم المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه ، وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه ، وتخويفا من تضييعه ، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره .
وأما قوله : " مَنْ " فهي بدل ، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر ، كأنه قال : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وهذا القول يضعف من وجوه ، منها : أن الحج فرض عين ، ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية ، لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم ، لأن المعنى يؤل إلى : ولله على الناس حج البيت مستطيعهم ، فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين ، وليس الأمر كذلك ، بل الحج فرض عين على كل أحد ، حج المستطيعون أو قعدوا ، ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب ، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه ، فإذا حج سقط الفرض عن نفسه ، وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين ، وإذا أردت زيادة إيضاح ، فإذا قلت : واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد ، فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم ، وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع ، كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال : ولله حج البيت على المستطيعين ، هذه النكتة البديعة فتأملها .
الوجه الثاني : أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول ، فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه فكان يقال : " ولله على الناس حج مَنْ استطاع " وحمله على باب " يعجبني ضرب زيد عمرا " وفيما يفصل فيه بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب المرجوح ، وهي قراءة ابن عامر ( قتل أولادهم شركائهم ) ، فلا يصار إليه . وإذا ثبت أن " من " بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى " الناس " كأنه قيل : من استطاع منهم ، وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن ، وحسنه هاهنا أمور منها : أن " من " واقعة على من لا يعقل ، كالاسم المبدل منه فارتبطت به ، ومنها : أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول ، ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ، ومثال ذلك إذا قلت : رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم ، كان قبيحا ، لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة ، وكذلك لو قلت : البس الثياب ما حسن وجمل ، يريد منها ، ولم يذكر الضمير كان أبعد في الجواز ، لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب .
وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه ، فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ، ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول .
وأما المجرور من قوله " لله " فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون في موضع من سبيل ، كأنه نعت نكرة قدم عليها ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل ، والثاني : أن يكون متعلقا بسبيل ، فإن قلت : كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل ؟ قيل : السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما ، كان فيه رائحة الفعل ، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق ، فصلح تعلق المجرور به ، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير ، لأنه ضمير يعود على البيت ، والبيت هو المقصود به الاعتناء ، وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي ، وهذا بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ، ولا يليق بالآية سواه ، وهو الوجوب المفهوم من قوله " على الناس " أي : يجب لله على الناس الحج ، فهو حق واجب لله ، وأما تعليقه بالسبيل وجعله حالا منها ، ففي غاية البعد فتأمله ، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية ، وهذا كما تقول : لله عليك الصلاة والزكاة والصيام .
ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي ، وهو الأكثر ، وبلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم نحو { كتب عليكم الصيام } { حرمت عليكم الميتة } { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه ، أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل الاستطاعة ، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي : سبيل تيسرت ، من قوت أو مال ، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال { ومن كفر } أي : لعدم التزامه هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه ، والله تعالى هو الغني الحميد ، ولا حاجة به إلى حج أحد ، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه ، ثم أكد ذلك بذكر اسم " العالمين " عموما ، ولم يقل : فإن الله غني عنه ، لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار ، فكان أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه ، ثم أكد هذا المعنى بأداة " إن " الدالة على التأكيد ، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم .
وتأمل سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين ، مرة بإسناده إلى عموم الناس ، ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين ، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته .
ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ، وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وخلتين ، اعتناء به وتأكيد لشأنه ، ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها ، فقال : { إن أول بيت } إلخ ، فوصفه بخمس صفات : أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض ، الثاني : أنه مبارك ، والبركة كثرة الخير ودوامه ، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق ، الثالث : أنه هدى ، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة ، حتى كأنه نفس الهدى ، الرابع ما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية ، الخامس : الأمن الحاصل لداخله ، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ، ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات ، وهذا يدل على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم ، والتنويه بذكره ، والتعظيم لشأنه ، والرفعة من قدره ، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا ، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه ، وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته ، فهذه المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا ، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا ، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم ، كما قيل :
أطوف به والنفس بعد مشوقة *** إليه وهل بعد الطواف تداني
وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هيمان
فوالله ما ازداد إلا صبابة *** ولا القلب إلا كثرة الخفقان
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى *** ويا منيتي من دون كل أمان
أبت غلبات الشوق إلا تقربا *** إليك فما لي بالبعاد يدان
وما كان صدى عنك صد ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولسان
دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا *** فلبى البكا والصبر عنك عصاني
وقد زعموا أن المحب إذا نأى *** سيبلى هواه بعد طول زمان
ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا *** دواء الهوى في الناس كل زمان
بلى إنه يبلى والهوى على *** حاله لم يبله الملوان
وهذا محب قاده الشوق والهوى *** بغير زمام قائد وعنان
ثم مدحه - ثالثا - بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أى فيه علامات ظاهرات ، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته ، وعلو مكانته .
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه .
ثم بين - سبحانه - بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أى المقام المعروف بهذا الاسم . وهو الموضع الذى كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله - تعالى - ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن فى البيت مقام إبراهيم أى أنه فى فنائه ومتصل به .
قال ابن كثير : عن جابر - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين .
والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . . .
ثم قال : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك . وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن . ليتمكن الطائفون من الطواف ، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .
وقوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات . أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم .
وقد رجح ابن جرير أن قوله - تعالى - { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } هو بعض الآيات البينات التى فى البيت الحرام فقال : وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب قول من قال : الآيات البينات منهن مقام إبراهيم . وهو قول قتادة ومجاهد الذى رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها . فإن قال القائل : فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التى من أجلها قيل { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ؟ قيل : منهن المقام ، ومنهن الحجر ، ومنهن الحطيم " .
وقال ابن عطية : والراجح عندى أن المقام وآمن الداخلين جعلا مثالا لما فى حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم .
وأما الآية الثانية التى تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال - كما حكى القرآن عنه - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ولا شك أن فى أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله ؛ لأنه موضع أمان الناس فى بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات .
وفى الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة - يعنى لقتال عبد الله بن الزبير - : ائذن لى أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، - سمعته أذناى ووعاه قلبى ، وأبصرته عيناى - حين تكلم به - : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها - أى أخذ فيه بالرخصة - فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب .
فقيل لأبى شريح : ما قال لك عمرو ؟ فقال أبو شريح : قال لى يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك . إن الحرم لا يعيذ عاصيا - أى لا يجيره ولا يعصم دمه - ولا فاراً بدم - أى أن الحرم لا يجير إنساناً هارباً إليه لسبب من الأسباب الموجبة للتقل - ولا فاراً بخربة - أى بسبب سرقة أو خيانة .
ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام - وخصوصا أهل مكة - فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها ، ووضع لها الضوابط والأحكام التى تضمن استعمالها فى الوجوه التى شرعها الله .
فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها .
واختلفوا فيمن جنى فى غير الحرم ثم لاذ إليه . فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل فى غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه ، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل غلى أن يخرج منه فيقتص منه . وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه .
وقال مالك والشافعي يقتص منه فى الحرم لذلك كله كما يقتص منه فى الحل . ولكل فريق أدلته المبسوطة فى كتب الفقه .
ثم أخبر - سبحانه - عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .
أى أن الله - تعالى - فرض على الناس أن يحجوا بيته فى أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان فى استطاعتهم أداء هذه الفريضة .
{ وَمَن كَفَرَ } أى من جحد فرضية الحج وأنكرها ، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعاً .
قال صاحب الكشاف : وفى هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :
أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .
والثاني : إن الإيضاح بعد الإيهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً "
ومنها ذكر الاستغناء عنه ، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط .
