الآية 97 [ وقوله تعالى ]{[4081]} : { فيه آيات بينات } يحتمل قوله : { فيه آيات بينات } ما لو تأملوا لهداهم ، وذلك أن الله جل وعلا خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الأنزال والريع ، لا ماء فيها ، ولا شجر ، ولا نزهة{[4082]} ، ولا{[4083]} يرغب الخلق إلى مثله ، ثم جعل قلوب الناس تميل ، وتهوي إليه أفئدتهم من غير أن كان { فيه آيات بينات } ما ذكر { مقام إبراهيم ومن خله كان آمنا } وتلك آياته ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } ظاهرة في من جنى{[4084]} ، ثم دخل الحرم ، أمن ، لأن من لم يجن{[4085]} فهو آمن ، أنى دخل إلى{[4086]} الحرم وغيره . وإنما الآية [ إنما تختص ] {[4087]} بالآمن إذا دخل دون غيره . وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق هذا ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[4088]} قال : ( إذا أصاب الرجل الحد في الحرم أقيم عليه ، وإن أصابه [ في ]{[4089]} غير الحرم ، ثم لجأ إليه ، لا يحدث ، ولا يجالس ، ولا يؤاكل ، ولا يبايع ، حتى يخرج منه ، فيؤخذ ، فتقام عليه الحدود ) وروي{[4090]} عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : ( لو وجدنا قاتل أبينا في الحرم لم نقتله ) وروي عن الحسن ، رحمه الله ، أنه قال في قوله : { ومن دخله كان آمنا } ( كان هذا في الجاهلية ، فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة : من أصاب الحد في غيره ، ثم لجأ إليه ، أقيم عليه الحد ) [ وكان ]{[4091]} يقال للحسن : إن الصيد كان يؤمن{[4092]} في الجاهلية ، ثم الإسلام رفع{[4093]} ذلك الأمن ، بل كان آمن الصيد في حال الإسلام كهو في حال الجاهلية . فعلى ذلك الأمن الذي كان في الجاهلية هو باق غير زائل في الإسلام .
وأصحابنا ، رحمهم الله ، يذهبون إلى ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله حرم مكة يوم خلقها ، لم تحل لأحد قبلي{[4094]} ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار{[4095]} ، لا يختلى خلاها{[4096]} ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يحتش حشيشها ) [ البخاري : 112 و 209 ] أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مكة بعد الإسلام حرام كما كانت قبله ، وأنها لم تحل له [ إلا ]{[4097]} ساعة من نهار ، فإذا كان الملتجئ إليها{[4098]} قبل الإسلام [ آمنا ]{[4099]} فالواجب أن يكون آمنا بعد الإسلام حتى يخرج منها .
وحجة أخرى ، وهي{[4100]} أن الله تعالى أباح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المشركين جميعا ، بل فرض ذلك عليه إلا أهل مكة فإنه لم يحل له قتالهم إلا ساعة من نهار ، ففضل مكة على غيرها بما خصها به من التحريم ، فلا يبعد ألا يقام على من التجأ إليها في الإسلام إذا كانت جنايته أقل من كفر أهلها{[4101]} .
وفي الفرق [ بين ]{[4102]} من قتل فيها وفي غيرها ، ثم لجأ إليه ، وجه آخر : قال{[4103]} الله تعالى : { ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] أباح لهم القتل عند المسجد الحرام إذا قاتلوهم{[4104]} . فعلى ذلك يقام الحد إذا أصاب ، وهو فيه ، وهو في غيره لم يقم كما لم يقاتلوا إذا لم يقاتلوا . وهذا فرق حسن واضح بحمد الله تعالى وعونه .
قال الشيخ ، رحمه الله في قوله جل وعلا : { ومن دخله كان آمنا } : يحتمل أن يكون خبرا عن{[4105]} الحرم في قديم الدهر أنه كان ، [ على ما ]{[4106]} بين الخلق من القتال والحرب يأمنون بالحرام إذا التجؤوا إليه ، وذلك كقوله : { أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] فيكون ذلك من عظيم آيات الله تعالى : { أن الجاهلية على عظيم{[4107]} ما بدلوا من الأمور ، وغيروا من الدين ، منعهم الله تعالى عن هذا التغيير حتى بقيت لكل من شهده آية أن الله ، له هذا السلطان ، وبه قام هذا التدبير العظيم ، له العلم بحقائق الأشياء ووضع كل شيء موضعه .
