فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

والآيات البينات الواضحات : منها الصفا ، والمروة ، ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء ، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن ، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها انحراف الطيور ، عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان ، ومنها هلاك من يقصده من الجبابرة ، وغير ذلك . وقوله : { مقَام إبراهيم } بدل من آيات قاله محمد بن يزيد المبرد . وقال في الكشاف : إنه عطف بيان . وقال الأخفش : إنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير منها مقام إبراهيم ؛ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي : هي مقام إبراهيم ، وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات ، وهي : جمع بالمقام ، وهو : فرد ، وأجاب بأن المقام جعل ، وحده بمنزلة آيات لقوّة شأنه ، أو بأنه مشتمل على آيات ، قال : ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نوع من الجمع .

قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } جملة مستأنفة لبيان حكم من أحكام الحرم ، وهو : أن من دخله كان آمناً ، وبه استدل من قال : إن من لجأ إلى الحرم ، وقد وجب عليه حدّ من الحدود ، فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ، ومن تابعه ، وخالفه الجمهور ، فقالوا : تقام عليه الحدود في الحرم .

وقد قال جماعة : إن الآية خبر في معنى الأمر ، أي : ومن دخله ، فأمنوه كقوله : { فلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا .

قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } اللام في قوله : { لِلَّهِ } هي التي يقال لها : لام الإيجاب ، والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف «على » فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب ، كما إذا قال القائل لفلان عليّ كذا ، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته ، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي ، والعبد . وقوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس . وبه قال أكثر النحويين . وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج . والتقدير : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، وقيل : إن «من » حرف شرط ، والجزاء محذوف ، أي : من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج .

وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي ؟ فقيل الزاد ، والراحلة ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، وحكاه الترمذي ، عن أكثر أهل العلم ، وهو : الحق . قال مالك : إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج ، وإن لم يكن له زاد ، وراحلة إذا كان يقدر على التكسب ، وبه قال عبد الله بن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة . وقال الضحاك : إن كان شاباً قوياً صحيحاً ، وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة ، بحيث يأمن الحاج على نفسه ، وماله الذي لا يجد زاداً غيره ، أما لو كانت غير آمنة ، فلا استطاعة ؛ لأن الله سبحانه يقول : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وهذا الخائف على نفسه ، أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك ، ولا شبهة . وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج . فقال الشافعي : لا يعطى حبة ، ويسقط عنه فرض الحج ووافقه جماعة ، وخالفه آخرون . والظاهر أن من تمكن من الزاد ، والراحلة ، وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ، ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج ، ولا ينقص من زاده ، ولا يجحف به ، فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه ؛ لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال ، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة ، فلو وجد الرجل زاداً ، وراحلة ، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج ؛ لأنه لم يستطع إليه سبيلاً ، وهذا لا بد منه ، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد ، والراحلة ، فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد ، والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون ، ولعل وجه قول الشافعي : إنه سقط الحج ، أن أخذ هذا المكس منكر ، فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر ، وأنه بذلك غير مستطيع .

ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب ، فلو كان زمِناً بحيث لا يقدر على المشي ، ولا على الركوب فهذا ، وإن وجد الزاد ، والراحلة ، فهو لم يستطع السبيل .

قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } قيل : إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج ؛ تأكيداً لوجوبه ، وتشديداً على تاركه ، وقيل : المعنى : ومن كفر بفرض الحج ، ولم يره واجباً ، وقيل : إن من ترك الحج ، وهو قادر عليه ، فهو كافر . وفي قوله : { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة ، وخذلانه ، وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ، ويرجف له قلبه ، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ، ومصلحتهم ، وهو : تعالى شأنه ، وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع .

/خ97