وقوله : { وَللَّهِ } خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب . { عَلَى الناس } متعلق بهذا المحذوف . وقوله : { حِجُّ البيت } مبتدأ مؤخر .
والناس عام مخصوص بالمتسطيع ، وقد خصص ببدل البعض فى قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل . والضمير فى البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا .
و " من " فى قوله : { وَمَن كَفَرَ } يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغنى فيا بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فغن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر .
قال ابن كثير : والجمهور يرى أن هذه الآية هى آية وجوب الحج . وقيل بل هى آية ( وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ) والأول أظهر . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروياً وإنما يجب على المكلف فى العمرة مرة واحدة بالنص والإجماع فعن ابيى هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه " .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل يا رسول الله ، فقال : الزاد والراحلة " .
وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التى قبلهما قد ردت على اليهود فى دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم ، وكذبتهم فى دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام .
وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ ، فقد أمر الله - تعالى - النبى صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فى دعواهم ، فبهوتوا وانقلبوا صاغرين ، واثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع فى الأرض لعبادة الله ، فهو يسبق بيت المقدس فى أولوية الشرف والزمان . وإذن فجدال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق ، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان .
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ الله غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه قراء الأمصار : { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } على جماع آية ، بمعنى : فيه علامات بينات . وقرأ ذلك ابن عباس : «فيه آية بينة » يعني بها : مقام إبراهيم ، يراد بها علامة واحدة .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } وما تلك الاَيات . فقال بعضهم : مقام إبراهيم والمشعر الحرام ، ونحو ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } : مقام إبراهيم ، والمشعر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ومجاهد : { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } قالا : مقام إبراهيم من الاَيات البينات .
وقال آخرون : الاَيات البينات { مَقَام إبرَاهيم وَمن دَخَلَهُ كانَ آمِنا } . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } قال : { مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } .
وقال آخرون : الاَيات البينات : هو مقام إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } أما الاَيات البينات : فمقام إبراهيم .
وأما الذين قرءوا ذلك : { فيه آية بينة } على التوحيد ، فإنهم عنوا بالاَية البينة : مقام إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } قال : قَدَماه في المقام آية بينة . يقول : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } قال : هذا شيء آخر .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد { فِيهِ آيَةٌ بَيّنَةٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } قال : أثر قدميه في المقام آية بينة .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، قول من قال : الاَيات البينات منهن مقام إبراهيم ، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما ، فيكون الكلام مرادا فيهن «منهنّ » ، فترك ذكره اكتفاءً بدلالة الكلام عليها .
فإن قال قائل : فهذا المقام من الاَيات البينات ، فما سائر الاَيات التي من أجلها قيل : { آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } ؟ قيل : منهنّ : المقام ، ومنهنّ الحِجر ، ومنهنّ الحطيم ، وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأ { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ } على الجماع ، لإجماع قراء أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها .
وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل : { مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } فقد ذكرناه في سورة البقرة ، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك ، وأنه عندنا : المقام المعروف به .
فتأويل الاَية إذا : إن أوّل بيت وضع للناس مباركا وهدًى للعالمين ، للذي ببكة ، فيه علامات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم منهن أثر قدم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجَر الذي قام عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله الخبر عن أن كلّ من جرّ في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت لم يكن يها مأخوذا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } وهذا كان في الجاهلية ، كان الرجل لو جرّ كل جريرة على نفسه ثم ألجأ إلى حرم الله ، لم يتناول ولم يطلب¹ فأما في الإسلام ، فإنه لا يمنع من حدود الله ، من سرق فيه قُطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحدّ ، من قتل فيه قُتل ، وعن قتادة أن الحسن كان يقول : إن الحرم لا يمنع من حدود الله ، لو أصاب حدّا في غير الحرم فلجأ إلى الحرم ولم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ ، ورأى قتادة ما قاله الحسن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } قال : كان ذلك في الجاهلية ، فأما اليوم فإن سرق فيه أحد قطع ، وإن قتل فيه قتل ، ولو قدر فيه على المشركين قُتلوا .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، قال : حدثنا خصيف ، عن مجاهد في الرجل يقتل ، ثم يدخل الحرم ، قال : يؤخذ فيخرج من الحرم ، ثم يقام عليه الحدّ . يقول : القتل .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن حماد ، مثل قول مجاهد .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا هشام ، عن الحسن وعطاء في الرجل يصيب الحدّ ، ويلجأ إلى الحرم : يخرج من الحرم فيقام عليه الحد .
فتأويل الاَية على قول هؤلاء : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، والذي دخله من الناس كان آمنا بها في الجاهلية .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن يدخله يكن آمنا بها ، بمعنى الجزاء ، كنحو قول القائل : من قام لي أكرمته : بمعنى من يقم لي أكرمه . وقالوا : هذا أمر كان في الجاهلية ، كان الحرم مفزع كل خائف ، وملجأ كلّ جانٍ ، لأنه لم يكن يُهاج له ذو جريرة ، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء . قالوا : وكذلك هو في الإسلام ، لأن الإسلام زاده تعظيما وتكريما . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا خصيف ، قال حدثنا مجاهد ، قال : قال ابن عباس : إذا أصاب الرجل الحدّ قَتل أو سَرق ، فدخل الحرم ، ولم يبايع ولم يؤو حتى يتبرّم فيخرج من الحرم ، فيقام عليه الحدّ . قال : فقلت لابن عباس : ولكني لا أرى ذلك ، أرى أن يؤخذ برْمّته ، ثم يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحدّ ، فإن الحرم لا يزيده إلا شدة .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، قال : أخذ ابن الزبير سعدا مولى معاوية ، وكان في قلعة بالطائف ، فأرسل إلى ابن عباس من يشاوره فيهم ، إنهم لنا عين ، فأرسل إليه ، ابن عباس : لو وجت قاتل أبي لم أعرض له . قال : فأرسل إليه ، ابن الزبير : ألا نخرجهم من الحرم ؟ قال : فأرسل إليه ابن عباس : أفلا قبل أن تدخلهم الحرم ؟ زاد أبو السائب في حديثه فأخرجه فصلبهم ، ولم يصغ إلى قول ابن عباس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : من أحدث حدثا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم ولم يعرض له ولم يبايع ولم يكلم ولم يؤو حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج من الحرم أُخذ فأقيم عليه الحدّ . قال : ومن أحدث في الحرم حدثا أقيم عليه الحدّ .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : من أحدث حدثا ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج ، فإذا خرج أقاموا عليه الحدّ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، قال : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هِجْتُه .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا ليث ، عن عطاء : أن الوليد بن عتبة أراد أن يقيم الحدّ في الحرم ، فقال له عبيد بن عمير : لا تقم عليه الحدّ في الحرم إلا أن يكون أصابه فيه .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا مطرف ، عن عامر ، قال : إذا أصاب الحدّ ، ثم هرب إلى الحرم ، فقد أمن ، فإذا أصابه في الحرم أقيم عليه الحد في الحرم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن فراس ، عن الشعبي ، قال : من أصاب حدا في الحرم ومن أصابه خارجا من الحرم ثم دخل الحرم ، لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، وعن عبد الملك ، عن عطاء بن أبي رباح في الرجل يقتل ، ثم يدخل الحرم ، قال : لا يبيعه أهل مكة ، ولا يشترون منه ، ولا يسقونه ولا يطعمونه ، ولا يؤوونه عدّ أشياء كثيرة حتى يخرج من الحرم ، فيؤخذ بذنبه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن الرجل إذا أصاب حدّا ثم دخل الحرم أنه لا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يؤوى ، ولا يكلم ، ولا ينكح ، ولا يبايع ، فإذا خرج منه أقيم عليه الحدّ .