وعلى ذلك قال بعض أهل التأويل في قوله : { ليعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } [ المائدة : 97 ] : قد جعل ، جل ثناؤه ، ذلك كالمأمن في الشرع والطبع ؛ فأما الشرع فما جاءت الرسل ، وأما الطبع فما تنافر الناس حتى سار ذلك إلى الصيد الذي يؤذيه الأخذ وإلى أنواع الأشياء التي قامت بجوهر تلك البقعة من النبات{[4108]} لا بأسباب تكسب ، ولهذا كره بيع رياع مكة ، ورخص في بيع ما يحدث فيه من البنيان ، والله أعلم . ودل قوله : { جعلنا } كذا على لزوم ذلك الحق لأنه مذكور بحرف الامتنان والاحتجاج له ، ولا يجوز تغيير الذي هذا وصفه ، والله أعلم .
ويحتمل { كان } صار { آمنا } أي أوجب له الأمان ، ومعلوم أن الذي لم يلزمه القتل كان آمنا دون دخوله ، فثبت أن ذلك في من لزمه ، وأيد ذلك قوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] فهم قوم قد سبق منهم الكفر وقت شرع القتل بالكفر ، لم يأخذهم حق الشرع على ما سبق من الكفر في وقت لم يكن ذلك جزاؤه في الدنيا إلا أن يحدث القتال . فعلى ذلك من لزمه لا فيه فهو يأمن إلا أن يكون أحدث فيه ، والله أعلم .
وأصله أنه أضاف الأمان إلى نفسه بقوله : { كان آمنا } وكل واحد{[4109]} ، يتلف نفسه ، فله أمان بالدخول فيه ، وكل حد{[4110]} ، في إقامته إحياء ما جعلت الحياة [ لئلا يقع ]{[4111]} مثله ، فهو يقام ليكون زجرا له وتكفير [ وحفظا ]{[4112]} على بقاء الأمن بقاء{[4113]} نفسه ورده إلى ما يدرأ أنه التجأ إليه للهروب من{[4114]} حكم الله تعالى أو للأمان بالله ليصل إلى إقامة أحكام الله تعالى آمنا ، وفي إقامته هذا أيضا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فرض الله تعالى الحج بهذه الآية على { من استطاع إليه سبيلا } ولم يبين ما السبيل ؟ بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الاستطاعة ، فقال : ( الزاد والراحلة ) [ الترمذي 813 ] وهكذا يقول علماؤنا : إن الاستطاعة والسبيل ، هو الزاد والراحلة كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بعض الناس ، إذا كان بينه وبين الحج بحر ، لم يلزمه الحج ، فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية { من استطاع إليه سبيلا } فجعل{[4115]} البحر وأشباهه مزيلا للاستطاعة ، فخالف ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطاعة ، فقال : ( الزاد والراحلة ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله ، فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية ، ولكنا نجعل من يحال{[4116]} بينه وبين البيت معذورا في التأخير ، ولا يأثم ، إن شاء الله ، إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل ، ولا يأثم في ذلك .
ثم في الآية دلالة ألا تلزم المرأة بالحج إلا بالمحرم ، لأن المرأة ، وإن وجدت الزاد والراحلة ، فإنها تحتاج إلى من يركبها ، وينزلها ، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها ، وهكذا العرف فيهن ، فإذا كان كذلك جعلها{[4117]} كأنها غير واجدة الراحلة ، والله أعلم .
وفيه دلالة : أن العبد إذا حج ، ثم أعتق ، لزمه حجة الإسلام [ لا لأنه ]{[4118]} يملك الزاد والراحلة ، فإذا لم يملك الزاد والراحلة يم يجزه{[4119]} ذلك من حجة الإسلام ، وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أيما عبد حج ولو عشر حجج فعليه إذا أعتق حجة الإسلام ) [ الطبراني في الوسط 2752 ] وليس كالحر الفقير يحج ، ثم أيسر ، جازه{[4120]} ذلك من حجة الإسلام ، ففرقوا بينهما وإن كانا في زوال الحج في الابتداء سواء ، وذلك أن الفقير إذا بلغ ذلك المكان صار غنيا ، ولزمه الفرض ، لأنه لا يحتاج حينئذ إلى زاد وراحلة . وأما العبد إذا حضر ذلك المكان ، لم يعتق [ فلا يجزيه ذلك ]{[4121]} لذلك افترقا .
وفي ذلك حجة أخرى ما جمع أهل العلم أن فقيرا لو حضر القتال ضرب له بسهم كامل كما يضرب لمن كان فرض الجهاد لازما له ، ولو أن عبدا شهد الواقعة ، وضح له [ أنه ]{[4122]} لم يكمل له سهم الحر ، فافتراق{[4123]} حال الفقير والعبد في الجهاد والضرب في السهام . فعلى ذلك يفترق حالهما ، والله أعلم .
