محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

97

( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين97 ) .

( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت . قال ابن كثير وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق ، بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده ، حيث قال : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية الترغيب / في زيارة البعض الحرام وفعل الطاعات فيه ، لأنه تعالى وصفه بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات .

لطيفة :

مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره ، أي منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : ( ان إبراهيم كان أمة قانتا ) . أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة . قالوا : فان كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء ، وغوصه فيها إلى الكعبين وإلانة بعض الصخور دون بعض ، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام ، وحفظه ، مع كثرة الأعداء ، ألوف سنة ، آية مستقلة . ويؤيده قراءة ( آية بينة ) على التوحيد ، وإما بما يفهم من قوله عز وجل :

( ومن دخله كان آمنا ) فانه وان كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية ، لكنها في قوة ان يقال " وأمن من دخله " فتكون ، بحسب المعنى والمآل ، معطوفة على مقام إبراهيم ، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفي بذلك ، أو يحمل على انه ذكر من تلك الآيات اثنتان وطوي ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها –أفاده أبو السعود- قال المهايمي : ( فيه آيات بينات ) رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت ميزابه ، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر ، ومن أعظمها . النازل منزلة الكل ، مقام إبراهيم ، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت ، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء ، ثم لين ، فغرقت فيه قدماه ، كأنهما في طين ، فبقي أثره إلى يوم القيامة . ومن آياته أن من دخله كان آمنا من نهب العرب وقتالهم ، وقد امن صيده وأشجاره ا ه . / قال أبو السعود : ومعنى أمن داخله : أمنه من التعرض له كما قوله تعالى : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام : ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) ، وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر رضي الله عنه : " لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج عنه " ا ه .

تنبيه :

ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعي الذي وردت به الآيات ، وأوضحته الأحاديث والآثار . ففي ( الصحيحين ) ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " . وقال يوم فتح مكة : " ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته ، إلا من عرفها ، ولا يختلي خلاها . فقال العباس : يا رسول الله إلا الاذخر فانه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : إلا الاذخر " . ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ، / ولهما ، واللفظ لمسلم أيضا ، عن أبي شريح العدوي " أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة ، ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلم به ، انه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : ان مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فان أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له : ان الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب . فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : أنا اعلم بذلك منك يا أبا شريح . ان الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ، ولا فارا بخربة " . ( لأي بسبب السرقة . )

قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها ، لكونها حرما ، كما ان تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع :

أحدهما :

وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله ، أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل لاسيما ان كان لها تأويل . كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير . فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع ، وإنما خالف / في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال : ان الحرم لا يعيذ عاصيا ، فيقال له : هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعد مقيس بن صبابة وابن خطل ومن سمي معهما لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما بل حلا ، فلما انقصت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها ، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم التي صار بها حرما . ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : فان أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : ان الله أذن لرسوله ولم يأذن لك ، وعلى هذا فمن أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه " . وذكر عن عبد الله بن عمر انه قال : " لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته " . وعن ابن عباس أنه قال : " لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه " ، وهذا قول الجمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه . واليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق ، والامام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث . وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم كما يستوفى منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبما يروى / عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ان الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة " ، وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته ، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين ، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه ، كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم " . فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة –وهي فسقهن- ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل . قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) وهذا إما إخبار بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف / الناس من حولهم ) . وقوله تعالى : ( وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ، أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ) .

وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : من دخله كان آمنا من النار ، وقول بعضهم : كان آمنا من الموت على غير الإسلام ، ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها شروطه وعدم موانعه ، فان اللفظ لا يدل عليها بوضعه ، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل ان توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام ، فلا يقول محصل ان قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) . مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه ، والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وان قلتم ليس ذلك تخصيصا بل تقييدا لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع / سواء بسواء . وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، وان النبي صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " ، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالا في كل وقت ، لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة . وأما قوله : الحرم لا يعيذ عاصيا ، فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث ، كما جاء مبينا في ( الصحيح ) ، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه ، لأن حرمة النفس أعظم ، والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده . وظاهر هذا المذهب انه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على ان كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه ان كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وان لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين . قالوا : وأما قولكم ان الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما . فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : " من سرق أو قتل في الحل ثم دخل الحرم فانه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد . وان سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم " . وذكر الأثرم عن / ابن عباس أيضا : " من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فان قاتلوكم فاقتلوهم ) " . والفرق بين اللاجئ والمهتك فيه من وجوه :

أحدهما :

أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فانه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .

الثاني :

أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فانه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرا .

الثالث :

أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بينه وحرمه فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .

الرابع :

أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله ، فان أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .

والخامس :

أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستارها ، فلا يناسب حاله ولا بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المتقدم على انتهاك حرمته .

فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه . وأما قولكم انه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس ، فان الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله . وإما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته / عظيمة ، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فان الحرم يعصمها ، وأيضا فان حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها –انتهى . ( من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180 ) .

ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه أردفه بذكر ايجاب الحج فقال : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) اللام في البيت للعهد . وحجه : قصده للزيارة بالنسك المعروف . وكسر الحاء وفتحها لغتان ، وهما قراءتان سبعيتان ، وفي الآية مباحث :

الأول :

في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية : جملة من مبتدأ هو ( حج البيت ) وخبر هو ( لله ) وقوله تعالى : ( على الناس ) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ذلك الاستقرار ، ويجوز أن يكون ( على الناس ) هو الخبر ، و ( لله ) متعلق بما تعلق به الخبر . ثم قال في قوله تعالى : ( من استطاع إليه سبيلا ) في محل الخبر إلى أنه بدل من ( الناس ) بدل البعض من الكل مخصص لعمومه ، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف ، أي ( من استطاع منهم ) ، وقيل بدل الكل على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع ، فلا حاجة إلى الضمير ، وقيل في محل الرفع على انه خبر مبتدأ مضمر ، أي هم من استطاع ، وقيل في حيز النصب بتقدير أعني .

الثاني :

هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور ، وقيل بل هي قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) ، والأول أظهر . وفي ( فتح البيان ) : اللام في قوله ( لله ) هي التي يقال لها / لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف ( على ) فانه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب ، كما إذا قال القائل : لفلان علي كذا . فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه ، وتعظيما لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا .

الثالث :

يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة . بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس انه فرض الله عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم . ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " . وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي ابن عباس قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس ! ان الله كتب عليكم الحج . فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوع " .

/ الرابع :

استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : ( من استطاع إليه سبيلا ) فقالت طائفة : الآية على العموم/ إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة ، الحج . على ظاهر الآية . قال : وروينا عن عكرمة انه قال : الاستطاعة الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان ليتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوا ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على اطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد واحمد بن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر " أن رجلا قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة " –رواه الترمذي- وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل : ( من استطاع إليه سبيلا ) . فقيل : ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة " ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .

الخامس :

قال الإمام ابن القيم الدمشقي رضي الله عنه في ( زاد المعاد ) في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ / وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : " حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عمرة " . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال : وسألت محمدا ( يعني البخاري- عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري . وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظا . ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير ، فان فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر . وأما قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) ، فإنها ، وان نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فان قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة . ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع . وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم . وقوله تعالى :

( ومن كفر فان الله غني على العالمين ) إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى ، لا تعلق له بما قبله ، وإما أنه متعلق ومنتظم معه ، وهو أظهر وأبلغ . والكفر ، على هذا ، إما بمعنى جحد فريضة الحج ، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به . ونظيره في السنة ما رواه / النسائي والترمذي عن بريدة مرفوعا : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " . وعن عبد الله بن شقيق قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " –أخرجه الترمذي- ولأبي داود عن جابر مرفوعا : " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " . ولفظ مسلم : " بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة " . وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) " . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وقد روى الحافظ أبو بكر الاسماعيلي عن عمر بن الخطاب قال : " من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا " . قال ابن كثير : إسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه . وروى سعيد بن منصور في ( سنن ) عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار ، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين " . قال السيوطي في ( الإكليل ) : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج ، وان لم ينكره ، كفر . ثم قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر : " من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج ، كان سيماه بين عينيه كافر ، ثم تلا هذه الآية " .

/ تنبيه :

هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، فمنها الاتيان ب ( اللام وعلى ) في قوله : ( ولله على الناس حج البيت ) . يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر ( الناس ) ثم أبدل عنه ( من استطاع إليه سبيلا ) ، وفيه ضربان من التأكيد :

أحدهما– أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .

والثاني- أن الإيضاح بعد الإبهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين .

ومنها قوله ( ومن كفر ) مكان ( من لم يحج ) تغليظا على تارك الحج . ومنها ذكر الاستغناء عنه . وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان . ومنها قوله : ( عن العالمين ) ، ولم يقل : عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه –أشار لذلك الزمخشري-