حدثني المثنى ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : إذا أحدث الرجل حدثا ، ثم دخل الحرم ، لم يؤو ، ولم يجالس ، ولم يبايع ، ولم يطعم ، ولم يسق ، حتى يخرج من الحرم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } : فلو أن رجلاً قتل رجلاً ، ثم أتى الكعبة فعاذ بها ، ثم لقيه أخو المقتول لم يحلّ له أبدا أن يقتله .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن دخله يكن آمنا من النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي ، قال : حدثنا زياد ابن أبي عياض ، عن يحيى بن جعدة ، في قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } قال : آمنا من النار .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن ، ومن قال معنى ذلك : ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به كان آمنا ما كان فيه ، ولكنه يخرج منه فيقام عيه الحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه ، وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه .
فتأويل الاَية إذا : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه ، حتى يخرج منه .
فإن قال قائل : وما منعك من إقامة الحدّ عليه فيه ؟ قيل : لاتفاق جميع السلف على أن من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به ، فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه .
وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها ، فقال بعضهم : صفة ذلك منعه المعاني التي يضطر مع منعه وفقده إلى الخروج منه .
وقال آخرون : لا صفة لذلك غير إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي توصل إلى إقامة حدّ الله معها ، فلذلك قلنا : غير جائز إقامة الحدّ عليه فيه إلا بعد إخراجه منه . فأما من أصاب الحدّ فيه ، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقام عليه فيه الحدّ ، فكلتا المسألتين أصل مجمع على حكمها على ما وصفنا .
فإن قال لنا قائل : وما دلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت إذا أتاه مستجيرا به من جريرة جرّها أو من حدّ أصابه من الحرم جائز لإقامة الحدّ عليه وأخذه بالجريرة ، وقد أقررت بأن الله عزّ وجلّ قد جعل من دخله آمنا ، ومعنى الاَمن غير معنى الخائف ، فيما هما فيه مختلفان ؟ قيل : قلنا ذلك لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة ، على أن إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فاحشة أتاها وجبت عليه به عقوبة منه ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه ، واجبٌ على إمام المسلمين وأهل الإسلام معه .
وإنما اختلفوا في السبب الذي يخرج به منه ، فقال بعضهم : السبب الذي يجوز إخراجه به منه ترك جميع المسلمين مبايعته وإطعامه وسقيه وإيواءة وكلامه وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قرار للعائذ به فيه مع بعضها ، فكيف مع جميعها ؟ وقال آخرون منهم : بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة واجب بكل معاني الإخراج . فلما كان إجماعا من الجميع على أن حكم الله فيمن عاذ بالبيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها إخراجه منه لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه ، ثم اختلفوا في السبب الذي يجوز إخراجه به منه كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه حتى يقيموا عليه الحدّ الذي لزمه خارجا منه إذا كان لجأ إليه من خارج على ما قد بينا قبل .
وبعد : فإن الله عزّ وجلّ لم يضع حدا من حدوده عن أحد من خلقه من أجل بقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّي حَرّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا حَرّمَ إبْرَاهِيمَ مَكّةَ » . ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذا لو عاذ من عقوبة لزمته بحرم النبي صلى الله عليه وسلميؤاخذ بالعقوبة فيه . ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أن حرم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه ، لكان أحقّ البقاع أن تؤدى فيه فرائض الله التي ألزمها عباده من قتل أو غيره ، أعظم البقاع إلى الله كحرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حرم الله لإقامة الحدّ لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثة .
فمعنى الكلام إذْ كان الأمر على ما وصفنا : ومن دخله كان آمنا ما كان فيه . فإذا كان ذلك كذلك ، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذا به ، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه . وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه ، فحينئذ هو غير داخله ، ولا هو فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَللّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } .
يعني بذلك جل ثناؤه : وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حجّ بيته الحرام الحجّ إليه . وقد بينا فيما مضى معنى الحجّ ودللنا على صحة ما قلنا من معناه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عزّ وجلّ : { مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } ، وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحجّ ؟ فقال بعضهم : هي الزاد والراحلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : الزاد والراحلة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عمرو بن دينار : الزاد والراحلة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جناب ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : الزاد والبعير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { وَللّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } ، والسبيل : أن يصحّ بدن العبد ، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحِف به .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي عبد الله البجلي ، قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : قال ابن عباس : من ملك ثلثمائة درهم ، فهو السبيل إليه .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن إسحاق بن عثمان ، قال : سمعت عطاء يقول : السبيل : الزاد والراحلة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما من استطاع إليه سبيلاً ، فإن ابن عباس قال : السبيل : راحلة وزاد .
حدثني المثنى ، وأحمد بن حازم ، قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير : { مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : الزاد والراحلة .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : أخبرنا الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، قال : الزاد والراحلة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحسن ، قال : قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاَية : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } فقال رجل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال : «الزّادُ وَالرّاحِلَةُ » .
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما قالوا في ذلك . ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي ، قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر ، يحدّث عن ابن عمر ، قال : قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما السبيل ؟ قال : «الزّادُ وَالرّاحِلَةُ » .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم الخوزي ، عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال في قوله عزّ وجلّ : { مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : «السّبِيلُ إلى الحَجّ الزّادُ وَالرّاحِلَةُ » .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا يونس ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قالوا : يا رسول لله ، ما السبيل ؟ قال : «الزّادُ وَالرّاحِلَةُ » .
حدثنا أبو عثمان المقدميّ ، والمثنى بن إبراهيم ، قالا : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هلال بن عبيد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «مَنْ مَلَكَ زَادا وَرَاحِلَةً تُبَلّغُهُ إلى بَيْتِ اللّهِ فَلَمْ يَحُجّ فَلا عَلَيْهِ أنْ يمُوتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرَانِيّا ، وذَلِكَ أنّ الله عَزّ وجَلّ يَقُولُ في كِتَابِهِ : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } » . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال له قائل ، أو رجل : يا رسول الله ، ما السبيل إليه ؟ قال : «مَنْ وَجَدَ زَدا وَرَاحِلَةً » .
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، قال : حدثنا شاذ بن فياض البصري ، قال : حدثنا هلال بن هشام ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن الحرث ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ مَلَكَ زادا وَرَاحِلَةً فَلَمْ يَحُجّ ماتَ يُهودِيّا أوْ نَصْرَانِيّا¹ وَذَلِكَ أنّ اللّهَ يَقُولُ في كِتَابِهِ : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } . . . الاَية .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة وحميد ، عن الحسن ، أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما السبيل إليه ؟ قال : «الزّادُ وَالرّاحِلَةُ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
وقال آخرون : السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحجّ : الطاقة للوصول إليه . قال : وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب ، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه ، بامتناع الطريق من العدوّ الحائل ، وبقلة الماء وما أشبه ذلك . قالوا : فلا بيان في ذلك أبين مما بينه الله عزّ وجلّ بأن يكون مستطيعا إليه السبيل ، وذلك الوصول إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه ، وذلك قد يكون بالمشي وحده ، وإن أعوزه المركب ، وقد يكون بالمركب وغير ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن خالد بن أبي كريمة ، عن رجل ، عن ابن الزبير ، قوله : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : على قدر القوّة .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : الزاد والراحلة ، فإن كان شابا صحيحا ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي حجته . فقال له قائل : كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو أن لبعضهم ميراثا بمكة أكان تاركه ؟ والله لأنطلق إليه ولو حبوا ! كذلك يجب عليه الحجّ .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : من وجد شيئا يبلغه فقد وجد سبيلاً ، كما قال الله عزّ وجلّ : { مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو هانىء ، قال : سئل عامر عن هذه الاَية : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : السبيل : ما يسّره الله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن : من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إليه سبيلاً .