وقال بعض أهل العلم : إن الشيخ الذي لا يستمسك على الراحلة إذا وجد غيره ، يلزمه فرض الحج ، فما ينكر ممن قال في المراة بمثله ، فاحتج بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[4124]} قال : ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم /64-ب/ فقال : يا رسول الله إن أبي شيخ أدركته فريضة الحج ، وهو لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة ، أفيجزي أن أحج عنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرأيت لو كان على أبيك دين ، فقضيته عنه ، أكان يقبل منك ؟ قال : نعم ، قال : فأنت{[4125]} أولى بحج أبيك ) أو كلام نحوه [ أحمد : 6/429 ] وليس في الخبر أن فريضة الحج [ قد أدركته وهو شيخ ]{[4126]} ، إنما أدركته فريضة الحج قبل ذلك . فذلك يقول علماؤنا : إن الحج إذا وجب ، فأخر أداءه حتى أعسر ، ولم يسقط عنه الحج ، كذلك إذا وجب عليه الحج ، فلم يحج حتى كبر ، فصار لا يستمسك على الراحلة عليه أن يوصي ليحج عنه ، ويحتمل أيضا أنه رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج عنه متبرعا ، إلا أنه ألزمه الحج في ذلك الوقت لأنه{[4127]} يثبت على الراحلة . وعندنا أنه لا يلزمه لأنه لا يستمسك على الراحلة ، فلا راحلة له . ثم من قول هذا القائل : إن من لزمه فرض الحج فله التأخير ، وفي التأخير فوت{[4128]} أو إدراك المنية ، ومن قوله : إنه لو أخر حتى مات يصير فاسقا ، يجعل له رخصة التأخير ، ثم يفسقه ، فكأنه{[4129]} يجعل له الرخصة في الفسق ، وذلك{[4130]} قبيح ووحش من القول سمج . وأما عندنا فلا يسع له التأخير في أول أحوال الإمكان على تمام شرط الاختيار كغيره من العبادات التي لزمت من نحو الصلاة والصيام وغيرهما لا يسع التأخير ، فعلى ذلك الحج .
ثم من قول الشافعي ، رحمه الله : إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره ، فإذا أسلم سقط ذلك عنه ، فذلك عندنا لعب وعبث في دين الله تعالى ، وتبارك ، غير جائز أن يلزمه فرض في حال [ ليس عليه ]{[4131]} فعله ، فإذا جاء سبب الجواز سقط{[4132]} عنه ذلك ، وفي الآية أن الحج إنما [ كان ]{[4133]} فرضا على المؤمنين خاصة بقوله : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } فلو كان هو على الكافر كما المسلم لم يكن لقوله معنى ، دل أنه غير لازم ، والله أمر بالعبادات باسم المؤمنين .
ثم المسألة بيننا وبين المعتزلة في الاستطاعة : قالت المعتزلة : تكون قبل الفعل لأن الله تعالى فرض الحج ، وأمر بالخروج إليه إذا قدر على الزاد والراحلة على ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يقدر لم يلزمه ، فدل أنها تتقدم . وأما عندنا فهي على وجهين :
أحدهما : استطاعة الأسباب والأحوال .
فأما استطاعة الأحوال والأسباب فيجوز تقدمها من نحو الزاد والراحلة والجوارح السليمة ، وأما استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل لأنها استطاعة الفعل وسببه ، فلا تكون إلا معه ، والوقت في الحج [ لفعل الحج ]{[4134]} لا للإيجاب ، لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج ، ولا يأتي ذلك المكان ، فيجب عليه الحج ، ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت ، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان ، فيجيء ألا يلزمه إلا بحضور ذلك ، فلا يلزمه الخروج أبدا ، إذ الحج غير لازم إلا بالوقت ، ولأنه ليس على العبد أن يكلف باكتساب إيجاب العبادات ، وعليه أن يجهد في أداء الواجب عليه .
ثم الأوقات على أقسام ثلاثة : وقت الإيجاب والأداء جميعا نحو الصلاة والصيام ونحوهما ، ووقت الإيجاب نحو الزكاة ، ووقت الأداء وهو الحج ، إنما وجوبه بالزاد والراحلة . وأما وقته{[4135]} فهو للأداء خاصة ، فإذا كان في أقصى بلاد المسلمين فهو لم يعط قدرة فعل الحج لأنه لا يقدر على فعله إذا كان في ما ذكرنا ، دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرنا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } في الآية أن الله جل وعلا إذا أمر عباده بأمر ، ليس يأمر لحاجة{[4136]} نفسه ، ويأمره لحاجة العبد لأنه غني بذاته ، لا حاجة تمسه .
