والآيات البينات الواضحات : منها الصفا ، والمروة ، ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء ، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن ، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها انحراف الطيور ، عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان ، ومنها هلاك من يقصده من الجبابرة ، وغير ذلك . وقوله : { مقَام إبراهيم } بدل من آيات قاله محمد بن يزيد المبرد . وقال في الكشاف : إنه عطف بيان . وقال الأخفش : إنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير منها مقام إبراهيم ؛ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي : هي مقام إبراهيم ، وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات ، وهي : جمع بالمقام ، وهو : فرد ، وأجاب بأن المقام جعل ، وحده بمنزلة آيات لقوّة شأنه ، أو بأنه مشتمل على آيات ، قال : ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نوع من الجمع .
قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } جملة مستأنفة لبيان حكم من أحكام الحرم ، وهو : أن من دخله كان آمناً ، وبه استدل من قال : إن من لجأ إلى الحرم ، وقد وجب عليه حدّ من الحدود ، فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ، ومن تابعه ، وخالفه الجمهور ، فقالوا : تقام عليه الحدود في الحرم .
وقد قال جماعة : إن الآية خبر في معنى الأمر ، أي : ومن دخله ، فأمنوه كقوله : { فلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا .
قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } اللام في قوله : { لِلَّهِ } هي التي يقال لها : لام الإيجاب ، والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف «على » فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب ، كما إذا قال القائل لفلان عليّ كذا ، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته ، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي ، والعبد . وقوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس . وبه قال أكثر النحويين . وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج . والتقدير : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، وقيل : إن «من » حرف شرط ، والجزاء محذوف ، أي : من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج .
وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي ؟ فقيل الزاد ، والراحلة ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، وحكاه الترمذي ، عن أكثر أهل العلم ، وهو : الحق . قال مالك : إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج ، وإن لم يكن له زاد ، وراحلة إذا كان يقدر على التكسب ، وبه قال عبد الله بن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة . وقال الضحاك : إن كان شاباً قوياً صحيحاً ، وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة ، بحيث يأمن الحاج على نفسه ، وماله الذي لا يجد زاداً غيره ، أما لو كانت غير آمنة ، فلا استطاعة ؛ لأن الله سبحانه يقول : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وهذا الخائف على نفسه ، أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك ، ولا شبهة . وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج . فقال الشافعي : لا يعطى حبة ، ويسقط عنه فرض الحج ووافقه جماعة ، وخالفه آخرون . والظاهر أن من تمكن من الزاد ، والراحلة ، وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ، ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج ، ولا ينقص من زاده ، ولا يجحف به ، فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه ؛ لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال ، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة ، فلو وجد الرجل زاداً ، وراحلة ، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج ؛ لأنه لم يستطع إليه سبيلاً ، وهذا لا بد منه ، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد ، والراحلة ، فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد ، والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون ، ولعل وجه قول الشافعي : إنه سقط الحج ، أن أخذ هذا المكس منكر ، فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر ، وأنه بذلك غير مستطيع .
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب ، فلو كان زمِناً بحيث لا يقدر على المشي ، ولا على الركوب فهذا ، وإن وجد الزاد ، والراحلة ، فهو لم يستطع السبيل .
قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } قيل : إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج ؛ تأكيداً لوجوبه ، وتشديداً على تاركه ، وقيل : المعنى : ومن كفر بفرض الحج ، ولم يره واجباً ، وقيل : إن من ترك الحج ، وهو قادر عليه ، فهو كافر . وفي قوله : { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة ، وخذلانه ، وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ، ويرجف له قلبه ، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ، ومصلحتهم ، وهو : تعالى شأنه ، وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.