وقال آخرون : السبيل إلى ذلك : الصحة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثنى بن إبراهيم ، قالوا : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، قال : حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة ، قالا : أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الاَية : { ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : السبيل : الصحة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلِلّهِ على النّاسَ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : من وجد قوّة في النفقة والجسد والحُمْلان ، قال : وإن كان في جسده ما لا يستطيع الحجّ فليس عليه الحجّ ، وإن كان له قوّة في مال ، كما إذا كان صحيح الجسد ولا يجد مالاً ولا قوّة ، يقولون : لا يكلف أن يمشي .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء ، إن ذلك على قدر الطاقة ، لأن السبيل في كلام العرب : الطريق ، فمن كان واجدا طريقا إلى الحجّ لا مانع له منه من زمانة ، أو عجز ، أو عدوّ ، أو قلة ماء في طريقه ، أو زاد ، وضعف عن المشي ، فعليه فرض الحجّ لا يجزيه إلا أداؤه فإن لم يكن واجدا سبيلاً ، أعني بذلك : فإن لم يكن مطيقا الحجّ بتعذّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه ، فهو ممن لا يجد إليه طريقا ، ولا يستطيعه ، لأن الاستطاعة إلى ذلك هو القدرة عليه ، ومن كان عاجزا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك ، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل .
وإنما قلنا هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها ، لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص إذ ألزم الناس فرض الحجّ بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الاَية . فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه الزاد والراحلة ، فإنها أخبار في أسانيدها نظر ، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين .
واختلف القراء في قراءة الحجّ ، فقرأ ذلك جماعة من قراء أهل المدينة والعراق بالكسر : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ } ، وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح : «وَلِلّهِ على النّاسِ حَجّ البَيْتِ » وهما لغتان معروفتان للعرب ، فالكسر لغة أهل نجد ، والفتح لغة أهل العالية ، ولم نر أحدا من أهل العربية ادّعى فرقا بينهما في معنى ولا غيره غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين ، إلا ما :
حدثنا به أبو هشام الرفاعي ، قال : قال حسين الجعفي : الحَجّ مفتوح : اسم ، والحِجّ مكسور : عمل .
وهذا قول لم أر أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه ، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت من أنهما لغتان بمعنى واحد . والذي نقول به في قراءة ذلك ، أن القراءتين إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام ، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره ، فهما قراءتان قد جاءتا مجيء الحجة ، فبأيّ القراءتين أعني بكسر الحاء من الحجّ أو فتحها قرأ القارىء فمصيب الصواب في قراءته .
وأما «مَنِ » التي مع قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ } فإنه في موضع خفض على الإبدال من الناس ، لأن معنى الكلام : ولله على من استطاع من الناس سبيلاً إلى حجّ البيت حجه¹ فلما تقدم ذكر الناس قبل «مَن » بين بقوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } ، الذي عليه فرض ذلك منهم ، لأن فرض ذلك على بعض الناس دون جميعهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حجّ بيته ، فأنكره وكفر به ، فإن الله غنيّ عنه ، وعن حجه وعمله ، وعن سائر خلقه من الجنّ والإنس . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن أبي المجالد ، قال : سمعت مقسما ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ } قال : من زعم أنه ليس بفرض عليه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن عطاء وجويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } قالا : من جحد الحجّ وكفر به .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا هشيم ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن عطاء ، قال : من جحد به .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عمران القطان ، يقول : من زعم أن الحجّ ليس عليه .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } قال : من أنكره ، ولا يرى أن ذلك عليه حقا ، فذلك كفر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَمَنْ كَفَرَ } قال : من كفر بالحجّ .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } قال : من كفر بالحجّ كفر بالله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا يعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن في قول الله عزّ وجلّ : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ } قال : من لم يره عليه واجبا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَمَنْ كَفَرَ } قال بالحجّ .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن لا يكون معتقدا في حجه أن له الأجر عليه ، ولا أن عليه بتركه إثما ولا عقوبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : ثني عبد الله بن مسلم ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } قال : هو ما إن حجّ لم يره بِرّا ، وإن قعد لم يره مأثما .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : هو ما إن حجّ لم يره بِرّا ، وإن قعد لم يره مأثما .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مطر ، عن أبي داود نفيع ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «{ وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } » فقام رجل من هذيل ، فقال : يا رسول الله من تركه كفر ؟ قال : «مَنْ تَرَكَهُ وَلاَ يخافُ عُقُوبَتَهُ ، وَمَنْ حَجّ وَلا يَرْجُو ثَوَابَهُ ، فَهُوَ ذَاكَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } يقول : من كفر بالحجّ ، فلم ير حجه برّا ، ولا تركه مأثما .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن كفر بالله واليوم الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : سألته عن قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } ما هذا الكفر ؟ قال : من كفر بالله واليوم الاَخر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ } قالَ من كفر بالله واليوم الاَخر .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } قال : لما نزلت آية الحجّ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم ، فقال : «يا أيّها النّاسُ إنّ اللّهَ عَزّ وجَلّ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجّ فَحُجّوا ! » فآمنت به ملة واحدة ، وهي من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم وآمن به ، وكفرت به خمس ملل ، قالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نستقبله . فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : أخبرنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو هانىء ، قال : سئل عامر ، عن قوله : { وَمَنْ كَفَرَ } قال : من كفر من الخلق ، فإن الله غنيّ عنه .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم ، عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قول الله : { وَمَنْ كَفَرَ } قال : «مَنْ كَفَرَ بالله والَيْومِ الاَخِرِ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عزّ وجلّ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا } فقالت الملل : نحن مسلمون ! فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } فحجّ المؤمنون ، وقعد الكفار .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن كفر بهذه الاَيات التي في مقام إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } . فقرأ { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبارَكا } فقرأ حتى بلغ : { مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ } قال : من كفر بهذه الاَيات ، { فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } . ليس كما يقولون : إذا لم يحجّ وكان غنيا وكانت له قوّة فقد كفر بها . وقال قوم من المشركين : فإنا نكفر بها ولا نفعل ، فقال الله عزّ وجلّ : { فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } .
حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم ، قال : أخبرنا أبو عمر الضرير ، قال : حدثنا حماد ، عن حبيب بن أبي بقية ، عن عطاء بن أبي رباح ، في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } قال : من كفر بالبيت .
وقال آخرون : كفره به : تركه إياه حتى يموت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، أما من كفر فمن وجد ما يحجّ به ثم لا يحجّ ، فهو كافر .
وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قول من قال : معنى { وَمَنْ كَفَرَ } : ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه ، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعن العالمين جميعا .
وإنما قلنا ذلك أولى به ، لأن قوله : { وَمَنْ كَفَرَ } بعقب قوله : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } بأن يكون خبرا عن الكافر بالحجّ ، أحقّ منه بأن يكون خبرا عن غيره ، مع أن الكافر بفرض الحجّ على من فرضه الله عليه بالله كافر ، وإن الكفر أصله الجحود ، ومن كان له جاحدا ولفرضه منكرا ، فلا شكّ إن حجّ لم يرج بحجه برّا ، وإن تركه فلم يحجّ لم يره مأثما . فهذه التأويلات وإن اختلفت العبارات بها فمتقاربات المعاني .