وأما الأمر في ما بين الخلق فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض : إما جر منفعة وإما دفع مكروه ، فذلك معنى قوله : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } .
ثم اختلف في قوله : { ومن كفر } عن ابن عباس رضي الله عنه ( [ { ومن كفر ] قال : من زعم أنه لم ينزل ) وعن الحسن : ( { ومن كفر } قال : من زعم أن الحج ليس بواجب ) وقيل : { ومن كفر } قال : هو الذي إن حج لم يرج ثوابه ، وإن جلس لم يجز عقابه ، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ]{[4137]} ( { من استطاع إليه سبيلا } والسبيل أن يصح بدن العبد ، وأن يكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يحجب ، ثم قال : { ومن كفر } يقول : { ومن كفر } بالحج ، فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما ) .
[ وفي قوله تعالى ]{[4138]} : { ولله على الناس حج البيت } دلالتان :
إحداهما : في الوجوب بقوله : { ولله على الناس } وأيد ذلك قوله : { ومن كفر } وما جاء من الأثر واتفاق القول .
والثانية{[4139]} : جعل البيت شرطا للقيام لما هو في قوله : { على الناس } ذلك ، فيكون فيه دليل لزوم الطواف ، وتفسيره{[4140]} في قوله : { وليطوفوا بالبيت العتيق } [ الحج : 29 ] وكذلك أيده قوله : { فمن حج البيت أو اعتمر } [ البقرة : 158 ] وأيده{[4141]} أيضا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في امرأة نفست : ( أحابستنا هي ؟ ) [ البخاري /1757 ] قيل : إنها أفاضت . وعلى ذلك اتفاق القول بلزوم الطواف ، والله أعلم ، فلما دل أن الطواف لازم لم يخل إما أن يكون الطواف : المبدأ به في الحج ، وإما{[4142]} الذي يختم به . والذي يبدأ به لا يلزم كل الناس . ثبت أن الفرض هو الذي يختم به ، وهو قوله : { من استطاع إليه سبيلا } أوجب جعل السبيل إليه والإمكان شرطا للوجوب ، إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل . وعلى ذلك جميع العبادات جعل الإمكان في وجوبها شرطا بالوسع{[4143]} بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة ، وكذا حق هذا بالفعل ، وذلك يخرج على وجهين :
[ أحدهما ]{[4144]} : استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير ذلك ، الأفعال أو اشتغال ذلك بالفعل ، فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه ، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته كفوت العلم به ، على أن كان لا يقوم دونه . والذي يؤيد أن هذه الاستطاعة ليست{[4145]} بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى ، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيأ ، وذلك نحو أن نكون في أقصى البلاد من مكة . ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه ، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل ، فلذلك لم يجب تكليف الخروج ، ولا أمر بالحج ، فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب ، ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة ، وكذلك يجوز في الكفارات استعمال الأبدال في حال العجز ، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل بل على ظهور ألا يمتد بمعنى البدل ، ثبت أن لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف ، والله أعلم .
والثاني : يراد بالاستطاعة سلامة الأسباب ، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل لأنه ممنوع ، ومحال أمر الممنوع عن الفعل به كالأعمى والمقعد ونحو ذلك . وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة ، وهو{[4146]} اللازم في الفعل لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور ، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ، ولا نعمة ، والله أعلم . وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال : ( الزاد والراحلة ) [ الترمذي 813 ] والله الموفق . وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي حنيفة رضي الله عنه : وجوب الحج ، وإن لم يدرك الوقت الذي فيه{[4147]} يقوم الحج على ما لزمه ، وإن لم يكن أصاب المكان الذي فيه يقام ، والله أعلم بظاهر الآية مع ما ذكرنا من بيان الأثر .
وأصله أن الوقت في الحج جعل بجواز الفعل إذ هو لفوات لا يحتمل في غيره ، وكل فعل يجوز في غير وقته فما يقرب من الوقت به كان أحق بالجواز ، فإذا لم يجز هذا ، جاز في مثله من القابل ثبت أنه للجواز لا للوجوب ، وأيد ذلك ما لا يوصف بالقضاء متى أدي ، ولو كان في الأول واجبا لوقت الأول لكان يكون في الثاني قاضيا ، فإذا لم يكن ثبت أنه ليس لوجوبه وقت ، والله أعلم .