{ مَّقَامِ إبراهيم } عطف بيان لقوله : { ءايات بينات فاسأل } .
فإن قلت : كيف صح بيان الجماعة بالواحد ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد ، كقوله تعالى : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] والثاني : اشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية . ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما . دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، وكثير سواهما . ونحوه في طيِّ الذكر قول جرير :
كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمو*** مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
ومنه قوله عليه السلام : " حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة " وقرأ ابن عباس وأبيّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة : «آية بينة » ، على التوحيد . وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان .
فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات ؟ وقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية ؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى ، لأن قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } دلّ على أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات : مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى قولك : فيه آية بينة ، أمن من دخله .
فإن قلت : كيف كان سبب هذا الأثر ؟ قلت : فيه قولان : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه . وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى يغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه . ومعنى { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } معنى قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا } [ البقرة : 126 ] وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر رضي الله عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه » وعند أبي حنيفة : من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج . وقيل : آمنا من النار . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا " وعنه عليه الصلاة والسلام " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة " وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود . وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة ، فقال «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر ، يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار ، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " { مَنِ استطاع } بدل من الناس . وروي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء . وعن ابن الزبير : هو على قدر القوّة . ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه . وعنه : ذلك على قدر الطاقة ، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة ، وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع . وقيل له في ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبواً فكذلك يجب عليه الحج . والضمير في { إِلَيْهِ } للبيت أو للحج . وكلُّ مأتيّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد ؛ ومنها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلاً ، وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظاً على تارك الحج ؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً " ونحوه من التغليط " من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر " ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ، ومنها قوله : { عَنِ العالمين } وإن لم يقل عنه ، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه . وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود ، فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب وروى : أنه لما نزل قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال : إن الله كتب عليكم الحج فحجوا » فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه ، فنزل { وَمَن كَفَرَ } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " حجوا قبل أن لا تحجوا ، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة " وروي . «حجوا قبل أن لا تحجوا ، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه » وعن ابن مسعود : حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت . وعن عمر رضي الله عنه : لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا وقرىء «حج البيت » بالكسر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.