الضمير في قوله : { فيه } عائد على البيت ، وساغ ذلك مع كون «الآيات » خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه ، وقرأ جمهور الناس : «آيات بينات » بالجمع ، وقرأ أبي بن كعب وعمر وابن عباس : «آية بينة » على الإفراد ، قال الطبري : يريد علامة -واحدة المقام وحده ، وحكي ذلك عن مجاهد .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى ، واختلفت عبارة المفسرين عن «الآيات البينات » فقال ابن عباس : من الآيات المقام ، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا يدل على أن قراءته «آية » بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس ، وقال الحسن بن أبي الحسن : «الآيات البينات » مقام إبراهيم ، وإن من دخله كان آمناً ، وقال مجاهد : المقام الآية ، وقوله : { ومن دخله كان آمناً } كلام آخر .
قال القاضي أبو محمد : فرفع { مقام } على قول الحسن ومجاهد على البدل من { آيات } ، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم ، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه : هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره : منهن { مقام إبراهيم } .
قال القاضي : والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم ، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل ، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل ، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه ، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، ومن آياته الحجر الأسود ، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم من تعظيمه قبل الإسلام ، ومن آياته حجر المقام ، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام ، وقت رفعه القواعد من البيت ، لما طال له البناء فكلما علا الجدار ، ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار ، ثم إن الله تعالى ، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر ، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين ، فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم ، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار ، وقال أبو طالب{[3340]} : [ الطويل ]
ومَوْطِىءُ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطْبَةٌ . . . على قَدَمِيهِ حافياً غيرَ ناعِلِ
فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول ، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه ، وفي حفر عبد المطلب لها آخراً بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة ، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره ، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم ، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعباً ، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له ، وأنه يعظم ماؤها في الموسم ، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار ، ومن آياته ، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر ، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم ، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه ، وسلامة الشجر ، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها ، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله ، { اجعل هذا بلداً آمناً }{[3341]} ، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه ، ولا زاجر ، آية عظمى تقوم بها الحجة ، وهي التي فسرت بقوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع ، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد ، ومن آياته ، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله ، قال في النوادر ، وغيرها : سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم .
قال القاضي أبو محمد : هذا والله أعلم ، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له ، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر . مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال ، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال ، إلى موضع يقال له أضاة ، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية ، قال مالك في العتبية : والحديبية في الحرم ، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره ، أن الطير لا تعلوه ، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به ، فهو يستشفي بالبيت ، وهذا كله عندي ضعيف ، والطير تعاين تعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديماً وحديثاً ، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد ، أخصبت آفاق الأرض ، وإن لم يصب جانباً منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام ، واختلف الناس في { مقام إبراهيم } ، فقال الجمهور : هو الحجر المعروف ، وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع أقطاره ، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم ، وقال قوم : الحرم كله مقام إبراهيم ، والضمير في قوله : { ومن دخله } عائد على الحرم في قول من قال : مقام إبراهيم هو الحرم ، وعائد على البيت في قول الجمهور ، إذ لم يتقدم ذكر لغيره ، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن ، إذا الحرم جزء من البيت ، إذ هو بسببه ولحرمته .
واختلف الناس في معنى قوله { كان آمناً } فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم : هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم ، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار ، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى رجم ، ومن قتل قتل ، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل هنالك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية ، والإسلام زاد البيت شرفاً وتوقيراً ، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه ، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد ، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم ، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، فأما من يقتل في الحرم ، فإنه يقام عليه الحد في الحرم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع ، فليس بآمن ، وقال يحيى بن جعدة{[3342]} : معنى الآية ومن دخل البيت كان آمناً من النار ، وحكى النقاش عن بعض العباد قال : كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فقلت : يا رب إنك قلت : { ومن دخله كان آمناً } ، فمن ماذا هو آمن يا رب ؟ فسمعت مكلماً يكلمني وهو يقول : من النار ، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد .
وقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } الآية ، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع ، وقال مالك رحمه الله : الحج كله في كتاب الله ، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي فسره النبي عليه السلام ، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب الحديث{[3343]} ، وشروط وجوبه خمسة ، البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والإسلام ، واستطاعة السبيل ، والحج في اللغة ، القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عصام : «حِج البيت » بكسر الحاء ، وقرأ الباقون : «حَج البيت » قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد ، كما قيل حجة .
قال القاضي : بكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة ، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له{[3344]} ، قال أبو علي : قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من الفعل ، ولكن كسروه فجعلوه اسماً لهذا المعنى ، كما أن غزاة كذلك ، ولم تجىء فيه الغزوة وكان القياس .
قال القاضي : وأكثر ما التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحِجة ، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها على الأصل ، وقال الزجّاج وغيره ، «الحَج » : بفتح الحاء المصدر ، وبكسرها اسم العمل ، وقال الطبري : هما لغتان الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية .
وقوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلاً } ، { من } في موضع خفض بدل من { الناس } ، وهو بدل البعض من الكل وقال الكسائي وغيره : هي شرط في موضع رفع بالابتداء ، والجواب محذوف تقديره : من استطاع فعليه الحج ، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله : { ومن كفر } ، وقال بعض البصريين : { من } رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو { حج البيت } ويكون المصدر مضافاً إلى المفعول ، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي ؟ فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراحلة ، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي{[3345]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال :( الزاد والراحلة ) {[3346]} ، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً »{[3347]} ، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر{[3348]} عن ابن عمر قال : قام رجل إلى النبي عليه السلام ، فقال : ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة .
قال القاضي : وضعّف قوم هذا الحديث ، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين{[3349]} وغيره ، والحديث مستغن عن طريق إبراهيم ، وقال بعض البغداديين ، هذا الحديث مشير إلى أن الحج لا يجب مشياً .
قال القاضي : والذي أقول : إن هذا الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة واستصعاب المشي على القدم كثيراً ، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث ، لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة ، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار البعيدة ، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب ، وقد ذكره الله تعالى في قوله : { يأتوك رجالاً } [ الحج : 27 ] وكذلك أيضاً معنى الحديث : الزاد والراحلة لمن لم يكن له عذر في بدنه ، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه ، وأما العديم فله أن يحج إذا تكلف واستطاع ، فمقصد الحديث : أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد الدار ، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر ، وإن كان الحج غير واجب عليه ، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه ، وهذه مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى ، وذهبت فرقة من العلماء إلى قوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلاً } كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير ذلك ، بل إذا كان مستطعياً غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج ، قال ذلك ابن الزبير والضحاك ، وقال الحسن : من وجد شيئاً يبلغه فقد استطاع إليه سبيلاً ، وقال عكرمة : استطاعة السبيل الصحة ، وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه ، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه ، في سماع أشهب من العتبية ، وفي كتاب محمد ، وقد قيل له : أتقول إن السبيل الزاد والراحلة ؟ فقال : لا والله ، قد يجد زاداً وراحلة ولا يقدر على مسير ، وآخر يقدر أن يمشي راجلاً ، وربَّ صغير أجلد من كبير فلا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى .
قال القاضي : وهذا أنبل كلام ، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضاً ، الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد ، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على الأقدام ، والاستطاعة - متى تحصلت- عامة في ذلك وغيره ، فإذا فرضنا رجلاً مستطيعاً للسفر ماشياً معتاداً لذلك ، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة ، فالحج عليه واجب دون زاد ولا راحلة ، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال ، وكان الشافعي يقول : الاستطاعة على وجهين : بنفسه أولاً ، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك .
واختلف الناس هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي ؟ على قولين ، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القولين ، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه : لا يعجل عليهما في حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين ، فهذا على التراخي ، وقال في كتاب ابن المواز : لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا الفريضة ، فليخرج وليدعهما ، فهذا على الفور ، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج : لا تخرج في أيام عدتها ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي{[3350]} : فجعله على التراخي .
قال القاضي : وهذا استقراء فيه نظر ، واختلف قول مالك رحمه الله فيمن يخرج إلى الحج على أن يسأل الناس جائياً وذاهباً ممن ليست تلك عادته في إقامته ، فروى عنه ابن وهب أنه قال : لا بأس بذلك ، قيل له فإن مات في الطريق قال : حسابه على الله ، وروى عنه ابن القاسم أنه قال : لا أرى اللذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج والغزو ، ويسألوا وإني لأكره ذلك ، لقول الله سبحانه ، { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج }{[3351]} قال ابن القاسم : وكره مالك أن يحج النساء في البحر لأنها كشفة ، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذين لا يجدون منه بداً ، وقال في كتاب محمد وغيره : قال الله تعالى : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق }{[3352]} وما أسمع للبحر ذكراً .
قال الفقيه القاضي : وهذا تأنيس من مالك رحمه الله لسقوط لفظة البحر ، وليس تقتضي الآية سقوط البحر ، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ناس من أمتي عرضوا عليَّ ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله »{[3353]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ولا فرق بين الغزو والحج ، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة على ذلك ، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشياً فتمشي وتعجز في بعض الطريق : إنها تعود ثانية ، قال : والرجال والنساء في ذلك سواء ، فعلى هذا ، يجب الحج إذا كانت قادرة على المشي لان حجة الفريضة آكد من النذر ، وقال في كتاب محمد : لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه ، لأن مشيهن عورة ، إلا أن يكون المكان القريب من مكة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ينظر بفقه الحال الى رائعة ومتجالة{[3354]} ، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته ، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن في القافلة أو رجال ثقات ؟ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه : المحرم من السبيل ، ولا حج عليها إلا مع ذي محرم .
قال القاضي : وهذا وقوف مع لفظ الحديث ، وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء ، وقال الشافعي : تخرج مع حرة ثقة مسلمة ، وقال ابن سيرين : تخرج مع رجل ثقة من المسلمين ، وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل .
قال القاضي : وهذه الأقوال راعت معنى الحديث : وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن كره زوجها وليس له منعها ، واضطرب قول الشافعي في ذلك ، واختلف الناس في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة ، فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس ، وقال عبد الوهاب ، إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض ، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط ، وعلى هذا المنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار ، وهذه نبذة من فقه الاستطاعة ، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان .
والسبيل - تذكر وتؤنث ، والأغلب والأفصح التأنيث ، قال الله تعالى : { تبغونها عوجاً }{[3355]} وقال : { قل هذه سبيلي }{[3356]} ومن التذكير قول كعب بن مالك{[3357]} .
قضى يوم بدر أن تلاقي معشراً . . . بغوا وسبيل البغي بالناس جائز
والضمير في { إليه } ، عائد على البيت ، ويحتمل أن يعود على الحج ، وقوله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال ابن عباس : المعنى ، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه ، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان{[3358]} والحسن ومجاهد ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قرأ الآية ، فقال له رجل من هذيل : يا رسول الله ( من تركه كفر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو ذلك ){[3359]} وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس ومجاهد أيضاً ، وهذا والذي قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة ، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء معنى الآية ، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول ، وقال ابن زيد : معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت ، وقال السدي وجماعة من أهل العلم : معنى الآية : ومن كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج ، قال السدي : من كان بهذه الحال فهو كافر .
قال القاضي أبو محمد : فهذا كفر معصية ، كقوله عليه السلام ، ( من ترك الصلاة فقد كفر ) {[3360]} وقوله : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ) {[3361]} ، على أظهر محتملات هذا الحديث . وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة ، ومعنى قوله تعالى : { غني عن العالمين } الوعيد لمن كفر ، والقصد بالكلام ، فإن الله غني عنهم ، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى ، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا رَبَّ سواه .
{ فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله وكان ءامنا }
جملة { فيه آيات بيِّنات } استئناف ثناء على هذا البيت بما حفّ به من المناقب والمزايا فغيّر الأسلوب للاهتمام ولذلك لم تجعل الجملة حالاً ، فتعطف على الحالين قبلها ، لأنّ مباركاً وهدى وصفان ذاتيّان له ، وحالان مقارنان ، والآيات عوارض عرضت في أوقات متفاوتة ، أو هي حال ثالثة ولم تعطف بالواو لأنّها جملة وما قبلها مفردان ولئلاّ يتوهم أن الواو فيها واو الحال ، فتكون في صورتها جارية على غير صورة الأفصح في مثلها من عدم الاقتران بالواو ، على ما حقَّقه الشَّيخ عبد القاهر ، فلو قرنت بواو العطف لالتبست بواو الحال ، فكرهت في السمع ، فيكون هذا من القطع لدفع اللبس ، أو نقول هي حال ولم تعطف على الأحوال الأخرى لأنّها جملة ، فاستغنت بالضّمير عن رابط العطف .
ووصف الآيات ببيِّناتٍ لظهورها في علم المخاطبين . وجماع هذه الآيات هي ما يسّره الله لسكّان الحرم وزائريه من طرق الخير ، وما دفع عنهم من الأضرار ، على حالة اتّفق عليها سائر العرب ، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم ، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم .
وأعظمها الأمن ، الّذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تديّنهم ، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء ، وتَواضُعُ مثل هذا بين مختلف القبائل ، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والأديان ، آية على أنّ الله تعالى وقَر ذلك في نفوسهم . وكذلك تأمين وحْشِه مع افتتان العرب بحبّ الصّيد . ومنها ما شاع بين العرب من قصم كلّ من رامه بسوء ، وما انصرافُ الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة إلا آية من آيات الله فيه . ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك . وافتداء الله تعالى إيّاه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم عليْه السّلام قربانه . ومنها ما شاع بين العرب وتوارثوا خبره أباً عن جدّ من نزول الحجر الأسود من السَّماء على أبي قبيس بمرأى إبراهيم ، ولعلَّه حجر كوكبي . ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قُحولة أرضه ، وملوحة مائه .
وقوله : { مقام إبراهيم } أصل المقام أنّه مَفْعَل من القيام ، والقيام يطلق على المعنى الشَّائع وهو ضدّ القعُود ، ويطلق على خصوص القيام للصّلاة والدعاء ، فعلى الوجه الثَّاني فرفع مقام على أنّه خبر لضمير محذوف يعود على { للذى ببكّة } ، أي هو مقام إبراهيم ، أي البيتُ الَّذى ببكّة . وحذْفُ المسند إليه هنا جاء على الحذف الَّذي سمَّاه علماء المعاني ، التَّابعين لاصطلاح السكاكي ، بالحذف للاستعمال الجاري على تركه ، وذلك في الرفع على المدح ، أو الذم ، أو الترحّم ، بعد أن يجري على المسند إليه من الأوصاف قبل ذلك ما يبيّن المراد منه كقول أبي الطمحان القيني :
فإنّ بني لأمِ بن عمرو أرومة *** سَمَتْ فوق صعب لا تُنالُ مراقبه
نجوم سماءٍ كلّما انْقَضَّ كوكبٌ *** بَدَا كوكب تأْوِي إليه كواكبــه
هذا هو الوجه في موقع قوله تعالى : { مقام إبراهيم } .
وقد عبّر عن المسجد الحرام بأنّه مقام إبراهيم أي محلّ قيامه للصلاة والطواف قال تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] ويدل لذلك قول زيد بن عَمرو بن نُفَيل :
عُذْتُ بما عاذَ به إبْرَاهِمْ *** مستقبلَ الكَعْبَةِ وهو قائم
وعلى الوجه الأول يكون المراد الحجر الَّذى فيه أثر قَدَمي إبراهيم عليه السّلام في الصّخرة التي ارتقى عليها ليرفع جدران الكعبة ، وبذلك فسر الزجّاج وتبعه على ذلك الزمخشري ، وأجاب الزمخشري عمَّا يعترض به من لزوم تبيين الجمع بالمفرد بأنّ هذا المفرد في قوّة جماعة من الآيات لأنّ أثر القدم في الصّخرة آية ، وغوصَه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصّخر دون بعض آية ، وأنا أقول : إنَّه آيات لدلالته على نبوّة إبراهيم بمعجزة له وعلى علممِ الله وقدرته ، وإنّ بقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضاً .
وقوله : { ومن دخله كان آمناً } عطف على مَزايا البيت وفضائله من الأمن فيه على العموم ، وامتنان بما تقرّر في ماضِي العصور ، فهو خبر لفظاً مستعمل في الامتنان ، فإنّ الأمن فيه قد تقرّر واطّرد ، وهذا الامتنان كما امتنّ الله على النَّاس بأنَّه خلق لهم أسماعاً وأبصَاراً فإنّ ذلك لا ينقض بمن ولد أكمه أو عرض له ما أزال بعض ذلك .
قال ابن العربي : هذا خبر عمّا كان وليس فيه إثبات حكم وإنّما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات ؛ أنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته ، وصرف الأيدي عن إذايتِه . وروي هذا عن الحسن . وإذا كان ذلك خبراً فهو خبر عمّا مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحَجَّاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة . وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى : { وأخر متشابهات أوّل هذه السورة } [ آل عمران : 7 ] .
ومن العلماء من حمل قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } أنَّه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يُصاب بأذى ، وروي عن ابن عبَّاس ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي .
وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل العمل بهذا الأمر ؛ فقال جماعة : هذا حكمٌ نُسخ يعنون نسختْه الأدلّة الَّتي دلّت على أنّ الحرم لا يُعيذ عاصياً . روى البخاري ، عن أبي شُريح الكعبي ، أنَّه قال لعَمْرِو بن سعيد وهو يبعث البُعوث إلى مكّة أي لحرب ابن الزبير : ائذن لي أيُّهَا الأمير أحدثْك قولاً قام به رسول الله الغدَ من يوم الفتح ، سمعتْه أُذناي ووعاه قلبي وأبصرتْه عيناي حين تكلَّم به : إنَّه حمد الله وأثنى عليه ثُمّ قال : « إنّ مكَّة حرَّمها الله ولم يحرّمها النَّاس ؛ لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة . فإنْ أحَد تَرَخَّص لقتال رسول الله فيها فقولوا له : إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنَّما أذِن لي فيها ساعة من نهار وقد عَادَتْ حُرْمَتُها اليَومَ كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهدُ الغائبَ » . قال : فقال لي عَمْرو : أنا أعلمَ بذلك منكَ يا أبا شُرَيح إنّ الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدَم ولا فارّا بخَرْبة ( الخَربة بفتح الخاء وسكون الراء الجناية والبلية الَّتي تكون على النَّاس ) وبما ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أمر بأن يُقْتل ابن خَطل وهو متعلِّق بأستار الكعبة يوم الفتح .
وقد قال مالك ، والشَّافعى : إنّ من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثُمّ عاذ بالحرم يقام عليه الحدّ في الحرم ويقاد منه .
وقال أبو حنيفة ، وأصحابه الأربعة : لا يقتصّ في الحرم من اللاجىء إليه من خارجه ما دام فيه ؛ ولكنَّه لا يبايَع ولا يؤاكَلُ ولا يجالَسُ إلى أن يخرج من الحرم .
ويروون ذلك عن ابن عبَّاس ، وابنِ عُمر ، ومَنْ ذكرناه معهما آنفا .
وفي أحكام ابن الفرس أن عبد الله بن عمر قال : « من كان خائفاً من الاحتيال عليه فليس بآمن ولا تجوز إذايته بالامتناع من مكالمته » .
وقال فريق : هو حكم محكم غير منسوخ ، فقال فريق منهم : قوله : { ومن دخله } يفهم منه أنَّه أتى ما يوجب العقوبة خارجَ الحرم فإذا جنى في الحرم أقيد منه ، وهذا قول الجمهور منهم ، ولعلّ مستندهُم قوله تعالى : { والحرمات قصاص } [ البقرة : 194 ] أو استندوا إلى أدلّة من القياس ، وقال شذوذ : لا يقام الحدّ في الحرم ، ولو كان الجاني جنى في الحرم وهؤلاء طردوا دليلهم .
وقد ألممنا بذلك عند قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتَّى يقاتلوكم فيه } [ البقرة : 191 ] .
وقد جعل الزجّاج جملة { ومن دخله كان آمناً } آية ثانية من الآيات البيّنات فهى بيان ل { آيات } ، وتبعه الزمخشري ، وقال : يجوز أن يطلق لفظ الجمع على المثنّى كقوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] . ( وإنَّما جاز بيان المفرد بجملة لأنّ هذه الجملة في معنى المفرد إذ التَّقدير : مقامُ إبراهيم وأمْنُ مَن دخَله . ولم ينظر ذلك بما استعمل من كلام العرب حتَّى يُقَرّب هذا الوجه . وعندي في نظيره قول الحرث بن حلزة :
مَنْ لنا عنده من الخيْر آيا *** تٌ ثلاثٌ في كلهنّ القضاء
آيةٌ شارق الشقيقة إذ جـا *** ءَت مَعَدّ لِكلّ حيّ لــواء
ثُمّ حُجْرا أعني ابن أم قَطامٍ *** وله فارسية خضــراء
وفككنا غُلّ امرىء القيس عنه ** بعد ما طال حَبسه والعَناء
فجعل ( وفككنا ) هي الآية الرابعة باتِّفاق الشرّاح إذ التقدير : وفَكُّنا غُل امرىء القيس .
وجوّز الزمخشري أن يكون آيات باقياً على معنى الجمع وقد بُيّن بآيتين وتركت الثَّالثة كقول جرير :
كانَتْ حنيفةُ أثلاثا فثُلْثهُمُ *** من العبيدِ وثُلث من مواليها
أي ولم يذكر الثلث الثالث وهو تنظير ضعيف لأنّ بيت جرير ظهر منه الثُلث الثالث ، فَهُم الصميم ، بخلاف الآية فإنّ بقية الآيات لم يُعرف . ويجوز أن نجعل قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } إلخ متضمّناً الثالثة من الآيات البيّنات .
{ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } .
حُكم أعقب به الامتنان : لما في هذا الحكم من التَّنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه . والتَّقدير : مباركاً وهدى ، وواجباً حجّه . فهو عطف على الأحوال .
والحجّ تقدّم عند قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } في سورة [ البقرة : 197 ] ، وفيه لغتان فتح الحاء وكسرها ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن بكسر الحاء إلاّ في هذه الآية : قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بكسر الحاء .
ويتّجه أن تكون هذه الآية هي الَّتي فرض بها الحجّ على المسلمين ، وقد استدلّ بها علماؤنا على فرضية الحجّ ، فما كان يقع من حجّ النّبيء والمسلمين ، قبل نزولها ، فإنَّما كان تقرّباً إلى الله ، واستصحاباً للحنيفية .
وقد ثبت أنّ النّبيء حجّ مرّتين بمكّة قبل الهجرة ووقف مع النَّاس . فأمَّا إيجاب الحجّ في الشَّريعة الإسلاميَّة فلا دليل على وقوعه إلاّ هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحجّ ، فلا يعد ما وقع من الحجّ قبل نزولها ، وبعد البعثة إلاّ تحنّثاً وتقرّباً ، وقد صحّ أنَّها نزلت سنة ثلاث من الهجرة ، عقب غزوة أحدُ ، فيكون الحجّ فرض يومئذ . وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فرضية الحجّ على ثلاثة أقوال : فقيل : سنة خمس ، وقيل : سنة سبع ، وقيل : سنة تسع ، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها ، سوى أنَّه ذكر عن ابن هشام ، عن أبي عبيد الواقدي أنَّه فرض عام الخندق ، بعد انصراف الأحزاب ، وكان انصرافهم آخر سنة خمس . قال ابن إسحاق : وولى تلك الحجَّة المشركون . وفي مقدّمات ابن رشد ما يقتضي أنّ الشافعي يقول : إنّ الحجّ وجب سنة تسع ، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أنّ دليل وجوب الحجّ قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } . وقد استدلّ الشَّافعي بها على أنّ وجوبه على التَّراخي ، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرَّر سنة ثلاث ، وأصبح المسلمون منذ يومئذ مُحْصَرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكّة ووقعت حجّة سنة تسع .
وفي هذه الآية من صيَغ الوجوب صِيغتان : لام الاستحقاق ، وحرف ( على ) الدال على تقرّر حقّ في ذمة المجرور بها . وقد تعسّر أو تعذّر قيام المسلمين بأداء الحجّ عقب نزولها ، لأنّ المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك ، فلعلّ حكمة إيجاب الحجّ يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحجّ مهما تمكّنوا من ذلك ، ولتقوم الحجَّة على المشركين بأنَّهم يمنعون هذه العبادة ، ويصدّون عن المسجد الحرام ، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه .
وقوله : { من استطاع إليه سبيلا } بدل من النَّاس لتقييد حال الوجوب ، وجوّز الكسائي أن يكون فاعل حَجّ ، وردّ بأنَّه يصير الكلام : لله على سائر النَّاس أن يحجّ المستطيع منهم ، ولا معنى لتكليف جميع النَّاس بفعل بعضهم ، والحقّ أنّ هذا الردّ لا يتّجه لأنّ العرب تتفنَّن في الكلام لعلم السامع بأنّ فرض ذلك على النَّاس فرض مجمل يبيِّنه فاعل حَجّ ، وليس هو كقولك : استطَاع الصّوم ، أو استطاع حمل الثقل ، ومعنى { استطاع سبيلاً } وجد سبيلاً وتمكّن منه ، والكلام بأواخره . والسَّبيل هنا مجاز فيما يتمكّن به المكلّف من الحجّ .
وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها ، واتَّحدت أغراضها ، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتاً في كتب التَّفسير وغيرها ، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جداً ، وسبيل البعيد الراحلة والزاد ، ولذلك قال مالك : السبيل القدرة والنَّاس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم .
واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحْتِرَاف في طريقه : فقال مالك : إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه ، وقال بمثله ابن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة . وعن مالك كراهية السفر في البحر للحجّ إلا لمن لا يجد طريقاً غيره كأهل الأندلس ، واحتجّ بأنّ الله تعالى قال : { يأتوك رجالاً وعلى كُلّ ضامر } [ الحج : 27 ] ولم أجد للبحر ذكراً . قال الشيخ ابن عطية : هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالَّتي تقتضي سقوط سفر البحر . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ناس من أمَّتِي عُرِضوا عليّ غُزاة في سبيل الله يركبون ثَبَج هذا البحر » وهل الجهادِ إلاّ عبادة كالحجّ ، وكره مالك للمرأة السَّفر في البحر لأنَّه كشفة لها ، وكلّ هذا إذا كانت السَّلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة ، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البرّ إلاّ في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحارَ .
وظاهر قوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلا } أنّ الخطاب بالحجّ والاستطاعة للمرءِ في عمله لا في عمل غيره ، ولذلك قال مالك : لا تصحّ النِّيابة في الحجّ في الحياة لعذر ، فالعاجز يسقط عنه الحجّ عنده ولم ير فيه إلاّ أنّ للرجل أن يوصي بأن يُحَجّ عنه بعد موته حجّ التَّطوع ، وقال الشَّافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه : إذا كان له عذر مانع من الحجّ وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحجّ عنه ، أو كان له مال يستأجر به من يحجّ عنه ، صار قادراً في الجملة ، فيلزمه الحجّ ، واحتجّ بحديث ابن عبَّاس : أنّ امرأة من خثعم سألت النّبيء صلى الله عليه وسلم يوم حجَّة الوداع فقالت : إنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدركتْ أبي شيخاً كبيراً لا يثبُت على الراحلة أفيُجْزِىء أن أحجّ عنه ؟ قال : نعم ، حُجِّي عنه أرَأيْتِ لو كان على أبيكِ دَيْن أكُنْتِ قاضيتَهُ ؟ قالت : نعم ، قال : فَدَيْن الله أحقّ أن يقضى . وأجاب عنه المالكية بأنّ الحديث لم يدلّ على الوجوب بل أجابها بما فيه حثّ على طاعة أبيها ، وطاعة ربِّها .
وقال عليّ بن أبي طالب ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وابن المبارك . لا تجزىء إلاّ إنابة الأجرة دون إنابة الطَّاعة .
وظاهر الآية أنَّه إذا تحقّقت الاسْتطاعة وجب الحجّ على المستطيع على الفور ، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاءِ الأمر الفورَ أو عدممِ اقتضائِه إيّاه ، وقد اختلف علماء الإسلام في أنّ الحجّ واجب على الفور أو على التَّراخي . فذهب إلى أنَّه على الفور البغداديون من المالكية : ابنُ القصار ، وإسماعيل بن حَماد ، وغيرهما ، وتأوّلوه من قول مالك ، وهو الصّحيح من مذهب أبي حنيفة ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وداوود الظاهري . وذهب جمهور العلماء إلى أنّه على التَّراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشَّافعي وأبي يوسف .
واحتجّ الشّافعي بأنّ الحجّ فرض قبل حجّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بسنين ، فلو كان على الفور لما أخّره لعُذْر لبيّنه أي لأنَّه قدوة للنَّاس . وقال جماعة : إذا بلغ المرء الستِّين وجب عليه الفور بالحجّ إن كان مستطيعاً خشية الموت ، وحكاه ابن خويزَ مَنْدادَ عن ابن القاسم .
ومعنى الفور أن يوقعه المكلّف في الحجَّة الَّتي يحين وقتها أولاً عند استكمال شرط الاستطاعة .
وقوله : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ظاهره أنَّه مقابل قوله { من استطاع إليه سبيلاً } فيكون المراد بمن كفر من لم يحجّ مع الاستطاعة ، ولذلك قال جمع من المحقّقين : إنّ الإخبار عنه بالكفر هنا تغليظ لأمر ترك الحجّ . والمراد كفر النعمة . ويجوز أيضاً أن يراد تشويه صنعه بأنَّه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حَرمه . وقال قوم : أراد ومن كفر بفرض الحجّ ، وقال قوم بظاهره : إنّ ترك الحجّ مع القدرة عليه كفر . ونسب للحسن . ولم يلتزم جماعة من المفسِّرين أنّ يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلّة . كالتذييل ، بيّن بها عدم اكتراث الله بمن كفر به .
وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام ، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكّة بأنَّه لا اعتداد بحجّهم عند الله وإنَّما يريد الله أن يحجّ المؤمنون به والموحّدون له .
وفي قوله : { غني عن العالمين } رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم : لأنَّه لمّا فرضَ الحجّ وهُم يصدّون عنه ، وأعلمنا أنَّه غني عن النَّاس ، فهو لا يعجزه من يصدّ النَّاس عن مراده تعالى .